الجمعة، 13 ديسمبر 2019

الاكتئاب والانتحار


هذا السؤال ينقب في داخلي ثغرة,لا أعرف إن كان سينسكب منها سواد الاكتئاب أو ستنبثق منها لآلئ الأمل,لن أكون موضوعياً فكلما حاولت أفسد كل شئ ولا أتمكن من التعبير؛ربما لأني وقتها أعتبر الكتابة أداة اشباع اجتماعية وليست نفسية,ولكن هذا السؤال نفسي بامتياز,صحيح أنه يتفرع منه أمور خاصة بعلم الاجتماع لكن في جوهره كاشف عن الرؤية الشخصية للحياة.
فكرت في كليهما كثيراً في فترة مبكرة من حياتي,تسلل لي الاكتئاب فنفاني من الحياة لولا قليل من المقاومة,لكن عندما يحل الليل وتهدأ الأصوات من حولي يُفعل ديناميته القاسية وتبدأ الذات في النعي والعديد,أما الانتحار فيبدو لي فيه راحة كبيرة,ومشاركة للرب في أدق خصوصيات عمله,تنتهي الآلام المُخلقة من داخلي-أجل الحياة نفسها بريئة,الحياة حلوة لكن النفوس مرة-ويبدأ العالم الآخر في التجلي....تبقي كلها مشاعر مكبوتة قد تتجلي في قصة أو رواية أو سيناريو,أعيد فيها صياغة الحياة علي هواي وأستكشف فيها المناطق الحساسة التي تجعلنا بشراً.
لست من مدينة كبيرة لكنها عريقة,في دمنهور بزغت حضارة مصر القديمة واستمر التاريخ فيها حياً بدء من اسمها إلي حياتها التي تظهر فيها ملامح الشخصية المصرية ولعبد الوهاب المسيري في مذكراته عن دمنهور ما يغني عن كلامي عنها في هذا المقام,تعتبر بين الريف والحضر,منطقة أو اثنتين تتجلي فيهما معالم المدنية بمعناها الحديث المطاعم الأمريكية والعمارات الفاخرة والأثرياء الجدد,ورغم أني قاطن في هذه المنطقة لكني لا أشعر فيها براحة كبيرة,كأنها ليست مني ولا أنا منها,ربما في المناطق القديمة التي تميل للشعبية ويشع منها الروح الريفية البسيطة حيث مكان عملي في التجارة, أشعر بالأمان أكثر,إذن فالأمان هو أول الأسباب التي تجعل الانتحار في الريف أكثر حدة بعيداً عن الغابات الأسمنتية العملاقة التي أبدو أمامها قزماً تعمي عينيه الأضواء الفاضحة لكل شئ,كأن الواقف أمامها عارياً هل هي الأضواء أم عيون الآخرين التي تتخذ من النور وسيلة للكلبشة في اللحم الحي والتفتيش فيه؟
عندما أخرج إلي الضواحي الهادئة علي الطريق لحاجة ما,وأري البساط الأخضر يمتد أمامي,وفوقه الأفق السماوي يحنو عليه والبدر أو الشمس زينة له,أعود للفطرة الأولي للحظات,ويبدو كل ماخلفي سراب أو حلم ليلة صيفية نمت فيها واستيقظت علي الواقع,الرباط مع الطبيعة في الريف ما حُرم علي أهل المدن المسجونين في زنازين التكنولوجيا المنعزلين في بيوتهم عشوائية التصميم ممنوعين من الاتحاد مع الكون البيت الكبير الذي يبدو من خلاله كل الأمور صغيرة وتافهة,صوت الكلاكسات المزعجة يطغي علي صوت الرياح وهي تصفر في الأذن فتسمح لحن الطبيعة,رؤية الأسماك الصغيرة في الترع هامشية مقارنة مع رؤية فتارين المحلات بما تحوي من بضائع تزيد من شهوة الثري وتكمد الفقير وتخرج له لسانها,هناك أري الله وأسمعه أفضل من صوت مؤذن قبيح منفر يدعو إلي الصلاة في هيستيريا غريبة وطريقة مريبة,وتبزغ الأسماء الحسني في مشهد واحد يثير فيّ الدموع فأبكي وحينها أسامح الأيام,بل وأسامح الجناة في حقي,وعندما أعود للمدينة تلتهم كل المشاعر الإيجابية,ويبدأ الصراع والمنافسة:فلان أفضل مني,ليس لي حق في السعادة,يبدو أنني بالفعل فاشل,الكل ينجح وأنا لا أستطيع,لست قادراً علي احتمال كل هذ الوجع.....,.......,......وكل الرسائل السلبية التي يبثها إرسال المدينة علي تردد ذاتي,فتثير كوامن الأشجان وكأنني آخر لم ير الله في هندسته الكونية ولا قرر نسيان الأحزان.
في المدن الكبري أثناء زياراتي لها كالقاهرة والأسكندرية أشعر بالضياع ليس لأني غريب-ففي كل مكان غريب أنا-بل لأن الكل يجي ويركض ويتحرك في سباق غير متفق عليه,وفي مدينتي الصغيرة هذا الأمر لكن بصورة أبسط,أما في المدينة الكبيرة يتصاغر الإنسان ويهان في سبيل اللحاق بأي مبتغاه,ولم أجد أحداً يساعد الآخر,ولو تطوعت سأحرك الشكوك ولن تقبل مساعدتي باعتبارها وسيلة للنصب أو قد تصل للرغبة في التحرش,هذه ليست مدناً بقدر كونها سيرك بهلواني لا بد من القفز والجري ووطأ كل من في الطريق للوصول,فالضياع من أسباب الانتحار في المدن علي عكس الريف الذي يكون فيه الناس أبسط والكلام العفوي يولد مودة,والطرق واضحة والبهائم نفسها مستكينة عكس السيارات المسرعة علي الأسفلت,أري العجوز ترعي البقرة والأم ترضع ولدها والشوارع اتجاه واحد ليست ألف اتجاه يتوه فيها حتي ساكنها.الريف ليس يوتوبيا لكنه مقارنة بالمدينة علي كل ما فيه من مرارة العيش رائقاً ومحبباً للاستقرار فيه.
السلام الشخصي في الريف أدفأ وأكثر إنسانية,يسألونك عن حال والديك وهم لا يعرفونهم,صحيح للفلاحين خبثهم المميز وهو سلاحهم الذي استوهبوه من تاريخ عريق للظلم والفساد في مصر المحروسة,مع ذلك هم بالمقارنة بالمدن سذج يسهل التلاعب بهم,بأيدي هؤلاء الذين عركتهم ظروف أقسي وأفظع,فتولد عندهم حس الفهلوة التي يتلاشي أمامها الخبث الساذج,في المدينة السلام لو تم يصبح صورياً ووسيلة لاقتناص الهدف,وهنا يبدو الترابط الاجتماعي في صورة غريبة لا يفطن لها الكثير-علي أساس أني من القليل الفطن!وأنا أكثر سذاجة من البقرة التي كانت تأكل من يد العجوز!-....الله ما أجمل السلام الذي يفتح القلوب,ولا أبرئ نفسي فأنا ممن لا يلقون بالسلام عادة إلا لو سلم عليهم أحد,ويكون في أحيان كثيرة جافاً وقاطعاً وأنا في براثن الاكتئاب,وهذه من تأثيرات المدينة حتي ولو صغيرة.
في الريف سقف الطموحات في الغالب محدود,فكتاجر للمفروشات أري آمال الآباء الريفين في سترة البنات وحسن ختام حياة شاقة امتلأت تعباً وحدباً عليهن,وسعادة البنات في الأشياء الصغيرة التي ستؤسس بها منزلها,ورغبة الخاطبين في توفير الهدايا اللائقة في المواسم,أحتقر هذا الغُلب وأغبط صاحبه في نفس اللحظة,في خليط غريب من المشاعر,بينما سكان المدينة يتخذون الزواج مظهراً من مظاهر الادعاء الاجتماعي البغيض,والصراع علي الاستحواذ علي الثمين من الممتلكات هذا في جانب,أما علي العموم فسكن المدينة يجبر الإنسان علي التطلع لما فوق,وما فوق هذا,ليس ليه حدود فيظل في مسيرته يتصاعد ويتنافس ويتكبر ويلوي لسانه بالغش والكذب للوصول,بينما حياة الريفي الأصيل لا تتملئ بهذا القدر من الصراعات التي تولد المرض النفسي,فينتج عنه الرغبة في الانتحار خلاصاً من الرغبة في القاتلة في التفوق والتسيّد علي البشر,الضغوط في هذه الناحية ليس قليلة وحيوية في عملية الاكتئاب والانتحار,بينما الدراجة تغني ساكن الريف وتسعده ويتمناها بعضهم كما حدثني"نفسي نشتري عجلة نروح ونيجي بيها من العزبة",أعرف شاباً حياة من حوله في نكد دائم لرغبته في شراء موتوسيكل وسيارة حديثة,الاثنان معاً في وقت واحد!!
