الأحد، 14 أكتوبر 2018

نصف الحب


إهداء إلي...
الكاتبة الصحفية لمياء يسري...
قد لا تكون أجود ما كتبت,لكنها ستظل دوماً مدينة لها بوجودها...ربما أكثر مني.
ذكري كلمات مخلصة أذابت اليأس,وخلقت حماسة ظننتها تاهت في زحام الحياة.

نصف الحب

من فرجة الباب الموارب تبدي له قوامها المشدود بارز الانحناءات,وهي تتجلد في حمل جدها لكرسيه المدولب,تنحنح ودق عالباب,دخل لمساعدتها ووجيب قلبه يعلو باطراد حتي خيل له أن الشارع كله سيسمعه بعد قليل,بيدين ثابتتين وقلب رفراف أمسك العجوز ووضعه حيث أرادت,وتأمل فيه للحظات ولدت في خاطره آلاف الأفكار...هكذا يكون الواحد منا في أرذل العمر,جيفة تتحلل وهو فوق الأرض,تائه وسط ضجيج الحياة,وتخيل نفسه يعيش حتي التعسين وتمني ألا يصلها,بل يموت خفيفاً كما جاءت ولادته بدون شعور كما تحكي أمه,يود أن يموت هكذا بلا ألم ولا معاناة وهو واقف علي قدميه,لا يحتاج لمخلوق.
-تعبتك معي يا عادل!
-تعبك راحة يا شوشو...نحن جيران وأسرة و...
لغة العيون بينهما تغنيه عن أي قول,تعرف شروق جيداً كم يتوله بها حباً,ويعرف إلي أي حد تتمناه,هناك حجاب ملغز كحجاب رأسها الذي لا يفهم سببه,فاتحها أكثر من مرة في خلعه,فوجدها مرحبة:
-بحثت كثيراً ولم أجد له أصل إلا أصول تجارة الدين,وتصنيف الشعب ,وهجمات الجماعات المتطرفة وفرض سطوتها...لكن في بلدتنا لا يوجد رأس فتاة حر!ماذا سيقول الناس؟!
-كل الرؤوس مكبلة,والألسنة طليقة تهرف بكل الهراء المقدس في ذات الرؤوس.
هل هو الحب أم نصف الحب؟الماديات في يديه سهلة وشروق قلبها مفتوح والطريق ممهد,لكن ما بال القرار متردد ثقيل علي قلبه,تعرف علي بنات أخريات وشعر معهن بالوحدة,في كل واحدة يبحث عن شروق,كاغترار الإنسان بالصور ملهياً عن الأصل,لم يجد في إحداهن هذه البشرة الصافية والملامح البريئة والابتسامة المحتضنة,الادعاء والتمثيل المفضوح والعيش في عالم أميرات ديزني الوهمي,في منتصف العشرين لكن العقل ابن العاشرة,أكثر ما أحبه في شروق الوضوح تخطئ وتزعق وتداعب بقسوة أحياناً ومرة تجشأت بدون وعي!إنسانة من لحم ودم لا صناعة سينمائية رخيصة,جميلة هي كترعة المحمودية والقمر يطل عليها كأنه ينبعث من قرارها,فاتنة كمحطة القطار الهادئة وقت الأصيل,طبيعية كشارع الصاغة وهو يشغي بشتي خلق الله,أصيلة وحكيمة وعجوزة الروح كدمنهور,أم البدايات والشاهدة علي النهايات.
أخرجا الكرسي من الشقة ونزلا به من الدور الثالث,تشاكست قطتان وجريتا خلف بعضهما,ففزع عادل واستعاد توازنه في اللحظة الأخيرة,ضحكت شروق فاستنارت الدرجات المظلمة علي السلم وفي قلبه:
-حاسب.لا تخف من القطط...لا يوجد حيوان يخيف بقدر البشر.
