الجمعة، 25 سبتمبر 2020

العلاّمة والأندلسي

 

العلاّمة والأندلسي

1-العلاَمة

العلاقة بين الفن االروائي المتخيل,والتراث العربي المدون في كتبنا القديمة,تثير الشك وتجبرنا علي إعادة تمثل الشخصيات والأحداث بعيون جديدة,فكل روائي يقبض علي جزء معين,ويحكي من منظوره الفريد,فالتراث هو المنبع الفياض الذي نسعي له لا لتقليده أو لوضع الحافر علي الحافر كما يقول المثل,بل للاستفادة والكشف كما فعلت أوروبا إبان نهضتها الناشئة في إيطاليا,ألم يكن دانتي ودافنشي بترارك وغيرهما الكثير نباشين في تراث اليوناني ومسافرين عبر الزمن للتاريخ والتراث,كي يعودوا لبلدانهم بالآلئ التي بنت عليها أوروبا نهضتها؟نحن نريد إعادة اكتشاف للتراث مغلفة بإطار اللحظة الحاضرة,التي لللأسف الشديد تعاني من نفس المشكلات والأزمات التي ظل العرب يعانون منها منذ قرون خلت بعظمتها وسفاهتها,وعند الحديث عن الآداب واللغة فكلنا عرب نتحدث نفس اللسان ونفهم عن بعضنا ذات الكلمات,المشرق كالمغرب والجنوب كالشمال,وفي المغرب العربي يقبع روائي له باع وقدرة علي الحفر في الشخصيات التاريخية ليستخرج سرها المكنون ويسرد طبيعة عصرها وحياتها الداخلية المتناقضة مع عالمها الخارجي المضطرب,كتب لنا"العلامة"عن سيرة عبد الرحمن ابن خلدون,"هذا الأندلسي"عن الفيلسوف الصوفي ابن سبعين,وسبقهما بـ"مجنون الحكم"عن الحاكم بأمر الله...الأديب بنسالم حميش الذي ارتحل إلي الماضي في رواياته الثلاث وعاد إلينا وقد كبش ملأ قلمه معاني وتجليات شخصيات عربية أثرت في الثقافة والتاريخ.

في "العلامة" يتجسد ابن خلدون الذي سكت التاريخ عن الكثير من مراحل حياته ولم يفصلها بالقدر الكافي,وبل ولم يفصح عن نفسه عندما قام بالتعريف بنفسه ورحلته التي خاض فيها غمار ما يعرف اليوم بالسيرة الذاتية ولم تكن شائعة وقتئذ بين العلماء والفلاسفة,فقد كان شاغله هو العالم من حوله والاضطرابات التي تقع للدول والأمم كشاهد عليها ومشاركاً فيها,ابن خلدون كما صوره بنسالم حميش عجوز يعرف الحب من جديد علي يد أم البنين بعد أن فقد زوجته وأولاده غرقاً في البحر,وأم البنين هذه هي أرملة كاتبه حمو الحيحي وكليهما لا وجود لهما في سيرة ابن خلدون,لكن الفن يكشف لنا الحقيقة عندما يصوغ من الخيال إيقاعاً نسمع به لنبض التاريخ,ومعرفة ابن خلدون بالحيحي هي أول باب نطل منه علي شخصيته,فهو"العالم الأعظم والقاضي الأعدل"كما يصفه عندما يزوره ليقضي في مشكلة مع امرأته,وهي مشكلة غريبة نوعاً,فهذا الرجل الحيحي عمره أربعين عاماً مهاجراً إلي مصر من مدينة فاس منذ عامين مع زوجته أم البنين,وهي تتسمي أم البنين مع انها لم تنجب حتي هذه اللحظة"زوجتي تريدني في التنزه معها علي ضفاف النيل والساحات جنباً إلي جنب.أما أنا فيعسر عليّ طلبها يا سيدي ولا تطيقه قامتي,هذا فضلاً عن أن الدين لا يحبذ ذلك,ولا أظنه يتوعد رجلاً يأبي المشي مع زوجة تعلوه بذراعين.

يريد الحيحي أن يفاي القاضي في حكم امرأة تبغي التنزه مع زوجها القصير ترويحاً عن نفسها وتفريجاً عن وحدتها علي مذهب الإمام مالك,يحل ابن خلدون المشكلة بأن يوصي بها خادمه شعبان الذي تجاوز السبعين ليحميها من المعاكسات الخليعة,مقابل أن يصبح الزوج كاتبه الذي يملي عليه,ويجعل بنسالم حميش في روايته التراث ناقداً للتراث!

"هل يتسع عقلك يا حمو,أو حسك الطبيعي,لتصديق نزول الإسكندر في صندوق زجاجي إلي قعر البحر,وذلك بغية تصوير الدواب الشيطانية,التي تمنعه من تشييد مدينته,ثم وضع تماثيل لها تناط بها مهمة تخويفهما وتطريدهما؟"

تلك السمة الحقيقية التي يجب أن تميز أي عمل بحثي أو أدبي يشتبك مع التراث,تطويع الكلام للعقل والمحسوسات المنطقية,فإذا انفلتت الحكاية المسرودة عن نطاق الذهن وطبائع الأمور,لابد من ازاحتها عن بؤرة الوعي والتركيز واعتبارها مجرد طرفة أو زيادة من الكتبة,لحساب نصوص أخري تعلي من القيم العقلية والأخلاقية والعلمية,وليست حكايات ابن بطوطة الفنتازية التي ينقدها ابن خلدون هي ما تقوم عليه الذهنية المنطقية المندفعة نحو المعرفة والفهم الصحيح,بل هي نصوص أعلام الثقافة العربية أمثال البيروني وابن سينا وابن الهيثم وغيرهم عشرات الأسماء التي استفاد منها الغرب,بينما نحن نتعارك حول أسماء أخري أطلقت آراء جدلية ما تزال الدماء والحروب تسيل من عباراتها حتي اليوم,إننا لو كنا عشنا مع تراث ابن عربي والجاحظ وابن الطفيل والشيرازي وغيرهم من منارات الحكمة العربية ربع ما عشناه مع أسماء أخري التجأت للنقل وتنكرت لعقل وجنحت نحو التطرف لكان للعرب اليوم حياة أخري خالية من كل ما يحيط بهم من كوراث قضت علي شخصيتهم وهويتهم.