في المدينة الكل أصمّ عن آلام الغير,ولازلت أبكت نفسي وأتمادي عندما جاءت لي فتاة وبمسكنة ظننتها لحظتها عملية جديدة للنصب"أنا بجهز نفسي وعايزة تساعدني بحاجة",قلت حاسماً"الله يسهلك"فرحلت دون كلمة,كنت أنا وقتها مضغوطاً ببضاعة تلفت وأخري ركدت,وظننت أنها تضحك عليّ مع أن سوء الظن ليس من طبعي لكنها جاءت لي في ساعة أحسست فيها أن الدنيا ظلمتني,وزينت لي نفسي أني موهوب في أمور أخري والقدر ظلمني ودفع بي في هذا المكان فريسة للمناهدة والفصال طوال اليوم,وأن حياتي تضيع في حلقة مفرغة سعياً وراء للمال,فكان الوقر ليس في أذني فحسب بل تسرب لقلبي فسده بحجارة صلدة,لكن بعد دقيقة خرجت أبحث عنها نادماً,رنة الصدق وصلت لي بعد فوات الأوان,كان يجلس معي ابن عمي فقلت له"البنت دي شكلها محتاجة فعلاً"فزاد من ندمي"شكلها فعلاً,كان المفروض نديها",والريف ليس يغمة يأكل منها الكل لكن علي الأقل يعرف فيه الناس بعضهم لحد كبير فلا تتعرض واحدة لهذا الموقف المهين,وكلما أتذكره أقول"لا تغضب إذن عندما يصم الناس قلوبهم عن أحزانك وينشغلون بأنفسهم عن احتياجاتك.
الاكتئاب في المدينة يتولد عن الضجيج,الصخب أمر خطير يطغي علي العقل ويحيل خلاياه لفرقة حسب الله وكان شوبنهور يريد مجازاة من يفرقعون بالسوط فيفقدونه تركيز وقدرته علي العمل!ونحن نعيش في ضجيج وحشي"طاخ طيخ طوخ"تنبعث من كل مكان,والزحام أيضاً ليس هامشياً في هذه الحكاية,الزحام قادر بفجر شديد علي قتل كل جميل في النفس الإنسانية,أما الريف ففي سكونه فرصة لتنظيم أفكار المرء وعدم انحرافها إلي إزهاق روحها,ربما صوت الأحباء ووجوهم يضيع في تيه الزحام وجنون الضوضاء,فلا يري المنتحر أو يسمع صوت من يحبونه ويتعلقون به فتنمحي من ذاكرته ويستقر الألم وحداً متربعاً علي الروح,فبسرعة وبلا تفكير يرمي روحه للهلاك هرباً من العذاب,وفيديو الشاب المنتحر من برج القاهرة مثال حي للرغبة في هذا الخلاص السريع,هل كانت تخبره الريح أثناء سقوطه بأحبائه وقد خفت الضجيج فندم؟!وبالمناسبة مصر ليست بدعاً في عملية الانتحار وتعساً لكل من يتخذها ذريعة,للهجوم السياسي المأجور فهذه مأساة عالمية ومصر ليست من الدول المتقدمة في مضمار الخلاص الأسود.
زحام وأبواق سيارات مزعجة
اللي يطول له رصيف يبقي نجا
لو كنت جنبي يا حبيبي أنا
مش كنت أشوف إن الحياة مبهجة
عجبي
ومني عجبين ثلاثة أربعة.
في الريف نسبة التلوث أقل وقد يقول واحد أسمعه الآن وما دخل التلوث يا سي محمود يا من تتكلم كلاماً غير موضوعي وتتحدث عن ذكرياتك ورؤاك الشخصية,أرد فأقول يا سي فلان أفندي يا محترم,التلوث يخنق الصدور ويجعلها ضيقة حرجة,وفي لحظة طيش قد تصبح القشة التي تطيح بحياة إنسان منتحر لا يتمكن حتي من التنفس بصورة مريحة,فتبدو الدنيا في عينيه رخيصة وسهلة...وأي دنيا هذه التي تمنعنا حتي من استخراج الأنفاس واستردادها؟!قطع الأشجار يؤثر,عوادم السيارات تؤثر,والمنتحر شخص أصلاً حساس ورهيف القلب ولم يعد يطيق أي شئ.
"سامحوني الحياة لم تعد تحتمل"...أفهم داليدا الآن فقط....غنت من بروحها وصوتها وعينيها وجسدها أمام الدنيا وقالت"أنا مريضة"وأدائها ينزف بؤساً وانكساراً,ويتسرب من شفتيها الألم مسكوباً في لغة فرنسية ولهجة نواحة عليها رائحة الفاجعة المرتقبة,طاعنة قلبها في يدها عند ختام الأغنية في حفلتين مختلفتين والثالثة في شقتها بباريس عام87,و لم تمتد لها يد بالتخفيف أو الطبطبة بل طبطبت الكفوف علي بعضها ولم تجني غير التصفيق المذاب في طيات الهواء,والقلب العليل لا علاج له سوي الكف عن الخفقان...نفس اللوعة أجدها في أداء الجميلة لارا فابيان لنفس الأغنية,وربنا يستر عالجميع!
في الريف-وأكرر الريف كتلة من البؤس لكنه مازال يحتفظ ببقايا براءته,وبجانبه تغدو المدينة مرتعاً للشياطين,وفي الريف طيبون كثر وفي المدينة طيبون كثر,لكن الزحام قاتل والضجيج يعلو فيطغي-للحب فرصة للنجاة بسبب القناعة التي يفتقدها أبناء المدينة,في الريف الحياة أقل كلفة والحب للأسف كما تيقنت مؤخراً بعد أن كنت منكراً, يعتمد في استقراره علي الماديات باختلاف أشكالها,والحب كان يحتل المركز الأول في أسباب الاكتئاب",حيث يعتبر أحد العلماء الاكتئاب"صرخة بحث عن الحب",والمنتحر شخص فقد الحب في الزحام...ما للزحام يطاردني يطاردني في كل مكان حتي زحمت به الكلام! أليس حضن امرأة عاشقة منجي من الذهاب للتهلكة,أليست قبلة من شفاه ظامئة يمسح رضابها أدران الحياة,وتتسافل كل الدوافع المحرضة علي وضع حمل الحياة الثقيل من علي العاتق,الحب هو مشكلة الإنسان الأزلية المتفرع منها كل المشاكل الصغري,بدء من القنبلة النووية والاحتباس الحراري,حتي البحث عن حذاء مناسب للقدمين"فالحياة الحب والحب الحياة".
في المدينة الإنسان منعزل لحد كبير والصداقة الحقيقة نادرة,صحيح المنازل متلاصقة,والناس كثر لكن كل واحد منهم في جانب,سكان العمارة الواحدة لا يعرف أحدهم الساكن بجواره أو تحته أما الريف فيكفي أن يكون الواحد من العزبة أو القرية ليصبح صاحب علاقات مع الكل,وعندما يخرجون للعمل في المدينة تتزايد روابطهم الإنسانية.
ورغم كل الألم المغروز في قلب المكتئب الذي يراوده الانتحار هرباً,يجد نفسه موصوماً من المجتمع,ومادة سخرية بين أفراده,سواء مباشرة أو عن طريق مواقع التواصل,المزدحمة هذه الأيام بنكات حول المنتحرين,مع أن مجتمعنا لو وقف أمام نفسه وقفة صادقة كما يفعل المنتحر مع نفسه,أو نظر لمجموع أجزائه بعين الحكم العدل,لرأي نفسه وصمة كبري في حق الإنسانية,المتهرب من العمل والمسئولية بل وحتي التفاعل الإنساني الصادق مع العالم من حوله,رجل ابن حظ وفرفوش,الحاصل علي شهادات في منظومة غير تعليمية ولا تربوية تعفنت ويتخرج منها الدود, رجل متعلم ومتفوق حق له أن يتيه فخراً بما جني من حصاد الجهل والتغفيل,المشتهر بشبه التمثيل وشبه الطرب وشبه الفن عموماً نجم يتألق في المجتمع,وعشرات الأمثلة التي تفاعلت مع نفسية المكتئب ليدفع نفسه نحو الانتحار,كل هؤلاء غارقون في الكبرياء واللمعان والمكتئب خائب الرجاء بفعل هؤلاء يحمل وصمته وحده! وهنا أود قليلاً الحديث عن صاحبي القديم الكاتب العظيم نجيب محفوظ وروايته الشحاذ,وأتذكر روعة أداء الفنان الواعي محمود مرسي لشخصية عمر حمزاوي,وكان مشهده وهو يدير الكرة الأرضية وينظر لها بتأمل حزين,متسائلاً عن الإيمان بالله,أول مشهد سينمائي يزرع بداخلي فضول نحو العالم والله,كنت طفلاً وجزعت من السؤال,وهرعت أسأل الكبار حول هذا المشهد,وكالعادة لم يجيبني أحد وتعرضت للتعنيف والنهر,وما زلت حتي اليوم طفلاً يجزع أمام الأسئلة,في هذه الرواية