يقولون أن جدها كان فتوة تهرب من أمامه جدعان صلاح الدين وأبي عبدالله وأبي الريش,يصرخ علي الرجل فيتجمد هلعاً,يحمله بين يديه ويطوح به كلعبة بين يدي طفل.
سلمة,سلمة.دور,دور,هبطا به للشارع حيث تنتظر عربة الإسعاف ليس فيها سوي سائق سمين يدخن سيجارة,حين رآهما فتح الباب صامتاً وركبا معاً في مؤخرة العربة يتوسطهما الفتوة السابق,أخرجت هاتفها وقالت بلهجة تقريرية:
-أيوة يا بابا,سيعود جدي للمستشفي ثانية...اتصل بماما فهي وحدها في المنزل...نعم معي عادل...لا لا يهم فهو يرحب دوماً
وكأنها شعرت بفساد التعبير استدركت:
-هو لا يتأخر عن المساعدة.
توقفت العربة في شارع23يوليو(الأميرة فوقية سابقاً)لا مكان لقدم من الزحام,أحد أهم شوارع دمنهور,روائح الدجاج المشوي مختلط بالفاكهة بعوادم السيارات,وضجيج لا يتوقف من صوت الأقدام السائرة وآلات التنبية وثرثرة النساء مع الباعة وزحام محلات الفول والطعمية والكشري,بين هذا المولد الكبير,ينزوي مقهي المسيري المغلق في انتظار الهدم,كروح مكسورة تشعر بدنو الأجل,مريضة كالفتوة المنتظر منيته,عمرها يماثل عمره,وربما يموتان سوياً,نظر للمقهي وحاول تخيله وقت مجده, ربما عرف في وقت ما عبد المعطي المسيري جد شروق وربما حاسبه علي كوب شاي...أين تذهب الأحداث وكيف يتبخر الزمان؟وبعد ساعات أن سيهرب هذا اليوم؟!
عاد  للحاضر بصوت شروق الناعم:
-هيا
عادا سوياً كل منهما غارق في عالمه الداخلي وعلي باب العمارة توقت قبل أن تصعد واستدارات له بكل جسدها:
-هل ما نحياه حقيقي,سعادتنا وآلامنا وأيامنا المهدورة؟
رفع كتفيه وزم شفته لأسفل
- ما أعلمه أني أصدق في الوجود فقط لأنك فيه.
نظر لجسدها وهو يتمايل حتي غابت عن ناظريه.
في العقود الأخيرة انتقل ثقل المدينة لدمنهور الجديدة, وفي الأعوام السابقة تركز في ما حول النادي الاجتماعي,يسميها الأغنياء الجدد في المدينة"سموحة دمنهور"تيمناً بتجربة جوزيف سموحة في تحويل برك مالحة لحي شهير عند مدخل الأسكندرية,وهم اليوم يحولون مناطق كانت مهجورة ومخيفة وممتلئة بالخارجين عن القانون إلي حي تجتاحه العمائر الباذخة والمحال الفخمة والتوكيلات الشهيرة,ضمن حمي الشراء والبيع والاستهلاك,ومشهد فروع المطاعم العالمية تزدحم بالآكلين والمكتبات لا يملأ فراغها سوي الهواء,و"البراندات"تستقبل علية المجتمع والأطفال حفاة قذرين في الشوارع,جدير بديستوبيا مخيفة,وصراع جديد في نفس موقع حرب حورس مع ست,وبالمثل انتقل مثقفو المدينة بعد غلق مقهي المسيري وهدم مقهي البنا إلي مقاهي دوران الاستاد في ضمن نطاق دمنهور الجديد,أنهي عادل عمله في محل والده في الحادية عشر,بعد انقطاع نفسه وتهدم أعصابه في المجادلة للدفاع عن خمسين أو مائة مع النساء والبنات,طويلي البال ثرثرات اللسان,وهرع نحو أستاذه المثقف العتيد السيد صالح,الجامعة التي تشرب منها الوعي بعد ما جناه عليه نظام التعليم الإجرامي في مصر,علي يدي السيد شعر بالكون وبالإنسانية وعرف هويته المصرية وكره ثقافة الصحراء وغزو قيم البداوة,تعرف علي تاريخ دمنهور قبل توحيد مينا للقطرين إلي ظهور مينا جديد حفظ البلاد من كيد الأعداء بعد سرقة أصحاب اللحي مقدرات البلاد,حور محب يظهر ليواجه ذات التعصب والفاشية الدينية التي قادها المارق المهووس إخناتون,كأن التاريخ يعيد نفسه بأسماء جديدة.