لكن للمثقف رأي آخر سواء المثقف القديم-المتجدد دوماً- ابن خلدون أو المعاصر بنسالم حميش!إنهم يغوصون إلي ما وراء النص ويوازنون بين المعقول واللامعقول,يعرفون جيداً الفارق بين الوهمي الضار والمنطقي المفيد وطبعاً ليس من كمال بشري أبداً, إن ابن خلدون يتعرض لسهام النقد الشديد لآراء في المسألة الصوفية التي أراد أن يحرق كتبها,وفي الديانات التي كانت تتعايش مع المسلمين لكن هذا شأنه شأن أي مشروع معرفي ضخم كالذي تبناه ابن خلدون,والمعلم الأول أرسطو وقع من قبل في أخطاء جسيمة,لكن في النهاية لا يعيب الإنسان الخطأ لكونه العماد الأساسي لأي تجربة إنسانية أو معرفية.

عند وفاة كاتبه يفيض قلب ابن خلدون بحبه لأرملته المبتلاة بالحرمان من الإنجاب,وبشقيق مخنث يثير المشكلات,وقد عاب عليه خصومه أنه كان"يتبسط بالسكن علي البحر ويكثر من سماع المطربات ومعاشرة الأحداث,وتزوج من امرأة لها أخ أمرد ينسب للتخليط...وأنه كان يكثر الازدراء بالناس,وأنه حسن العشرة إذا كان معزولاً فقط,فإذا ولي المنصب غلب عليه الجفاء والنزق,فلا يُعامل بل ينبغي ألا يُري".

وكأن مسلسل اضطهاد النوابغ في الثقافة العربية يعاد مع كل جيل,يسرد حميش الاضطهادات التي تعرض لها ابن خلدون من حبس وعزل من المناصب والجفاء الذي كان يلاقيه من السلطان المراهق فرج بن برقوق وهو"العلامة"كما سمي عن حق,وتظل واقعة لقاؤه بتيمور لنك أحرج موقف عرضه لسهام النقد حتي اليوم وصلت لاتهامه بالخيانة!

-العالم والحاكم

في الفصل المعنون"الرحلة إلي تيمور الأعرج,جائحة القرن"يبتدئ بابن خلدون يداعب طفلته من أم البنين التي أنجبها بعد فراق الأهل بالموت وأنجبتها بعد حرمان طويل من الأمومة,خيط أخير يربطهما بالحياة السعيدة المبنية علي آمال في مستقبل أسعد من الماي الأليم,يلعبان"الدغدغة ولعبة الحصان,وذات مرة وهو يهيئ ركوبها فوق ظهره,أدرك بوعي حاد أن أفدح مصيبة يمكن أن تنزل به هو أن تتعرض ابنته أو زوجته لشر ما"ولم يجد إلا الشر الأعظم المتجسد في تهديد تيمور لنك قائد التتار,عبقري التخطيط والاستراتيجية وعديم الرحمة والإنسانية,أحد دهاة الحرب والسياسية في التاريخ,الرجل الذي قاد جماعات التتار المتفرقة ليصنع منها جيشاً أرعب العالم,و أطار النوم من عين السلطان برقوق"برقوق لم يعد يستحق لقبه العروف,لما أصاب عينيه من انطفاء وغور وراء حاجبين كثيفين ولحية شاردة مهملة.علامات الشيخوخة المبكرة,البادية علي أطراف جسده الأخري.تشير للعارفين إلي تمكن الهم المغولي من دماغه وجوارحه,حتي بات هذا الهم يعبث بخلوده إلي الراحة أو النوم,ويبث في لياليه وساوس الأرق والسهاد"

لقد كان تيمور مرعباً بحق,إنه الجندي الذي قضي معظم حياته علي صهوة جواده يصول ويجول مواجهاً أحلك الظروف وأصعب الأيام,الجرئ الشرس القادر علي تدمير بلدان كاملة في وقت قياسي بجيوشه الجرارة وتشكيل أهرامات من الجماجم,الرجل الذي تملقه أمراء أوروبا خوفاً,وانهزمت أمامه قوات الترك بقيادة بايزيد,ونجح فيما أخفق فيه نابليون وهتلر,عندما تمكن من اختراق الجليد وغزو روسيا بخطة محكمة وتدابير عسكرية دقيقة,وجاء أجله أثناء مسيرته لتحطيم ور الصين العظيم والنفاذ إلي بلاد الصين الشاسعة!

هذه هي الشخصية التي قابلها ابن خلدون في دمشق,الاثنان من نوابغ عصرهما كل في مجاله,ابن خلدون مفكر جم المعرفة عزير العلم والدراية وتيور قائد من طراز نادر قلبه لم يعرف الرحمة لكنه يضطرم بالشجاعة والإقدام,لم يرتجف لأي قوة علي سطح الأرض.

اشتبك الجيش المصري مع الجيش التتري في موقعتين,وقد فكر تيمور لنك في العودة منسحباً,لكن مؤامرة جرت في مصر جعلت السلطان يسرع إليها,تاركاً دمشق عارية من وسائل الدفاع ولأن ابن خلدون خبير في الاجتماع والسياسة سابقاً لمكيافيلي في نظريته البرجماتية,وإن لم يعلنها بوضوح كما أعلنها الإيطالي الذي أراد توحيد بلاده المشتتة تحت حكم أمير واحد,فقد له نصائحه للتعامل مع الشعوب والأمراء,قرأ ابن خلدون الوقائع ووجد أنه من الأجدي محاولة أرواح البشر وصيانة المدينة,فتدلي بحبل من الحصن الدمشقي وسار إلي معسكر تيمور وحادثه عن طريق فقيه من أهل سمرقند يدعي عبد الجبار بن النعمان كان الترجمان بين الحاكم في عرينه والعالم الساعي إليه لعل قبضته تلين علي الدمشقيين.