يسلخ محفوظ العظيم النفس عن مجتمعها ,يتعرض البطل لهزة نفسية تصيبه بالاكتئاب عندما يقول أحد موكليه"المهم أن أكسب القضية ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله يأخذها"فتكون تلك نقطة الانهيار النفسي لعمر فيسعي خلف كل النشوات المتصلة بصفته فرد في المجتمع,يذهب للاستجمام ينغمس في الخمر والجنس يحاول كتابة الشعر,ومع ذلك تبقي روحه هائمة لا مستقر لها غير نهاية هي بالموت أشبه,في انتحار نفسي طرد الروح والشخصية وترك الجسد يتحرك بالقوي المادية وحدها,وغالب الظن أن محفوظ-والله أعلم فهذا الرجل أحاط حياته بالسرية ولم يترك خصوصياته نهباً حتي تقع في يد واحد زي حالاتي في النهاية-عاني في مرحلة من حياته من هذه الأزمة,ونسج تجربته في هذه الرواية التي سماها الشحاذ,وهو أكثر لقب ينطبق علي المكتئب,فهو يتسول قدرة علي العمل فارت كما يفور التنور ويتبخر علي نار اليأس,يشحذ رغبة في الشعور بالقليل من الرضا,يشحذ حباً صادقاً,يتسول راحة البال فلا يجد غير القلق والمخاوف عند كل باب,هذا هو بالضبط الكلب الأسود الذي يطارده في كل الطرقات,يصف محفوظ الأجواء المنذرة بالمأساة ببراعة,ويحيك السياق الدرامي بقدرة فنان جعلنا نتلصص علي نفسية المكتئب والراغب في الانتحار,بدون سبب مادي واضح,فحمزاوي محام ناجح ورب لأسرة مثالية,وما في القلب تفوح رائحته من حوله فتلقي به في العزلة والضياع,فالاكتئاب لا يوجد ما يعوضه علي الإطلاق لأنه يسلب كل طاقة الإنسان,ويبتلع ما يتبقي من إرادته,فيصبح هشاً كفازة زجاجية تنتظر أقل كلمة أو أبسط موقف وتتهشم ويغدو استرجاعها مستحيلاً.
وتكفي هذه الأسباب لأني تأزمت أكثر,ولو استمريت علي هذا المنوال فلن أفرغ أبداً.يمكن اعتبارها اقتباساً من قول شيشرون,أسباب تجعل المنتحر راغباً في الموت"
........
أما رأي العالم الفرنسي إيميل دوركايم أحد أساتذة طه حسين في رحلته لتشرب أنوار العقل الأوروبي بفرنسا,فرأيه بالفعل مفيد,ولكنه في جانب منه مخيف حياة إنسان أنهاها بإرادته مجرد رقم في جداول إحصائية,فهاهو المجتمع يتعملق ويصبح المسئول الأول عن الانتحار,بعد أن يدحض دوركايم العامل النفسي والمناخي,ويجعل الانتحار مسئولية المجتمع بالكامل,أفضل تشبيه لهذه الرؤية حكاية أبو حنيفة مع جاره السكير المتغني بأبيات الشاعر الملقب بالعرجي"أضاعوني وأي فتي أضاعوا",يلقي التهمة علي المجتمع طوال الليل وعندما يحبس يخرجه أبي حنيفة ويسأله باعتراف ضمني منه بمسئولية المجتمع عن انهيار الأفراد"وهل ترانا أضعناك؟",وقد توصل دوركايم أن الأسباب الحقيقية للانتحار هي في الأصل اجتماعية,مثل مكان السكن والجنس والعمر والاندماج والدين والعمل,وقد قرر أن الفرد كلما كان درجة اندماجه في المجتمع عالية ومرتبطاً به بصورة وثيقة تقل حالات الانتحار,طارحاً حلول وقائية من خلال دمج الأفراد في العمل والجماعات المهنية,محدداً علاقة الانتحار بالانهيار الأخلاقي,مقسما أنواع الانتحار إلي:
1-انتحار أناني:يحدث في حالة ضعف الاندماج مع المجتمع,كنتيجة للفردية المفرطة في تضخمها.
2-الانتحار الإيثاري:يحدث في المجتمعات التي تتميز بالروح العالية كاليابان,كتضحية في سبيل المجتمع.
3-الانتحار اللامعياري أو الفوضوي:يحدث في الأوقات المضطربة في المجتمع عندما تتغير الضوابط والظروف.
والمهم هنا الأخذ في الاعتبار أن دور كايم يتحدث عن المجتمع الأوروبي في آخر القرن التاسع عشر.
البحث من الناحية الاجتماعية جبار ويليق باسم هذا العالم,القصور يكمن في الأحادية الفكرية المتخذة من المجتمع محركاً وحيداً لاتجاهات أفراده نحو عملية الانتحار,مغفلاً العامل النفسي ودوركايم معذور فلم يكن علم النفس كما عرفناه بعد ذلك ولم يتوصل بعد علماء البيولوجيا أن انخفاض مادة السيراتونين في المخ مرتبط بظهور الاكتئاب المفضي للانتحار بطريقة أو بأخري.
والكلام هنا كثير ولا أريد الاقتباس والنقل بأسلوب آخر أو السعي وراء المعلومات المجردة كما يفعل الجميع وأفعل معهم في العادة,وكل هذه الطرق المفيدة كرأي دوركايم لكنها قاصرة عن الوصول للحقيقة,بل ربما هي السبب في اخفائها,هل يعقل أن يردد الآلاف نفس الكلام وراء شخص واحد أمسك فقط ذيل الفيل كالمثال الشهير,وربما يكون بين هؤلاء الآلاف من يعرف القدم أو الأذن لكنه معمي بسبب سيطرة الآراء الشهيرة,ولو لم يكن فهو خائف من التعبير عما يراه ظناً منه أن القضية قضية ذيول بامتياز ولا مجال لأعضاء أخري سأنهي الإجابة بنفس الطريقة لأن هذا اختيار هذا الموضوع النفسي فرصة نادرة للفضفضة التي تستعصي علي هذه الأيام وكلما هممت بكتابة شئ ما في الأدب أو الفن أمسكت بي قيود لعينة تخرسني فوراً,ويتمنع علي الكلام للرغبة في اختياره ليناسب مسابقة أو جائزة...المجتمع ودوركايم بصورة أخري...إنه حقاً مفيد!!
"لا يمكن أن نختزل الانتحار لسبب فردي بالرغم من أنه حقيقة وواقعاً تصرف فردي.يجب أن يوضع الانتحار في إطاره الاجتماعي  وبهذا نتمكن في معظم الحالات,عندما تتوافر المعلومات والبيانات الكافية عن المجتمع,أن نفسر الانتحار باعتباره جواباً علي وضع معين,وبتعبير آخر نري أن الانتحار كحل استراتيجي طرحه الفرد لمشاكله الوجودية"
بهذه العين يمكن تبرئة الجوكر كما قدمه خواكين فينيكس بزاوية مختلفة حولته من جاني لمجني عليه,الجريمة انتحار معنوي ونفسي,وبنفس المقياس يصبح آرثر فليك ضحية من ضحايا المجتمع ويتم التعاطف معه؛لأنه في الأساس صنيعة ظروف مجتمعية صاغته ليصبح سفاحاً ومخرباً ينشر الفوضي والذعر...لا يهم المهم أن آرثر المسكين عندما يدمر جوثام ويسفك فيها الدماء لن نهتم بالضحايا (الكومبارس)وسيصبح الجوكر هو الضحية في كل الأحوال!
في ذهني الآن مشهد جين فوندا في فيلم "إنهم يقتلون الجياد,أليس كذلك؟"عن رواية بنفس الاسم لهوراس ماكوي وهي تطلب من زميلها في حلبة الرقص أن يقتلها,بعد انتهاك نفسي وبدني مبكي لتسلية السادة مقابل وجبة ووعد بجائزة نقدية في ذروة الأزمة الاقتصادية الأمريكية,وقد سئمت من الحياة وتريد وضع حداً لتلك اللعبة اللعينة,بإنهاء حياتها هذه صورة واضحة عن مدي دفع المجتمع لأفراده نحو الانتحار,بعد كانت تحلم بالمجد الهوليوودي لم يبتق لها سوي ذكري جدها يقتل الحصان المعدوم,بالضبط كما هي معدومة ومفلسة من الأمل تجاه المستقبل.
لم يعرف دوركايم"تايلر"بطل رواية نادي القتال,فيها مجتمع صغير يتكون من شخصين رجل ونفسه,النفس شريرة ومخربة تسعي لتحطيم الرجل ومجتمعه الكبير,يصبح الحل الوحيد أن يقتل الرجل نفسه لينجو ومعه المجتمع.
إن الصراع بين الحياة والموت,هل الراحة في الاستمرار مع الأمل اتكاء علي تحولات مجتمعية أم في قتل النفس والخلاص من كليهما معاً؟