شعر أبيض ينز بالتجارب والخبرات وعيون التهمت الكتب ورأت الأحداث,وجسد نحيل وتجاعيد حفرتها سهاد ليالي الكتابة والدرس,جالس علي كرسي بلاستيكي وحيداً يشرب سيجارة كليوباترا من هاتفه تنبعث موسيقي "غسق الآلهة",وبجواره كتاب عدة كتاب لأدباء شباب لا يعرف أحد كيف يلتقطهم وسط مهرجان الكتابة للجميع,سارحاً مع فاجنر في دنيا  الخيال,لم يشعر صالح به حتي انتهت السيمفونية,نظر له بعينين طفوليتين لا تفارقهما الدهشة:
-ماهذا...متي جلست؟
اعتدل علي  كرسيه وعزم عليه بسيجارة:
-منذ جنازة سيجفريد,رحمه الله
ضحكا في مودة,انزاح  فيها فارق ثلاثين عاماً فبديا صديقان منذ الطفولة,لوحة عظيمة من لوحات الصداقة المتحررة من أي شرط,لو كان رزقه الله بابن ما أحبه كحبه لعادل.
-ما آخر الأخبار مع ذات العيون الخضر؟
-صحيفة القلب غائمة.
-بل عيناك كليلتان.
-بي رغبة لكن كلاب الخوف نابحة!
انحني رأسه  علي صدره في تسليم:
-أخشي الفشل.
أطفأ سيجارته وتنهد:
-وأنا أخشي عليك الحرمان وغدر الزمان,لاتغتر بشبابك فهي تمر كالسحاب,أما الشيخوخة فستغدو كجبل جاثم علي صدرك.
ثم أحاط  كتفه بذراعيه في أبوة:
-لا تسمح للزمان بسرقتك مثلي...منذ ماتت سميرة بعد عامنا الأول كزوجين,فجأة وجدت نفسي هنا وحدي...
مر شحاذ فصرفاه في حسم,أشار نحوه السيد:
-تجارة رابحة,هذا الرجل  يملك شقتين!
بعد يومين عادا للمستشفي وفي نفس العربة رجعا مع الجد للمنزل, في منتصف الطريق,طبطبت شروق علي جدها في حنان فياض,وضع عادل يده عليها,تشربت يداه يداها,وهمس في رقة:
-لتزرع  هاتان  اليدان في حياتي أول شجرة بستان السعادة.
في خجل ينضح بالأنوثة تجنبت النظر له ورنت بعينيها نحو النافذة,والسيارة  تنعطف علي أول الشارع.
في القصة القصيرة فاز ميشيل حنا عن قصة "التلاشي" المركز الأول (مناصفة) قيمة الجائزة 750 جنيها، ومحمد متولي محمود العبادي عن قصة " دعونا نتحدث عن سيمين" المركز الأول (مناصفة) قيمة الجائزة 750 جنيها، وعمرو محمد مجدي البيومي عن قصة "إشارة إلهية" المركز الثاني (مناصفة) قيمة الجائزة 500 جنيه، وأحمد ثروت الجابري عن قصة "التروسيكل" المركز الثاني (مناصفة) قيمة الجائزة 500 جنيه، ومحمود قدري عن قصة "نصف الحب" المركز الثالث قيمة الجائزة 500 جنيه
http://gate.ahram.org.eg/News/2022277.aspx