يناجي ابن خلدون نفسه هامساً في راوية العلامة عندما دخل علي تيمور لنك"هو ذا إذن الكائن العجيب كما تصورته دائماً هو ذا بعينه الخرزاء,وشعره الرطب الكثيف ولحيته الشيطانية,وجبهته المتنطعة فوق أنفه الأفطس.من قسماته وهيئته تبرز حصته الوافرة من عنفوان الطبيعة وعنفها"لقاء بين العقل والسيف,الفكر والدروع,الثقافة والقوة,ولم يكن تيمور لنك عاطلاً عن المعرفة والفهم,فقد قدر ابن خلدون واستفسر منه عن بلاد المغرب"الجواني"كما سماها له ابن خلدون,طمعاً في صرفه عنها بالإشارة لوعورة مسالكها وشدة ساكنيها,لكن تيمور يأمره بكتابة وصف للبلاد ومعالمها,وفي أثناء انهماكه في تأتيه أخبار دك دمشق وإضرام النار في دورها وأسواقها,بعد أن نكث تيمور عهده وقد(ترجم)عنه ابن النعمان قوله لابن خلدون"إنه متألم لما حدث لدمشق وقلعتها من شدائد,وألمه أكبر للحريق الذي نال الجامع الأموي عرضاً.وكيف لا يتألم وهو الذي سجل في مذكراته:"لقد عملت علي الإمساك عن الابتزاز والقهر,لأن هذه الأفعال تحدث المجاعات وشتي الأهوال التي تحصد أجناساً كاملة"؟لكن ما حيلته إذا كانت أوامره إلي جنده بالتلطف واللين لا تطاع دائماً في حقول النهب والبطش"!!!يا لضيعة الكلمة وسط صيحات الحروب ويا لخراب محراب الخير في مواجهة آلات الشر العاتية,لم يستطع ابن خلدون أن يوقف آلة الزحف التترية الجرارة علي دمشق وأهلها.

وكما يموت كل الناس مات ابن خلدون,وقد عاش حياة متفردة,رأي وجرب وعرف وكتب الكثير فأصبح اسمه علماً علي التاريخ والاجتماع,وآليات صعوب وهبوط الأمم وانهيارها.

2-هذا الأندلسي

في رواية"هذا الأندلسي"وعبر 500صفحة ينقل لنا حميش بلسان ابن سبعين وقائع حياته المضطربة,مصوراً رؤاه وخيالاته المشبوبة بالعاطفة والوّله الصوفي العارم,والتصوف طالما كان هدفاً للفقهاء ورجال السياسة لينفوه من نسيج المجتمع,لأن الصوفي الحق لا حكم لأحد عليه,إنما هي الأنوار الشعشانية والمعاني الفلسفية هي ما تحدوه في حياته,لا يسير علي خط محدد سلفاً كما يريد فقهاء السوء,ولا تستميله الدنيا وأبهتها وهو ما يخيف رجال السياسة,فيصبح أمثال ابن سبعين والسهروردي والحلاج بمثابة خطر علي المجتمع من وجهة نظر فقهاء السلطة علي وجه العموم.

ابن خلدون لم يكن راضياً عن المتصوفة فنجده يقول"وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلة,وما يوجد من نسخها بأيدي الناس,مثل الفصوص والفتوحات المكية لابن العربي,وبد العارف لابن السبعين,وخلع النعلين لابن قسي,فالحكم في هذه الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها متي وجدت بالتحريق بالنار,والغسل بالماء,حتي يمحي أثر الكتابة,لما في ذلك من المصلحة العامة في الدين,بمحو العقائد المختلة,فيتعين علي ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعاً للمفسدة العامة,ويتعين علي من كانت عنده التمكين منها للإحراق."

تلك الرؤية التي اعتذر عنها ابن خلدون في رواية العلامة,هي الرأي العام السائد في كل عصر نحو الصوفية وأقطابها,المتصوف غريب مغترب,يقول ولا يهمه شئ يندفع مع الروحات الإلهية والرجوعات السماوية,غير عابئ بمن في الأرض,يقول ولا يراجع نفسه,يطلقها كيفما اتفق,مما يرعب وعاظ السلاطين ويرعب المتكسبين من الدين,فيفتون بقتلهم وتخليص العالم من هرطقتهم!أي شئ في قلب لا يكن للإنسان ذرة كراهية بل يراه فوق الأرض قريباً من السماء يناجي الذات الإلهية يمكن أن يضر؟!لكنها اللغة.اللغة البشرية قاصرة علي إتيان المعاني الجوانية من القلوب المشبوبة بنار المعرفة والشوق,فتسمع الآذان منهم شطحات ينكرها المواطن العادي ويعتقد أنهم أهل إلحاد ومروق,منها العبارة المنسوبة لابن سبعين"لقد حجر ابن آمنة واسعا حيث قال:لا نبي بعدي"وهي الذريعة الأساسية التي هُيج الناس بسببها        ضده,وفي الرواية بن حميش يقول إنها من تصحيف النساخ مرة ومرة يجعلها إحدي خطرات الأحلام,ولا حساب علي الأحلام.

لغة معتقة,لا أريد اقتباس أي شئ منها,لا بد أن تقراً في تسلسل واحد,تقارب الراوي مع الحس الصوفي ومن جبال اللغة العربية الشامخة نحت مقاطع سردية حول المرأة الواقع في هواها ابن سبعين مقاطع في غاية العذوبة والرقةأما أحلامه وتوهماته فقد جاءت كزيارة شبح الأمل السعيد للواقع المحطم والقلب التعيس.

تصادمات عاطفية وسياسية وروحية جعلت من ابن سبعين رجلاً ممن فارقوا الحياة الأرضية وهم فيها وتاهوا في سماوات المحبة بالعشق الصادق حتي ميتته الغامضة بين من قال قتيل ومن قال منتحر,يقضي بها أدبياً بنحميش باعتباره ضحية الظاهر بيبرس الناقم عليه بسبب قوله في الحج وطارده في مكة حتي اضطر إلي الالتجاء لمغارة تحت الأرض تخفيه عن العيون والجواسيس.

سيرة طويلة شهدت تزلزل عروش ملوك الأندلس وصعود القوة الأوروبية الجديدة التي سترث مشعل العلم والثقافة في العالم القديم,سيرة رجل أحب الله فأحب عباد الله,أحب بكل جوارحه زوجته فيحاء وتصادق بكل قلبه مع صوفي آخر هو أبو الحسن الششتري...هذا الأندلسي الضائعة مخطوطته فيتشوش حاضره ومستقبله...هذا الأندلسي رواية أخري تضاف إلي عقد الأدب المغربي الزاخر بصنوف الاتجاهات الفنية.