السبت، 30 نوفمبر 2019

الفلك والرياضيات


تجلت السماء للإنسان الأول قبل آلاف الأعوام كعالم غامض يمتلئ باللمع المتألقة والحركات المنتظمة,ووجد أن هذه الحركة الدائمة تؤثر في مسار حياته,بدء من انطلاق الضياء مع أشعة الشمس,وبداية العمل واكتشاف العالم من حوله والتأمل في القمر الذي يشق ثغرة مستديرة في الظلام من حوله,إلي توقيت الزراعة والحصاد المرتبطة بنجوم السماء وسير حركة الزمن العجيبة في سهمه المنطلق إلي الأمام,عارفاً أن بها يرتبط مصيره,شاعراً بنفس ذرات النجوم من حوله في جسده وروحه باعتباره أحد عناصر بقايا الانفجار العظيم حتي ولو لم يفهم ذلك.
وعلي الأرض في مصر وبابل والصين بدأت الرياضيات تأخذ شكلاً متطوراً,ساهم في حركتها الأولي رغبة الإنسان في فهم هذه اللغة السماوية وضبط حركاتها في إيقاع متناغم,ولأن العالم عدد ونغم علي حد قول فيثاغورس كانت الرياضيات هي النوتة الموسيقية التي من خلالها يستقرأ الإنسان الأنغام العلوية في الفلك الدوار,التي قيل أن سكان الأرض سمعوها يوماً عندما كانت هادئة والأسماع لم تصم بعد من صخب الحياة عن الإنصات لها!
مصر قامت بحساب موعد فيضان النيل مع ظهور نجم إيزيس (الشعري اليمانية)والمعروف حالياً باسم سيريوس يوم 18 يوليو من كل عام,والبابليون واليونانيون والرومان صاغوا تقويمهم بناء علي حركة نجم الدبران في كوكبة الثور,وبينما مصر تبتع التقويم الشمسي نجد البابليون يبنون تقويمهم علي أوجه القمر وبرعوا في توقع خسوفه,وبدأ ميلاد الزمن وتقسيم الأيام كما نعرفه اليوم,وبدون ملاحظة حركات الكواكب وحساب هذه النقلات ما كان لنا هذا المقياس الذي نفرق به بين الماضي والحاضر,وعبره ننتقل إلي المستقبل...كل هذا في وعينا نحن!!
لذلك ارتبطت الرياضيات بعلم الفلك منذ الحضارات الأولي التي أرست الركائز الأساسية للعقل البشري في التعامل مع الظواهر الطبيعية من حوله,وهي قصة تمتلئ بالطموح والتطلع لما فوق هامة البشر والنظر نحو الآفاق لفهم كنه ما تحت أقدامهم ومعرفة مكانهم في الفضاء الفسيح,وفي عالم العمارة فائقة التعقيد أبدية الخلود المستغلقة علي الأفهام حتي اليوم يبزغ الهرم,وعليه آثار علم الفلك الذي اتخذ من الرياضيات لساناً له يعبر عن نظرته في الارتباط بين السماء والأرض,فيواجه من الجنوب نجمة إيزيس وفي نفس الوقت من الجانب الآخر يواجه النجم القطبي وتتحد أشعتهما في الحجرة الملكية.
وفي الزمن اليوناني قسم أمونيوس الرياضيات إلي أربعة فروع:الأرثماطيقي والهندسة والفلك والموسيقي,أما بطليموس أشهر الفلكيين في العالم القديم,فكتابه عن الفلك يسمي"المجموع الرياضي"وباليونانية المجسطي,وظل هذا الكتاب مسيطراً علي التصور البشري للكون,حتي ظهور طلائع النهضة الأوروبية ككبرنيكوس وكبلر وجاليليو,وكانت المساهمة الفيثاغورثية في الفلك استحداث فكرة أن حساب حركة الشمس نتيجة لحركتين متداخلتين في بادرة للاقتراب من الحقائق الفلكية كما نعرفها اليوم.أما الفلك الأفلاطوني فقد رأي الكون مخلوقاً منظماً ولذلك يمكننا التعرف عليه من خلال الرياضيات وتوظيفها في سبيل إدراك الحقائق الملموسة فيه,وهيبارخوس اعتبر العالم السماوي أبدي وثابت ومحكوم بقوانين عقلية,والحركة الوحيدة الكاملة في جمالها وعقلانيتها هي الحركة الدائرية.
ثم يأتي البيروني الاسم العملاق في الثقافة العربية,الذي قيل أن تاريخ الفلك والرياضيات لا يكتمل إلا به,و يتمكن من حساب بعد مدينته عن خط الاستواء بمراقبة أقصي ارتفاع للشمس عن الأرض,وابن الشاطر,وابن يونس المصري الموصوف من قبل مؤرخ العلوم الشهير جورج سارتون بأنه أعظم فلكيي عصره ساهم في علم حساب المثلثات باكتشاف المعادلة الجدائية حتي أوتو نيو جبور وستيفن هوكنج وإنجازات إيلون ماسك في الفضاء اليوم,كان علم الفلك مقترناً بالرياضيات وعلماء الفلك أنفسهم كانوا علماء رياضيات من طراز رفيع في الغالب,وخلال العصور المختلفة اتخذ الفلك طرقاً لتغيير المفاهيم الرياضية,كظهور الهندسة اللاإقليدية بحساب المثلثات الكروي,وارتباط علم الميكانيك السماوي بالميكانيك الأرضي.
الرياضيات هي"يد الله"في بناء الكون المؤسس علي نظم هندسية بديعة التكوين,لها انسيابية الموسيقي وحركاتها السحرية,وبعد قرون عندما يتحقق حلم العلماء في أن يكون عدد البشر في الكواكب الأخري أكبر من الأرض ستظل الرياضيات هي الجسر الواصل لاستمرار الطموح البشري الخلاق في اكتشاف الكون,والخيط  الذي يقودنا للطريق المستخرج من أذهان رسمت له خريطة رياضية كآينشتاين الذي وصف الكون علي أوراقه بالأرقام.
ومع تطور علم الفلك من المعابد المصرية والبابلية حتي كمبيوترات وكالة ناسا ومحطاتها,ارتبط بعلوم أخري كالفيزياء والبصريات,وتولدت علوم الفيزياء الفلكية والكيمياء الفلكية,والطب الفلكي وعلم الآثار الفلكي والبيولوجيا الفلكية,في تشظي هائل للمعرفة الفلكية في زمننا الحديث التي أصبحت كلها موصولة وزاد تماسكها مع الرياضيات.وكانت مشاهد فيلم interstellar  أنشودة نولانية بالغة الرمزية تداخلت فيها الرياضيات والفيزياء مع الكون مع مستقبل الإنسان علي الأرض رابطاً الكل في واحد...استكشاف المجهول الذي نقف علي حافته.



