الأربعاء، 25 نوفمبر 2020

حلم الحب والحياة

 

في مدينة فيسبادن الألمانية عام 1865قبع دوستويفسكي أحد نجباء البشر علي مر العصور"في الصقيع والفراغ"بعد وفاة أخيه ميشيل وزوجته ماريا,وتوقف مجلته"الزمن"عن الصدور,وقد حاوطته الديون حتي اضطر لقبول عرض ناشر محتال أن يشتري منه مقابل ثلاثة آلاف روبل حق طباعة أعماله السابقة,بالإضافة إلي رواية جديدة لم تنشر من قبل,وإذا لم يقدم الكاتب مخطوط روايته قبل نوفمبر من عام1866يفقد جميع حقوقه,فتصبح ملكاً للناشر وحده.

قبض دوستويفسكي المال وسدد ديونه وهاهو في أحد فنادق ألمانيا يعاني الجوع بعدما خسر بقية المال في القمار,وفي هذه الحالة من البؤس والتردي لا تنفك العبقرية الروسية الخالدة عن الإبداع والخلق,فيتراءي له شبح الطالب الفقير الذي يخطط لقتل المرابية العجوز,يمر دوستويفسكي من أزمته كما مر من غيرها من قبل في حياته المضطربة,ويقدم للناشر رواية المقامر في الموعد,وبعدها تظهر أول تحفه الخالدة"الجريمة والعقاب"ويصبح الطالب الروسي الفقير هو"روديون رومانوفيتش راسكولنيكوف" ولقبه  مشتق من كلمة روسية"المنشق"أحد أشهر الشخصيات الأدبية في التاريخ مدعاة للشفقة والتعاطف.

يصور دوستويفسكي الحياة الروسية في عصره بإحساس صادق يصل بها إلي العالمية,فيهتز لشخصياته القراء من الشرق والغرب,يجمعهم الحس الإنساني الصادر من قلب نبي الرواية الروسية وعلي مدار حوالي 900صفحة يظل راسكولنيكوف ورصونيا الهائمان في شوارع بطرسبرج حيين يتنفسان في كل مرة يقرأ فيها إنسان رواية الجريمة والعقاب,ومع كل صفحة في الترجمة العربية التي أنجزها سامي الدروبي لأعمال دوستويفسكي الكاملة,نتخبط في الحانات والبيوت الفقيرة,ومركز الشرطة المزدحم,ونري الوجوه المحرومة المظلومة والوجوه الريانة الظالمة,نشعر باللهب المتقد في قلب دوستويفسكي وبطله راسكولنيكوف,نعيش معه مأساة سقوطه المدوي من رجل يري نفسه من سلالة العظماء القادرين علي تخطي القانون والقيام بالجرائم في سبيل غاية أسمي لتحقيق إنجازات تفوق طبيعة البشر العاديين.

يسرد دوستويفسكي قصة المفكر المنبوذ المعتزل للعالم في برج أفكاره الشاهق,وفيه يقسم الناس إلي فئتين:

العاديين:وهم سواد البشر الذين لا ينظرون إلي أبعد من يومهم ومصالحهم التافهة.

الخارقين:من أمثال نابليون ونيوتن,وقد كان عهد الغزو النابليوني لروسيا ليس ببعيد,وفي نفس عام نشر الرواية كانت ملحمة الحرب والسلام لتولستوي حول الغزو الفرنسي للأراضي الروسية بدأت في الظهور للقراء.

ومع قصة القاتل المثقف وأسرته تتشابك قصة العاهرة الفقيرة وأبيها السكير,وزوجة أبيها التي هوت مع أطفالها من طبقة ارستقراطية لتستقر في قاع المجتمع تعاني الفقر والمرض,من نسيج قوامه قاتل وعاهرة يرتحل دوستويفسكي في رحلة شبيهة بصعود دانتي مع فرجيل نحو السماوات,لكن دوستويفسكي يهبط إلي النفس الإنسانية ليري جحيمها الخاص المتمثل في المعاناة والألم والعذاب,هو أديب العذاب الإنساني الخالد علي مر العصور150عاما تقريباً مرت علي صدور روايته ولم تتزعزع قيمتها البتة بل يزداد الاعتراف بقيمته كأفضل من فهم النفس الإنسانية علي الإطلاق,تأثر به فرويد مؤسس علم النفس الحديث وكذلك نيتشه في نظريته حول فلسفة القوة,وأعجب به أينشتاين ووجد في أدبه ما يعجز العلماء عن الوصول إليه.

دوستويفسكي هو المؤسس لفلسفة الألم والعذاب في الفن الروائي,كل إنسان عنده سواء أخطأ أو لم يخطئ عليه أن يسير في طريق التكفير والعذاب كما سار المسيح حاملاً صليبه ليعاني فداء للبشرية,طريق الحرمان والأسي,تتفتح موهبة دوستويفسكي التي أدركها النقاد منذ عمله "الفقراء"في الأجواء القاتمة والكئيبة,يقولون أنه عبقرية مريضة والأصح وصفه بالعبقرية المضيئة التي أتاحت للبشر اكتشاف دواخلهم المظلمة,الممزقة في الصراع بين الخير والشر.

خبرة دوستويفسكي الحياتية شحنته بمفاهيم إنسانية خالدة,وأتاحت له دراسة نماذج بشرية استخلص منها صورة صادقة للبؤس الإنساني,يرسم لنا شحوب الروح وتأجج المشاعر وقلة الحيلة أمام أقار فرضت من عل رغم كل وسائل المقاومة التافهة التي يستميت عليها القلب الإنساني,لكنه في النهاية لا يسير في الطريق الذي حلم به وتمناه,بل يساق قهراً ودون شفقة إلي واقعه المفروض علي,في حالة راسكولنيكوف السجن والغربة والمنفي في سيبيريا تتبعه صونيا المتحولة من عاهرة تبيع جسدها من أجل الطعام,إلي قديسة وأماً للسجناء والمحرومين وسر الحياة النابض في قلب راسكولنيكوف,بعدما اعترف بجريمته وأصبح منفياً مسلوب الحرية والإرادة,لكن شئ واحداً لا يمكن للمجتمع ولا القانون ولا السلطة ولا أي قوة علي ظهر الأرض أن يسلبخا منه,الحق في الحب والامتنان والوقوف أمام الفواجع بقلب اغتسل بالدموع وتألق من جديد لينظر إلي الغد وإن طال انتظاره وتتحول سبع سنوات هي العقوبة المتبقية من مدته التي تبلغ ثمان سنوات إلي كابوس عابر سرعان ما يأتي بعده الحلم الجميل للحب والحياة.