 

الجمعة، 18 سبتمبر 2020

بيت كفافيس

 

شادية فنانة في منتصف العشرينيات تحلم بالمسرح واستعادة مجده القديم,أطلق عليها والدها هذا الاسم لغرامه بالفنانة شادية,جمالها يجعلها تشع بهاءً وتألقاَ لها بريق لا يقاوم,الأنثي التي يحلم بها الرجال ويبحثون عنها في نساء عدة,مما يصيب نجمة الفرقة بالغيرة فتتحين الفرص لطردها,تنتهز وجودها علي خشبة المسرح متقمصة دوراً في مسرحية إليكترا لسوفوكليس,وحيدة قبل وصول الفرقة للبدء في البروفات,لا جمهور لها سوي عامل البوفيه العجوز الذي غلبه النوم في مقعده,وتأمر المخرج بطردها فيفعل راضخاً لسطوتها,فتتجه لبيت كفافيس حيث كانت تجد هناك عزاء عن القبح الحالي وتستذكر روح الإسكندرية الكوزموبوليتانية العامرة بالفنون والآداب والثقافة...وهذه المرة ستجد الحب.

كريم مؤلف تخطي الثلاثين ساخط علي منفذ منح شهادات أكل العيش الإجرامي كما يسمي طريقة التعليم أو بالأصح اللاتعليم! ولأن انهيار التعليم تسبب بفوضي عارمة في المجتمع المصري لم يعد أحداً في مكانه المناسب,ولا يرتقي سوي الأقزام بينما المستحقون الحقيقيون علي الهامش لا أثر لهم,وتآكلت الشخصية المصرية وتحول الاهتمام من القضايا الكبري الوطنية والعلمية إلي الغرق في التفاهات والسفاسف,يقنع كريم باستئجار محل لبيع الأدوات المنزلية ويعيش ضائعاً بين الأفكار والمعاني الجميلة التي تراوده ولا يجد فرصة لكتابتها,واستنزاف طاقته وروحه في الفصال وعمليات البيع والشراء,يدفع كريم إتاوة لفاروق بلطجي المنطقة(خمسين جنيه إسبوعياً من كل محل)نظير عدم تكسير المحل والاعتداء علي صاحبه,وكلما يدفعها كريم يتذكر معاركه في الجيش المصري العظيم أثناء مكافحة الإرهاب,فيغتاظ لكنه لا يريد المشكلات يود أن يحيا في سلام,في ذلك اليوم يغضب فاروق بسبب إهمال كريم لحديثه وترك مينا شريكه يتكلم معه بينما هو غارق في قصيدة لكفافيس وبأسلوب ساخر قاس يجبره فاروق علي دفع الضعف,يقترب منه ويغلق الديوان فينظر لصورة كفافيس ويبتسم مستهزئاً:

-وكمان خمسين جنيه إكراماً للراجل الطيب أبو نضارة ده...اللي بيبص لي بقرف

ثم يمزق الغلاف يقوم كريم وفي عينيه الغضب لكن مينا سرعان ما يتدخل:

-هم بيسترخصوا في الورق ولا ايه أي لمسة تقطعه؟!

ويخرج ليجمع بقية المال من أصحاب المحلات,وتدخل في إثره امرأة تثير أعصابه المتعبة بالفصال وتستفزه بأسلوبها المستهين به,تتفاقم حسرته ويتأمل صورة كفافيس المقطوعة ثم يهرع للخارج هارباً إلي بيت كفافيس.

تعرف كريم علي مينا في الجيش خلقت المعارك في سيناء بين الرجلين صداقة تعمدت بالأخوية حيث أنقذ كريم حياة مينا وتلقي عنه رصاصة,وعندما استأجر كريم المعرض طلب منه في البداية أن يديره بالكامل لكنه رفض لأن كريم سيعيش في خيالاته وسينفصل نهائياً عن الواقع,الآن يلومه كريم:

-لو كنت انفصلت عن الواقع البغيض ده كان أحسن لي,واقع ايه ده تعليم زفت قلته احسن علي الاقل مش هايكون فيه جهلة بشهادات تغطي عوراتهم,والنتيجة مفيش حد حتي عنده أدني درجة من المعرفة العامة تقدر تناقشه في أي حاجة,ماكنتش سمعت أغاني مهرجانات زفت ولا كنت احتكيت بواحد زي فاروق ده يخلي الايد اللي رفعت سلاحها في وش كلاب الارهاب اللي بتنبح عالراية العالية في السما تدفع اتاوة عشان تعيش بعد ما شافت الموت بعنيها.

وهناك يراها وتراه فتتلامس الأرواح من أول نظرة وفي عينيها يري مصيره.

يجدها دامعة العينين في البيت الفارغ,يثير شجونه الوجه البديع الحزين فيقف متأملاً مسحوراً بسطوة الجمال,تنتبه وردة لوقفته الصامتة فتمسح دموعها بيدها ويفيق كريم خجلاً ولا يعرف ماذا يفعل,يقدم لها منديلاً فتأخذه شاكرة,وترتسم علي وجهها أجمل ابتسامة رآها كريم في حياته وفي لحظة يدخل عليهما ضيف جديد اسمه الحب فيبتسم هو الآخر ويختفي تجهمه السابق فتتسع ابتسامتها لتغيره المفاجئ ويجدا نفسيهما يضحكان بصفاء كأن العالم خلا من الآلام:

-أكيد بتقول مين اللي سايبة الدنيا دي وجاية هنا تعيط جنبك كفافيس.

-أبداً,أنا نفسي جاي أعيط!

يتعرفان علي بعضيهما ويدخلان أثناء وجودهما في المتحف في حوارية عن الفن,وعندما يخرجان من البيت وهما يتبادلان الحديث في مودة وتفاهم,نعود بالزمن لمائة عام مضت كفافيس يدخل منزله خائفاً بينما الهتافات بحياة مصر وتعانق الهلال مع الصليب تدوي في أسماعه,يقف في الشرفة متوتراً يقاوم خجله المرضي وانعزاله فيهتف مع الهاتفين ثم يغلق الشرفة ويدخل مسرعاً ليكتب قصيدة وعندما ينهيها يستمع لصوت طلقات الرصاص فينتفض كأنه هو من أصيب ويهوي علي المقعد.