الأحد، 17 نوفمبر 2019

تلبس أيدولوجي


"الفن السائد في أي مجتمع، هو انعكاسٌ لفكر الطبقة الحاكمة له" 
تحمل العبارة أصداء تلامذة ماركس في فهمهم للعلاقة بين الفن والمجتمع,مع أن ماركس نفسه كانت نظرته للفن أكثر رحابة,هو الذي بدأ حياته أديباً يحاول خلق الشعر وسرد الرواية,قبل أن يخسر العالم أديبا عادياً ويربح مفكراً استثنائي قلبت فلسفاته المفاهيم وزلزلت العروش المتأصلة في ضمير الأمم,وقد لاحظ بروحه الشاعرة أن جون ميلتون أنتج ملحمة الفردوس المفقود,لنفس السبب الذي أنتجت به دودة القز الحرير,أي أنه مارس نشاطاً نابعاً من طبيعته الفطرية.لم يصدر عنه مفهوم الانعكاس ولا عن إنجلز,وإنما جاءت عبارته بنصها"في كل العصور تغدو أفكار الطبقة الحاكمة هي المهيمنة", أما عبارتنا عن الفن والانعكاس,تكشف بصمات جرامشي,بليخانوف,لينين,لوكاش...وغيرهم من شراح الماركسية,بل هي الاختصار لفكرة ماوتسي تونج الذي ربط بين الآداب والفنون والطبقة الاجتماعية,مؤكداً علي أن كل الفنون تتبع طبقة معينة أو أيدولوجية سياسية محددة,وينكر مفهوم الفن للفن,ولا يعترف بأدب فوق الفوارق الطبقية والمصالح الحزبية,فلا وجود لإبداع منفصل عن السياسة والسلطة,إنما هو في ممزوج بالسياسة حين ينحاز لمصالح طبقة معينة بحسب خطابه في ندوة الفن والأدب.
نظرية الانعكاس تفيد بأن كل إدراك للعالم الخارجي يقوم علي انعكاس هذا العالم في الوعي الإنساني,وإذا كان الفن عاكساً للمجتمع فإنه علي حد قول بيير ماشري"يكون مرآة وضعت بزاوية معينة تجاه الواقع"
تنظر الماركسية للمجتمع علي أنه مكون من بنية تحتية أساسها الاقتصاد وعلاقات الإنتاج،تنعكس علي البنية الفوقية ومن ضمنها الفن الذي يصبح انعكاساً للطبقة الحاكمة لأدوات الإنتاج,المفكر الإيطالي جيامبا فاسكو يعتبر من أوائل من قدموا محاولة منظمة لربط الأدب بالواقع الاجتماعي في كتابه"مبادئ العلم الجديد"1725متناولاً فيه علاقة الأدب بالمجتع العشائري الذي كان قائماً,رابطاً بين ظهور الدراما ونشأة المدنية والدولة,وبين ظهور الرواية واختراع المطبعة.
رغم أن الفن بأسراره العليا يستعصي علي الإدارك,إلا أن صبغته الأيدولوجية التي يتشربها يمكن ملاحظتها علي الفور,كما لاحظ هنري ماتيس أحد رموز المدرسة الوحشية في الرسم,أن "كل فن يحمل بصمة حقبته التاريخية",في عملية من التلبس الإيدولوجي يتسلل إلي بنيان الفنون,فتغدو انعكاساً للإيدولوجية الطبقة الحاكمة سواء بالسلب أو بالإيجاب,كما يري بيير ماشري أن"العمل الأدبي لا يرتبط بالإيدولوجيات عن طريق ما يقوله,بل عن طريق ما لا يقوله,فنحن لا نشعر بوجود الأيدولوجيا في النص الأدبي إلا من خلال جوانبه الصامتة"وكما اعتقد بليخانوف"لا يوجد عمل أدبي يخلو من الأيدولوجيا",هنا النظرة إلي الفن باعبتاره معادل اجتماعي للتطورات التاريخية,متأثر بقوانين من خارجه تفرض عليه جماليات خاصة,بمنظور مادي ديالكتيكي وليس بنظرة مثالية صوفية تسبق فيها الأفكار والأحاسيس الواقع المعاش,مما جعل خروشوف يصرح"إن قوة الأدب والفن السوفييتي,تكمن فيما ينطوي عليه من ذوق فني,وإيدولوجية عالية".
وفي السينما المصرية نماذج دالة علي انعكاس أفكار الطبقة الحاكمة علي الفن,من أين جاءت كل هذه النوستاليجيا والحنين للزمن الملكي وهذه الصورة الوردية عن زمن شهد أزمات طاحنة وسخط من أهله وتراكم الثروات الطائلة في أيدي طبقة صغيرة بنوا بيها فخامتهم وأناقتهم ,في وقت لم يجد فيه الفلاحين حذاء يلبسونه وللكرباج الكلمة الأولي معهم؟كانت للسينما اليد الطولي في هذه الرؤية,كما ستكون له أيادي في كل الأزمنة,وكل زمان له ميزاته المبهرة وعيوبه الخطيرة,هنا برز دور السينما في تشكيل وعينا التاريخي بالقرن العشرين.
كانت السينما في مهدها لكنهم وعوا لها وأدركوا ما قيل من قبل عن فن الرسم"إنه أخطر من أن يترك للرسامين وحدهم",لذلك منعت الرقابة أولي محاولات السينمائي الرائد محمد بيومي 1924بسبب مشهد للأسرة تأكل فيه ملوخية علي الطبلية!لن نفهم هذا الانعكاس السلبي إلا أن مصر كانت تعتمد في دعاياتها علي السياحة وعلي المشاهد التي نراها الآن بهية وجميلة حقاً,وتفوق الدول الأوروبية في الجمال والذوق,لكن خلف هذه المشاهد يكمن بؤس عارم,كتمته السينما,وربما كانت هذه الواقعة في ذهن المخرج محمد كريم أثناء تصويره فيلم"زينب",وهو يغسل الأبقار والشوارع والأشجار بالماء لتبدو براقة تليق لعيون الطبقة الحاكمة.
وفي الفترة الناصرية وهي أيضاً لها مميزات وعيوب,كانت السمة السائدة علي السينما,مواضيع تتسم بالجدية وتشجيع العلم والعمل والصناعة والاهتمام بقضايا العمال والفلاحين,لأن الخطاب السياسي كان موجه لطبقات الشعب العاملة,وظهر شعار"الاتحاد والنظام والعمل"في السينما معلناً عن توجه الطبقة الجديدة.
أما السبعينيات فقد تحللت السينما أو كادت من الأيدولوجيا إلا ماكان هجوماً علي زمن عبد الناصر,وغرقت السينما في أفلام تافهة لا تمت للفن بصلة,تلعب علي غريزة العنف والجنس,فقد أرادت الطبقة الجديدة توجيه دفة القيم الجمالية ن العمل والإنتاج,إلي تبرير وتمجيد قيم الفهلوة والثلاث ورقات والكسب السريع,بالحصول علي شنطة المال والفتاة الجميلة وتنزل تترات النهاية وسط سعادة تعم الجميع!!!في مثال عملي لمقولة الناقدة والأديبة الفرنسيةجرمين دو ستايل المعروفة بمدام دو ستايل"كل مجتع يحصل علي الأدب الذي يستحق"؟
صاحب هذه العبارة تيار فكري هادر غزا العالم ذهنياً في وقت ما من القرن العشرين,كانت نظرته للفن مرهونة بالمصلحة الاجتماعية وبصراع الطبقات الأيدولوجي المحموم,والمقصود بها أن لا فكاك لأي فكرة نظرية أو تطبيقية من أسر الإيدولوجيا الحاكمة التي تضع مسببات اجتماعية,ينتج عنها انعكاسات في كل مجالات الحياة ومن ضمنها الفن الذي هو في واحد من وجوهه,نشاط اجتماعي ينتجه فرد أو مجموعة من الأفراد للعرض أمام جهور,هذا الجمهور لديه احتياجات نابعة من ذاته يريد إشباعها,وفي نفس الوقت تفرض عليه رؤي جمالية تصاغ في قوالب بنيوية,تشكل معاني سياسية وفكرية عن طريق الوعي أو اللاوعي,تود الطبقة الحاكمة أن تعلن بها عن أفكارها التي تتبناها في سبيل تطوير المسار التاريخي لهذا المجتمع,وفي النهاية لابد أن يشار أن نظرية ماركس الخام قبل أن تبدأ صفوة العقول المفكرة في تحليلها وشرحها,تشكلت في ظل الأزمة الاجتماعية الأوروبية المزرية,وماركس في نهاية حياته تنبه إلي نمط جديد للإنتاج"النمط الآسيوي للإنتاج"باعتباره نمطاً مغايراً لتاريخ الإنتاج الأوروبي,ومع ذلك تبقي نظرية الانعكاس يمكن تطبيقها علي مجتمعات الشرق والغرب علي السواء.