شادية تعيش مع والدتها ياسمين امرأة من زمن جميل ولي,متعلمة,بحق راقية شهدت زمن الأساتذة الكبار وتفاعلت مع فن الزمن الجميل وتشبعت بقيم حول العمل والحرية والتقدم والاعلاء من قيمة الثقافة أمام أي شئ,لذلك هي الآن تشعر بالغربة ليست هذه الأسكندرية التي ولدت فيها وعرفتها هذه مدينة أخري احتلها المتطرفون بقيمة واحدة التمييز والاستعلاء الوهمي ومحترفي هدم الجمال وصاخبي المهرجانات المزعجين الذين يصيبونها بالغثيان,في حجرتها صور للفنانة اليونانية إيرين باباس تقف أمامها شادية وتحدثها عن كريم:

-يظهر يا ست إيرين إني لقيت حب حياتي وأنا في أكتر لحظة كنت مكسورة فيها في عمري,وحاسة إني انتهيت كممثلة وكإنسانة,فاكرة لما قلت لك العمر بيجري وأنا قلبي عمال يدوب ويتوه وخايفة لما أحتاجه في يوم ألاقيه اختفي,النهارده باقولك خلاص قلبي بقي محفوظ في ايد أمينة...يا سلام علي سهم كيوبيد ده أما حلو بشكل!

لفاروق زوجة اسمها ناهد لكنه عندما ينسطل يدعوها بأسماء أخري قد تكون أحياناً مهينة,لا هوية لها عنده مجرد جسد يفرغ فيه شهوته الجنسية وقد يصيبها بجروح وكدمات من الضرب تأكيداً علي نشاطه الجنسي العارم كما يريد أن يتهيأ له,ناهد أم لفتاة قاربت علي سن البلوغ تدعي رحمة ,ناهد تكرهه وتشمئز منه لكن تهديداته تخضعها لرغباته فتعيش في جحيم الخوف من فاروق والخوف علي ابنتها التي بدأ يفوح منها عطر الأنوثة.

الحب ينمي في الإنسان الكرامة والاحساس بالذات ويدفعه لخلق حياة أجمل ورسم مستقبل أرقي من الحاضر المزري,وعندما تتوثق علاقة كريم بشادية وتتخذ شكلاً رسمياً بالخطوبة,يعاني كريم من عقدة فاروق كيف يمكن حماية زوجته وهو عاجز عن حماية نفسه,تلحظ شادية شروده أثناء نزهتمها علي الكورنيش فيتحجج بأنها مشاكل في العمل.

-عشان الشغل ده مايناسبكش!

-عارفة ايه اللي جذبني فيكي أول مرة؟قولت مين العسل دي اللي سايبة الدنيا وجاية تعيط في بيت كفافيس؟عرفت انك مختلفة من لبسك المتحرر ومش هامك المجتمع المتخلف اللي بنعبده وعايشين عشان نرضيه وكان طالع من شنطتك مسرحية إليكترا وأنا متيم باليونان ودراما اليونان قولت بس هي دي اللي هاتحلك من علي حبل مشنقة الواقع,بس ماتخيلتش ان اختلافك يوصل لمصدر الدخل اللي أي واحدة بتهتم بيه يمكن كمان قبل الراجل نفسه.

-أنا مش أي واحدة يا أستاذ أنا فنانة يهمني الإنسان قبل أي حاجة في الدنيا,مصدر الدخل ده لما نبقي بنشتري حاجة بالقسط,لما نبقي عايزين نعمل شركة مش لما نبقي بنخطط لحياتنا وسعادتنا!

تحتضنه ندي غير عابئة بنظرات الرجال والنساء التي تدينها من حولها,بعيون تعودت علي النفاق وكبت المشاعر واعتبار الحب رذيلة,تلك النظرات الحادة المتهمة تزيدها تشبثاً به,تمسكه من كتفيه:

-تنفع تبقي حبيبي!...وده أحسن منصب في الدنيا.

كفافيس يعود من رحلة علاجه وقد فقد صوته,يهبط إلي ميناء الأسكندرية ويتنفس الهواء بعمق,يحبسه في رئتيه ثم يزفر زفيراً حاراً ويذرف دمعة.

يمتنع كريم عن دفع الإتاوة المقررة فيغضب فاروق وتجتمع عصابته بهدف تأديب كريم,عند دخولهم الشارع يغلق التجار محلاتهم ويقفون أمامهم يشاهدون فاروق يتجه نحو كريم,يقف كريم بشجاعة أمام فاروق غير عابئ بما يحملونه من عصيان وسكاكين بجواره مينا,النساء في الشرفات تدعي علي فاروق,يرفع عصاه في وجه كريم:

-ايه ياله اللي خلالك تبطل تدفع؟كشفت عند الدكتور وطلعت راجل؟!

تضحك العصابة بغوغائية.

-أنا طول عمري وأرجل منك.

يرفع أحد البلطجية عصاه يريد أن يهوي علي رأس كريم فيمسكها من خلفه أحد أهل المنطقة الذين استفزتهم شجاعة كريم وحده في مواجهة المجرمين,وتدور معركة حامية بين البلطجية والأهالي تنتهي بهزيمة مهينة لفاروق وإصابة مينا دفاعاً عن فاروق وبينما ينزف يقول ضاحكاً لكريم:

-كده خالصين.

يصمم فاروق علي الانتقام ويحضر كلباً متوحشاً,يمكن لكريم أمام بيته,لكنه يتوقف عندما يري شادية معه,يثيره جمالها ويقرر الانتقام منه في شخصها,مع تحضيرات الزفاف تضطر شادية أحياناً للعودة للمنزل متأخراً وذات ليلة تعود في غاية السعادة حاملة فستان زفافها,فينقض عليها فاروق ورجلين من العصابة يخطفاها وينقلاها لإحدي الأماكن المهجورة ثم يغتصبها وعدوانية,ويتركها بين الحياة والموت ثم يفر هارباً.

يتولي القضية الرائد هشام,ضابط مثالي ممن يعرفون واجبهم في الحياة ولا يتوانون لحظة في سبيل تأديته,رجل يستطيع تمييز الحق من الباطل في زمن اختلطا فيه وأصبحت الأمور غير واضحة علي كثير من الناس,يُدمي قلبه وهو يراها طريحة الفراش في غيبوبة كلما أفاقت منها تصرخ من الألم الجسدي والنفسي بأنها تريد الموت ولانتحار,بينما كريم ممتقع الوجه يحيا كابوس فظيع يتأبط ذراعه ويتوجه به خارج الحجرة ويقول بصرامة:

-الكلب فاروق ده هاجيبه!ميري ملكي هاجيبه حتي لو رجع بطن أمه تاني هاوصله!

-حاسس إني السبب ياريتني كنت دفعت وخلاص!

يثور هشام:

-غلط مش ده الحل وانت مش السبب.السبب ظروف تانية كلنا مسئولين عنها.