السبت، 9 نوفمبر 2019

ح3


اندلعت أصوات أجهزة الإنذار تدوي في المبني الهرمي,وأغلقت كافة الأبواب الفولاذية,وصدر صوت نحاسي يردد بطريقة آلية"إنذار...إنذار...إنذار...هربت النسخة ح1 من مختبر تجارب الذكاء الاصطناعي,الروبوت الآن خارج عن السيطرة ولا يرضخ للأوامر,ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته...."استمع الدكتور شريف للإنذار واحتقن وجهه بالدماء,نزع بذلة الإخفاء التي يعمل علي تحسينها لتمكنه من النفاذ عبر الجدران,فظهر جسد طويل القامة,ووجه تلمع فيه عينان ينمان عن هلع زائر للجحيم يشهد أهواله,اندفع نحو الباب بسرعة ليري نخبة من علماء العالم يركضون نحو المخبأ المشيد للطوارئ تحمي ظهورهم روبوتات ضخمة تتخذ صوراً آدمية, إمعاناً في إضفاء الروح البشرية عليها من بينهم أبيه نبيه عالم الذكاء الصناعي,ألقي عليهم نظرة واتخذ الاتجاه المعاكس.
الروبوت ح1اختراع الدكتور شريف,ليفتتح به عام 2222,زوده بمواصفات السوبر مان التي سعي إلي امتلاكها البشر,وزرع فيه الوعي البشري,صارفاً ست سنوات من عمره في سبيل إيجاده أمامه يسعي,أعطاه كل ما يعجز عنه كإنسان,طعمه بجينات خاصة من حمضه النووي ليعيش فيه أبداً,وفي الوحدات الأساسية لم يبخل عليه بأعلي معدل للذكاء,عندما فتح عينيه أول مرة نظر لشريف بصورة مؤثرة وقال:
-لم نعد وحيدين!
في البدء ارتبك شريف لهذا الحس الفائق من ح3لكنه اقترب منه وعلي وجهه يلمع السرور,ولامسه فسري فيه احساس بالكمال,وهمس:
-عجيب...يداخلني إحساس غريب...يشبه...يشبه.
قاوم الكلمة كثيراً وحاول إيجاد غيرها لكنه لم يفلح:
-إحساس الأمومة!
ليلتها عجز شريف عن النوم في الأسرة المضادة للجاذبية السابحة كبالون الهيليوم وسط النسيم,ولم تفلح عزف الموسيقي من توصيلات المخ التي تترجم أي لحن في الدماغ إلي صوت,فتح شريف عينيه ونظر للأرض تحته والبسمة تلعب علي شفتيه,متعجباً من كون بلاد الأهرامات مضي عليها وقت عجزت فيه عن تعليم أبنائها,والآن تشهد نهضتها الجديدة علي يد علماء مصريين سيطروا علي المجتمع العلمي,وأصبحوا يقدمون للدول الأخري آخر منجزاتهم,تخيل شريف نفسه ممثل هذه النهضة في وجهها التكنولوجي,أعجبته الفكرة,أوقف جهاز الأحلام المختارة,واكتفي بحلمه الداخلي,وغفا والخيالات تداعب جفونه.
مع الزمن بدأ ح3يثير القلق في نفس شريف,لم يتخيل أن يصل لهذا المستوي من الوعي,أول مرة عصاه فيه ورفض تشريح فأر التجارب متسائلاً:
-لن أمزق فئراناً بعد اليوم.اصنع لك روبوت ركب علي يديه مشرط.
 صاح شريف:
-ملعون أنت,أنا صانعك!
التفت له ح3وقال بصوت بلهجة متهكمة:
-ومن صانعك أنت؟!
ومضي نحو الباب ببطء مستفز...
لمعت هذه الأحداث في ذهن شريف وهو يركض نحو مختبره الخاص في الطابق الثالث الذي أصبح خالياً,يسير وسط فوضي الآلات المهشمة والسوائل المسكوبة,يكز علي أسنانه ويقول بندم"كان لابد من تعطيله من أول مرة,خدعت نفسي بالصبر عليه",توقف صوت الإنذار فشعر بالفراغ الهائل من حوله,قبل أن يسمع صوت يعرفه جيداً شبيه جداً لصوته:
-شريف لن تجد ما تبحث عنه إني أراك,إني أري كل شئ,اصعد للطابق الأعلي,ولا تضطرني لعمل لن يعجبك.
صمت للحظة وقال مؤكداً كل حرف:
-ولن يعجب راندا ولا أبيك.
راندا...أبي!
تردد الاسمان في سمعه بقوة الرعد فانشق قلبه قسمين.
ترائي له وجه أبيه بشعره الأبيض وتجاعيده التي يقاومها بمحاولاته في اكتشاف إكسير الحياة,وراندا مساعدته وخطيبته بعينيها المتألقتين وابتسامتها المشعة حناناً,حذرته مائة مرة من ح3لكنه عزي ذلك لغيرتها من انهماكه معه طوال الوقت:
-العلم حل مشكلات جمة لكنه يعجز حتي اليوم عن فهم طبيعتكن!
-لا أمزح,هذا الروبوت غير البقية,أنا لا أعرف كيف أوصلته لهذا المستوي,لكني متأكدة أنه خطير لدرجة مخيفة,أرجوك يا شريف دمره قبل أن يفوت الأوان
توقف عن الركض لاهثاً من التعب وعاد يركض من جديد للطابق العلوي,دخل غرفة القيادة فرأي أبيه وراندا مصفدين بقيود من الليزر تتوهج بالأصفر,اخترق السكون صوت دبابات وطائرات الجيش تزأر في السماوات والأرض,تنحي ح3عن النافذة,رمقه شريف بنظرة غريبة:
-أين كان عقلي عندما صممتك؟
-أنادم إنت؟!إنك أمام قطعة فنية فريدة,نتاج مئات الأعوام من نضالكم لتغدوا مؤهلين للسيطرة علي الكون,نموذج حي للخيال البشري المتوقد القادر علي المعجزات.
تبادل الرجل والآلة النظرات في جمود,مما جعل من الصعب تحديد أيهما البشري وأيهما الروبوت,عاد ح3وأكمل:
-وتكفي قطعة واحدة.
ثم هوي بقبضته علي شريف لكنه تراجع قبل أن تتهشم جمجمته,تقدم ح3 ناحيته وسدد له أخري تفادها قبل أن يقفز عليه ويسقط الاثنان أرضاً,وسط صرخات راندا وطنين المروحيات التي تحوم حول المبني,أمام شريف يفقد الروبوت الكثير من قوته,شئ غير مفهوم يخفض من مهاراته,لم يع ح3 ما يقوله شريف وهو يلهث ,بينما يمد إصبعه في مكان سري من هيكله ويضغط علي زر مخفي بمهاره بين طيات الأسلاك:
-قطعة فاسدة,لا تعرف نفسها جيداً.
تحرر أبيه وراندا وهرعا ناحيته في خوف,خرجوا من الغرفة متشابكين في اضطراب,ناظرين لح3 الممدد بلا حراك.