يبدأ هشام رحلة بحثه عن فاروق بصفته ضابط وبشخصه كرب أسرة وأب لابنتين يريد أن يبعد عن طريقهما الأذي,وأثناء بحثه يلقي العديد من القضايا والمشكلات الاجتماعية الأخري,لكن خيط العثور علي فاروق تقدمه له عشيقته ناهد التي أصبحت تخشي علي ابنتها من فاروق منذ رأته يتجسس عليها في الحمام,وتقرر الخلاص منه والتبليغ عنه وبالفعل يستطيع هشام بمعاونتها القبض عليه بعد مطاردة كاد أن يفقد فيها حياته.

في تلك الأثناء كانت شادية بدأت تفيق,انطفأ بريقها وأصبحت البنت صاحبة الحيوية والإقبال علي الحياة صاحبة نظرات تائهة بعيون ميتة,لا تريد مقابلة كريم ولا رؤيته,تخاطبه عبر الموبايل باقتضاب:

-أنا مابقيتش أنفع لك ولا لأي مخلوق,خلاص شادية خطيبتك ماتت.

كفافيس في المستشفي اليوناني يسير صامتاً في أرجاؤه ويعود لحجرته محزوناً.

باءت كل محاولات كريم للقاء شادية بالفشل تراه فتهرب منه في المستشفي وتصرخ بجنون حتي إنها تثير خوفه ودموعه فيضطر للخروج.

يعلم الرائد هشام بموقفها,ينتظر عودتها إلي المنزل,يزورها مع ابنتيه للاطمئنان عليها,يحاول أن يقنعها ويدور بينهما حوار حول القدر والحب والأمل المتجدد في الحياة طالما عيوننا مفتوحة عليها,أثناء حديثه معها يسقط بعض العصير علي صدر البنت الكبري,تمسحه شادية بأمومة فطرية فتنظر لها البنت بابتسامة عذبة وتري فيها شادية مستقبل جديد يحتاج للدعم ولضرب مثل في الصبر والاحتمال,فتلين لكلام هشام.

تدخل علي كريم في المحل فتجده يرتب البضائع في تثاقل وكرب,يراها مينا فيكاد يصرخ فرحاً,تشير له بالصمت وتتقرب منه:

-باقولك ايه ما تيجي نروح بيت كفافيس شوية.

يلتفت لها كريم فيحتضنان بعضهما في شوق وحنان.

كفافيس يحتضر في ساعته الأخيرة,يرسم دائرة في منتصفها نقطة ويسلم الروح.

شادية وكريم بعد سنوات يسيران مع ابنهما الصغير وعلي موسيقي زوربا يتراقص الثلاثة في مرح بينما البدر ينير الشاطئ.

 

م/1                                                                                ن/خ

صالة المسرح

-شادية فتاة في منتصف العشرينيات,رقيقة دون افتعال,وجهها الجميل المادة الخام لأحلام الرجال,تقف علي المسرح وحيدة في الظلام,مقاعد المتفرجين خالية إلا من عامل البوفيه العجوز ينظر لها في تشجيع وهي تلقي مقطوعة من مسرحية إلكترا لسوفوكليس علي لسان كروسوتيميس

شادية(متقمصة الدور مفارقة للواقع):نعم ولو لم تكن ضائعة الصواب لحفظت علي نفسها ما ضيعت من حذر واحتياط..فمن أين اتخذت هذه الجرأة التي تدفعك إلي هذا الخطر وتزين لك الاستعانة بي عليه؟إنك لتجهلين ما تريدين,لقد ولدت امرأة لا رجلاً,وإن ذراعك أضعف من ذراع أعدائك.

مزج

م/2                                                                                    ن/د

شقة ناهد

غرفة النوم

-ناهد أرملة ناضجة,متمددة في أحضان فاروق و علي وجهها التأفف,بينما فاروق يقضم تفاحة في شره,رجل علي وجهه علامات الإجرام ممن نراهم فتنقبض قلوبنا علي الفور,يرفع رأسها نحوه فتغتصب ابتسامة مزيفة,ثم يقبلها بعنف حتي يدمي شفتيها فتصرخ,بينما هويضحك لألمها.

ص.شادية:وإن الحظ ليواتيهم من يوم إلي يوم,وإنه ليعرض عنا أشد الإعراض.فمن ذا الذي يقدر في نفسه قتل رجل كإجستوس ثم يخلص من ذلك دون أن يندب حظاً شقياً تعساً.إحذري أن نجر علي أنفسنا شقاء أشد وأنكي من هذا الشقاء الذي نحن فيه..إن استمع أحد لما قدمت من القول فلن ينفعنا ولن يغني عنا أن يبعد صوتنا,ويحسن الحديث عنا,لنموت في الذل والإهانة.

مزج

م/3                                                                               ن/خ

أمام محل كريم

-شارع شعبي ضيق,امرأة جالسة علي الرصيف المقابل تقشر البطاطس, متسول نائم أمام باب المحل,كريم ومينا يوقظانه,كريم شاب وسيم له نظرة مكسورة كأنه حرم من شئ ما قليل الاختلاط بالناس مينا شاب يميل للمرح(إدارجي وحِرك)يقف المتسول يهرش رأسه ويمد يده سائلاً,يتجاهلانه,ينحني مينا لفتح القفل.

-في العمارة المقابلة تنفخ فتاة في دائرة فقاقيع الصابون,فيمتلأ الشارع بفقاعات متطايرة,وفي الشرفة المجاورة فتاة لعوب في لباس منزلي مكشوف الكتفين تضحك لكريم في إغراء,ونشعر من نظرته لها بجوع جنسي

ص.شادية:ليس الموت في نفسه شراً,وإنما الشر أن ندعوه فلا يستجيب لنا.إني لأضرع إليك أن تكفكفي من غضبك قبل أن يقضي علينا الموت وقبل أن تمحي أسرتنا من الأرض.

مزج

م/4                                                                             ن/د

المسرح

شادية:سأحفظ كلامك في نفسي كأنك لم تنطقي,وسأعرض عن اتباع ما أشرت به عليّ؛فأما أن فثوبي إلي الرشد آخر الأمر وأذعني لأصحاب السلطان مادمت ضعيفة لا تستطيعين المقاومة.

   -تدخل سميرة نجمة الفرقة بصحبة المخرج, بمكياج مبالغ فيه تحاول به خداع الزمن وتغطية آثاره,تري شادية واقفة علي المسرح فيبدو علي وجهها علامات الغيظ الشديد,تصرخ في وجه الجميع,فتضطرب شادية وتعود إلي الواقع وتهبط من علي خشبة المسرح,يصحو عم نصحي من النوم الذي غلبه في مقعده.