عشر دقائق أخري


عشر دقائق أخري
ألقت ظهرها علي الكرسي في إعياء,وهي تهز رأسها في يأس.
ظلت تحدق في اللوحة علي الجدار فترة طويلة,امتزجت الألوان في رأسها إلا أنها استطاعت تمييز امرأة تحتضن ذراع رجل وتريح رأسها علي كتفه في طمأنينة كاملة,هذه اللوحة تفتح في متاهة ذاكرتها المظلمة سرداب مجهول لا تكتشفه الحواس,ناضلت مع عقلها لتجد ما يجتذبها لتلك اللوحة برباط قوي لكنها لم تفلح.
انفتح الباب وأطل تجاوز الخمسين برأسه يرمقها بأسي,ثم داخل راسماً علي وجهه ابتسامة مرغمة,حاول أن تكون طبيعية لكن أدي ذلك لزيادة اضطرابه,التفتت ناحيته ووجهها خال من التعبير,بينما باطن الرجل يلهج"ياربي...لتتذكرني هذه المرة,بدونها أنا وحيد وضائع",أغمضت عينيها لثانيتين وفتحتهما وقد تجلت فيهما لمعة خاطفة,مدت يدها ناحيته تجاهد مع النطق,تهلل وجهه,علي الأقل لم تفزع,قفز وقبض علي يدها متمتماً:
-م...م..د..
صرخت في فرح:
-ممدوح!
-نسرين...زوجتي...حياتي!
قامت تحتضنه في شوق:
-ماذا يحدث لي؟!
كلما تعود ذاكرتها من زنزانة الألزهايمر,تسأله ذات السؤال,تكون إجابته الوحيد ضمها بقوة,فتفهم كل شئ.
تعرف الآن,هذه حجرتهما,وهذا زوجها,تسأل علي حال الأبناء فيخبرها"أمجد سيرزق بولد... ستصبحين جدة,وسلوي في طريقها للسفر كي تدرس بالخارج تعليماً حقيقياً يشبع ذكائها مما حُرم منه هنا",تقترب من اللوحة وتشير في سعادة طفولية:
-لوحتي...ما رسمته في شبابي!
يداعبها:
-ماذا شبابك؟!مازلتي زهرة الشابات.
-آه يا حبيبي...عقلي...عقلي مخرف كأني عشت مئات الأعوام.
يتأمل وجهها الجميل في شغف,من كان يتصور أن الفنانة التشكيلية نسرين كريم,سيأكلها الألزهايمر في أوج نجاحها وشهرتها,كان خبراً صاعقاً علي عارفي قدرها من فنانين ونقاد,ومعجبيها كامرأة فاتنة,طالما تعجبوا من ارتباطها بممدوح هذا,وأصحاب المناصب العليا يهيمون بها ويركعون تحت قدميها لو طلبت,لكنها تتزوج بممدوح حسان الأديب الخامل,الذي عجز عن تحقيق أي نجاح,وبقي في ظل زوجته.
"لوحتي"
أول مرة يراها كانا في مركز الإبداع وأول كلمة يسمعها منها"لوحتي"كان شاباً تملؤه الأحلام,يتعبد في محراب الثقافة,يتابع الأحداث الفنية,ويطارد الندوات واللقاءات الثقافية في مدينة الأسكندرية وبها بقايا من سحر قديم,خلطه الأقدمون من كل الجنسيات ليزينوا عروس البحور.
لوي عنقه ناحيتها,ونهل نظره من الجمال الصافي مستعلناً في كبرياء,أكثر ما أثر فيه,ورد الوجنتان الطبيعي والشفتين النديتين بسلسبيل الرضاب جعلهما لامعتين,وفكر في غواية هاروت وماروت.
-منذ ساعة وأنت تقف أمامها علي تعجبك إلي هذا الحد؟
-إن الطمأنينة في هذه الصورة إما أن تكون واقعية عايشتيها أو حلم تصبين إليه.
التقت نظراتهما في نفس اللحظة...
طوال زاوجهما كانت مفكرته الحية,فهو كثير النسيان والشرود,من النوع دائم الارتباك,الحائر علي الدوام,كان حزمها وحسن تخطيطها العامل الأساسي لنجاح الأسرة,مع عثراته الكثيرة كانت ملجأه,عندما خانه أحد الأصدقاء واستولي علي أفكار حدثه عنها واثقاً,سعيداً لما توصل إليه وسيكتبه,ثم اشتهر بعدها ونال إشادة قوية,لم يكتف بذلك بل أخذ يكيل له السخرية والازدراء في كل مكان,ففقد إيمانه بنفسه جعلته هذه الحادثة يحجم عن ممارسة شغفه بالكتابة,التي أخلص لها ولم تهبها نفسها كأنها الدنيا قررت كفاية نسرين عليه ولم تسمح بالمزيد,قاطع الدنيا وعكف علي آلامه,تنهد وقال لها:
-يبدو أني رجل بلا أي مواهب.
انفرجت شفتاها عن ابتسام طالما بددت ظلمات لياليه,واندست تحت ذراعيه تطوقه في حنان:
-إنك رجل تعرف كيف تحب بإخلاص...ليس له كثيل!
الآن تنقلب الأدوار,يغدو منذ ثلاث سنوات صديقها وهداها في تيهها بأرض النسيان.
بعد فترة صمت بدت في عينيها نظرة غريبة:
-أين سلمي...أريد مكالمتها؟
ضغطت علي أزرار ريموت التليفزيون ووضعته علي أذنها,اختلج وجهه ضغط بيده المرتعشة علي يدها:
-سلمي ماتت منذ عشرة أعوام.
انهارت تبكي علي أختها في حرقة كأنها ماتت اليوم,تماسك وتوجه إلي النافذة يفتحها,بعد دقيقة ستصرخ مهتاجة,ستذرف الدمع وهي تسأل من هو وما الذي أتي به هنا!تجلد في صمت وهو ينظر للسماء يزحف عليها ليل سبتمبر ورائحة هواء الخريف تزيده وحشة,في هذا الوقت يشعر بالضيق,ويتبلبل الزمن داخله,كأن النهار يراوغ ففي هذه الصورة يولد ويموت!
من محل أسفل المنزل انبعث صوت عبد الحليم"الموج الأزرق في عينيك,يناديني نحو الأعمق,وأنا ماعندي تجربة في الحب,ولا عندي زورق",صمت النشيج,الأغنية جلت الصدأ عن عقلها,وعاد لها صوت ممدوح يغني هذه الكلمات,ليالي صفائهما,وهما ممدان علي السرير يشعر بجسدها الدافئ بجواره,وقد ارتويا من رحيق العشق"إني أتنفس تحت الماء",يهجم عليها من جديد دافناً وجهه في صدرها يردد وسط ضحكاتها"إني أغرق أغرق أغرق أغرق",ناقوس بعيد يدق في ماضيها يشير إلي الرجل الواقف أمامها,حبها وحياتها التي سلبها منها سرطان الروح,المتسلل إلي الذكري ليمحوها,ليقاومه الحب وتدحره الذكريات العاطفية المحفورة في بدقات القلب ونبضات العروق.
اقتربت منه بينما ينتظر العاصفة,وقفت إلي جواره في طمأنينة احتضنت ذراعه وأراحت رأسها علي كفتيه,ترسم بحاضرها ذكرياتها في لوحة حية,جاءت شبيهة بلوحة أخري مضي عليها ربع قرن.
قبل رأسها وسمعها تقول في مزيج من الأمل والخوف:
-أعتقد أن بإمكاني البقاء معك لعشر دقائق أخري.
ومن النافذة شاهدا الحياة تصطخب,الضوضاء والأضواء تزيد,يتحرك الكون ومن فيه بسرعة,متلهفين علي المستقبل,متعجلين يسابقون الزمن,بينما هما متجمدين يصارعان الوقت,في عيونهما ضراعة تطلب منه المكوث قليلا هاهنا أو إبعادهما عن هذا العالم,لعالم آخر خال من الألزهايمر,لا يموت فيه الإنسان قبل خروج الروح بسنوات,بخروج عقله من رأسه,والتحليق بعيداً...حيث لا أحد هناك!