سميرة:فين الحمار اللي اسمه نصحي اللي منبهه عليه مفيش مخلوق يهوب ناحية الخشبة بتاعتي,هو المسرح ده يا اخواتي بقي ميغة ولا ايه؟!

-يهرع ناحيتها نصحي بخوف ويبرر موقفه.

نصحي:سامحيني يا ست أنا كنت نايم.

سميرة:نايم ولا قاعد بتتفرج علي ست الحسن والجمال,البت دي تغور حالاً يا إما وربي هاقلب المسرح ده عاليه واطيه,ما بقاش إلا العيال كمان يطلعوا عالمسارح.

شادية(للمخرج):المسرح كان فاضي قلت أطلع أتدرب شوية,مش جريمة دي يا أستاذ حسين.

-المخرج ينظر لها بمعني(اسكتي دلوقتي)ترمقه سميرة فيواري مشاعره الحقيقية المتعاطفة مع شادية.

المخرج:هدي نفسك يا فنانة أحسن الضغط يعلي عليكي تاني.

سميرة(بحسم):تطلع حالاً

المخرج(راضخاً):أوامرك.

قطع

م/5                                                                                   ن/خ

أمام المسرح

-المسرح يعلوه من الخارج بوستر دعائي سخيف جداً لمسرحية(اشتغالات في الهجايص)بطولة سميرة مع صورة لها غارقة في المساحيق,شادية والمخرج يخرجان,شادية حزينة.

المخرج:كنتي عظيمة!

-شادية تبتهج.

شادية:يعني هاشتغل.

المخرج:ماهو عشان انتي عظيمة للأسف مش هاتشتغلي!هي دي مسرحية إيه؟

-شادية تنظر له في إحباط.

شادية:قول لعم نصحي ما يزعلش من الكلمتين اللي سمعهم بسببي.

-تسير في حزن يتابعها المخرج بنظرة مشفقة,ثم يتذكر سميرة فيسرع نحو الداخل

قطع

م/6                                                                                    ن/د

المسرح

-سميرة تؤدي بروفة,أمامها رجل يرتدي ثياب سيدة,يلتصق بها فتجفل سميرة,في ادعاء.

الرجل:ماتخافيش ياحبيبتي احنا ستات زي بعض والدنيا زي ما انتي شايفة زحمة

سميرة:هي فين الزحمة دي؟

الرجل:زمانها جاية

-الممول الخليجي للمسرحية في مقاعد المتفرجين,يضحك في سعادة,تمنحه سميرة قبلة عالطاير.

قطع

م/7                                                                                    ن/خ

محل كريم

-محل لبيع الأدوات المنزلية,البضائع شعبية ورخيصة,مينا يقف علي الرصيف بينما كريم في الداخل يجلس علي المكتب يقرأ أعمال كفافيس,يدخل فاروق وهاتفه يزعق بإحدي أغاني المهرجانات المزعجة المثيرة للأعصاب,يبدو واثقاً من سطوته,يدخن سيجارة يدخل خلفه مينا,ينطر كريم لفاروق باشمئزاز لكنه فاروق لايلاحظه

مينا:صباح العسل يا معلمة

فاروق:صباح الصباح يا مينا.أبوك عامل ايه لسه قاعد عالنت ليل نهار.

مينا:انت عارف المعاش وعمايله بقي.

فاروق:أبوك ده كان مدرس الإنجليزي بتاعي,وآدي النتيجة أهوه طالع ولا حتي أعرف اكتب اسمي بالانجليزي!ثانك فيري ماتش اكسلانس(تتغير لهجته فجأة ويتحدث بصرامة)فين الخميس بتاعي؟

مينا:جاهز يا معلم فاروق

-مينا يفتح الدرج أمام كريم ويخرج خمسين جنيهاً,بينما كريم غير عابئ بفاروق ما يزال يقرأ كفافيس.

-يقبض فاروق علي الكتاب,يسحبه من يد كريم فيتمزق الغلاف.

فاروق(لكريم بلهجة قاطعة):وخمسين جنيه كمان عشان الراجل الطيب أبو نضارة ده,هو بيبص لي بقرف ليه كده.

-يبدو علي كريم الغضب,ينظر له فاروق في تحد, تمر لحظة توتر ينهيها كريم بمد يده داخل الدرج,يسحب النقود ويعطيها لفاروق.

فاروق:تاني مرة لما معلم الحتة يعمل لك قيمة ويجي لك بنفسه تبقي تقوم وترحب بيه,المرة دي هافوتهالك عشان انت جديد في المنطقة إنما المرة الجاية هاتزعل وانا اللي يزعل مني مرة يفضل يبكي طول العمر(يشير لمينا)خليك سلكاوي زي صاحبك السهتنة اللي انت فيها مش هاتنفعك.

-يخرج متباهياً بقوته.

-مينا وكريم يتبادلان النظرات في صمت

فلاش باك

م/8                                                                                    ل/خ

جبال سيناء

-كريم ومينا في الزي العسكري يداهمان أحد أوكار الإرهاب,يطلقان النيران بكثافة ويرد عليهما الإرهابيون,يتواريان خلف إحدي الصخور,يتقدمان في حذر يخرج أحد الإرهابيين ويصوب نحو مينا يدفعه كريم عن مرمي النيران فتستقر الرصاصة في ساقه,ثم يهرب الإرهابي,يتوجه نحوه مينا,يدفعه كريم بقوة

كريم:روح هات ابن الشياطين ده

عودة إلي

م/9                                                                                    ن/د

محل كريم

-كريم يقف أمام مينا

كريم:فاكر كلام العميد مصطفي الله يرحمه,لما كان بيقول إن دوركوا كمدنيين هو نفسه دوركوا وانتوا جنود,رد الظلام والعدوان عن بلدكم بكل الوسائل.

-مينا لا يرد

كريم(ينفث عن غضبه):قولت لك من الأول شغل انت المحل وسيبني مارضيتش وقولت نبقي شركا في راس المال والمجهود

مينا:ماكنتش عايزك تغرق في عالم الخيال اللي كان بيجذبك ويلهيك عن الواقع,القراية الكتير دي تلحس المخ

كريم:واديني غرقت في قبح الواقع,واحتكيت بفاروق واللي زيه...كنت خليني في الخيال يا أخي,الواقع كله زي جنين بشع مخيف,نتاج تعليم مزفت مالهوش علاقة بالتعليم من الأصل بيطفي العقول المنورة,جريمة بتحصل من سنين وآدي النتيجة بنشوفها كل يوم حوالينا,عارف أنا سبت البتاعة اللي اسمها الكلية دي له مش بس عشان قرفت,القرف بقي شعور طبيعي خلاص انما أنا صعب عليا عقلي اللي نوره قامات إنسانية منهم مصريين مابقاش في زيهم خلاص,لقيته هايندبح وآخد ورقة عشان آكل بيها عيش...أنا كنت عايز أنا اللي أعمل العيش,وزي ما مارضيتش أبيع عقلي مقابل شهادة مزيفة دلوقتي مش قادر أبيع كرامتي عشان أمان مزيف.

مينا:عشان تشتري لازم تبيع,احنا خلاص بقينا تجار مش أفندية

-تدخل امرأتان من عينة النساء القرشانات,تفتشان في البضائع, يتجهان لكريم,لحظات فصال لا نسمع فيها ما يقال لكننا نسمع موسيقي تعبر عن حالة الاغتراب التي يعيشها,طريقة النساء سوقبة ومستفزة,كريم يتعصب ثم فجأة تلتقي عينيه بعيني كفافيس في الصورة المقطوعة علي علاف الكتاب,ثم يهرع إلي الخارج كأنه يهرب وسط دهشة مينا و المرأتان.

م/10                                                                               ن/خ

شارع

-كريم ينتظر الميكروباص وسط زحام وخليط غير متجانس من البشر,بمجرد ظهور الميكروباص يهجم عليه الجميع بهمجية وعندما ينطلق نجد كريم ما يزال في مكانه,يبتسم بمرارة ثم يقرر السير.

قطع

م/11                                                                               ن/د

متحف كفافيس

-الوقت عصراً,الشمس الآن بساط ذهبي ناعم يتسلل عبر النوافذ,شادية وحيدة في المتحف جالسة علي كرسي تبكي في صمت,يدخل كريم من الباب متجهماً حزيناً,يراها فيتسمر مكانه مبهوتاً,وتبدو لعينيه في صورة تمثال العذراء ذات الوشاح فيتخيل وشاح أبيض يهفهف علي وجهها.

-صورة لتمثال جيوفاني سترازا.

-تؤثر دموعها فيه, يقترب منها,يخرج منديلاً من جيبه ويقف لحظة متردداً,يمد يده نحوها فتتقبله منه بتلقائية شديدة,تمسح عينيها وأنفها وهي منهمكة في البكاء.

شادية:شكراً.

-تنتبه لنفسها ترفع عينيها لوجه كريم,تبتسم للموقف فيبتسم هو الآخر.

-من النظرة الأولي تولد مشاعر الحب بينهما,ولادة طبيعية انسيابية تبدو في اختلاجة فم أو نظرة العين.

شادية:أكيد بتقول مين اللي سايبة الدنيا دي وجاية هنا تعيط جنب كفافيس.

كريم:أبداً,أنا نفسي جاي أعيط!

-شادية مندهشة

كريم:بس دموعي هاتكون رواية عايز اكتبها عن كفافيس...بكا الرجالة مختلف عن بكا الستات.الست ممكن تعيط في أي مكان من غير ما تخجل لكن الراجل بيلاقي حاجات تانية يفرغ فيها عن حزنه.

شادية:انت كاتب؟

كريم:تقدري تقولي إن ليا حياتين حياة الدنيا عايزاها مني ففتحت محل أدوات منزلية,وحياة تانية أنا عايزها من الدنيا فبحاول أكون كاتب.

-يلمح في شنطتها المفتوحة مسرحية إليكترا.

كريم:حاجة كده شبه دكتور جيكل ومستر هايد... وانتي؟

شادية:ممثلة.

كريم: مابتابعش الأعمال الجديدة لا في السينما ولا في التليفزيون,مفيهاش حاجة تشدني زي أعمال زمان العظيمة,طلعتي في ايه؟

شادية(ضاحكة):طلعت مطرودة من المسرح.

كريم:يظهر إن كل الخيوط اللي جابتنا هنا متشابهة,حتي لو كانت بعيدة.

شادية:تعرف إنك أول واحد يعرف إني ممثلة ومايسألنيش السؤال الخايب بتاع البوس بجد ولا كده وكده.

كريم:الحقيقة إن رؤيتنا للفنون كلها مشوهة التمثيل ده فن عظيم شوفنا فيه نفسنا وعشنا أحلام جميلة ومرينا بكل المشاعر الإنسانية الراقية من خلاله.

شادية:هو انت خريج إيه؟

كريم: أنا مابعترفش بنظام التعليم في مصر ,هربت منه وماكملتش فيه.

شادية:عشان كده طلعت بتفهم!ولا عمري أنا كمان حسيت إنه فادني بحاجة إن مكانش ضرني,نغش عشان ننجح ونكدب عشان ماننضربش,وضرب ايه تقولش انتقام!!وكل مدرس خصوصي عايز يتشهر لازم يضرب أقوي من التانيين والعيل يشيل الهم وهو لسه بيتفتح للدنيا(تلمع في رأسها فكرة) يمكن عشان كده بقي قانون العنف هو السايد والعادي وبقت الأم تعلم ابنها اللي يضربك اضربه ولا كأننا في حلبة مصارعة!والنتيجة حوادث عنف عمرنا ما سمعنا عنها قبل كده...ولا بقي عندنا حتي ناس كويسة في أي مجال.

-ينظر لها كريم بإعجاب متزايد.

كريم:وهنا ييجي دور الفن,عشان يصلح اللي أفسدته طريقة متخلفة,بنشر المعاني والمشاعر الجميلة,مادام اللي شغالين في التعليم نفسهم ماتعلموش,لازم الفنان طاقته تتضاعف عشان يقدر يسد العجز الرهيب اللي موجود.

-ينظر في ساعة الموبايل

كريم:الساعة خمسة,المتحف هايقفل(متردداً خجلاً)هاتيجي بكرة؟

شادية:لو انت هاتيجي.

-يشير لها باحترام أن تتقدمه نحو الباب,توليه ظهرها وتبتسم في سعادة,يتبعها كريم علي وجهه نفس الابتسامة,وكل منهما لا يري وجه الآخر.

-يتوقف قبل أن يخرج,وتكون هي قد وصلت للسلم.

كريم:ممكن أعرف اسمك ايه؟

شادية:بكرة