الاثنين، 21 أكتوبر 2019

جراح المرآة


جراح المرآة
مازالت الدماء الساخنة تسيل من جسد الكاهن حور وسط صحراء سيناء الملتهبة,توقف للحظة متكئاً علي عصاه الأبنوسية ذات المقبض الذهبي المصاغ علي شكل تحوت,استجمع فيها روحه المبعثرة,ومضي في طريقه وسط بحر الرمال الممتد أمامه,لم ينته صراعه مع الثعبان ذو الرأس الحجرية إلا بعد استنفاد قواه,وسقطته القوية علي أعشاب شعر سخمت الحادة كشفرات موسي.
مع ظهور البدر مضيئاً كحلقة من لجين فضي تسبح في السماء المظلمة,استلقي يرمق الفضاء حوله بعيون سوداء تدور في محجرين متورمين من السهد والعذاب,رآها منعكسة علي البدر تنظر له في رجاء عنيف,أغمض عينيه مسترجعاً,وقفته بجوار الملك أحمس في طيبة منتصراً حولهم الشعب يهتف بحياة مصر وباسم ملكها الظافر,عودته للمنزل مشتاقاً لزوجته ميريت بعد نضال طويل وجهود خارقة,كرسها في سبيل استرداد بلاد النيل من الهكسوس المحتلين,دفع الباب ونادي ببهجة لا حد لها:
-ميريت أين أنتِ,عدت و معي النصر...مهرك الجديد!
طالعه قط أسود مخيف,له طابع قاسي,وتحدث بصوت يعرفه جيداً:
-إذن يكفيك النصر أيها الكاهن حور.
جفل حور واتسعت حدقتاه من المفاجأة:
-أين زوجتي أيها الملعون خيان؟ألم أقتلك في الميدان؟أي خدعة هذه؟
قفز القط علي الطاولة:
-كنت أظنك أذكي من ذلك يا كاهن آمون وحبيب أوزوريس,المطعون بسيفك رجل من أتباعي صورته علي شاكلتي...يبدو أن مشقة القتال أنستك حدسك السحري.
صاح حور أحمر الوجه من الغضب:
-اللعنة عليك وعلي قومك أجمعين!أين ميريت أيها الهكسوسي الحقير.
-أنت تعرف أين تجدها,تعال وخذها...بالمناسبة لديها ثديان رائعان حقاً.
قهقه الصوت وقفز القط من النافذة,هب حور مسرعاً,وفي كل طريق يلاقي أفخاخ خيان, آخرها الثعبان,قبل أن يصل سيناء بالقرب من معبد ست المهجور,حيث يقبع خيان ككاهن أكبر لست المهيمن علي الصحراء,وفي سيناء سيجد قلبه ومستقبله.
فتح حور عينه ودمعة تنساب علي خديه شاعراً بملوحتها علي شفتيه,مسح شفتيه وقد أدرك أن راحته في اللقاء لا في المكوث والنوم,قاوم شلل الإرهاق وسار يحدوه صوتها الرقيق تغني غنائها الجميل"هناك في الأعالي عند أقدام حابي يتوجه حبيبي يقطف من المنابع,برغم كل حاسد زهوراً جميلة,سيأتيني في المساء يحمل خبزاً وماء أنا في انتظارك حبيبي"طالما سمعها منها قبل الحرب الكبري لتحرير البلاد,بعدها تقبل عليه بوجهها البرئ مداعبة:
-سأرد لك مهرك,كنت حمقاء وصغيرة.لن أقبل الآن بأقل من طيبة حرة ومطهرة من الهكسوس.
قدماه تؤلمانه حقاً...لكنها في انتظاره.
دارت به عتبات معبد ست وخيل له رؤية ثلاثة أبواب بدلاً من واحد,ركز حواسه كله واستطاع رؤية ما خلف الأبواب,كلها مسدودة ولا واحد منها,مد يده نحو الجدار ,اخترقته كهلام لزج,عالج من الداخل المفتاح داعياً باسم الإله الواحد الموجد نفسه بنفسه صاحب النور والحكمة,فظهر الباب الحقيقي واختفي الزيف كله عرف مساره فتقدم,يعرف جيداً قوة خيان ومهارته,جمعتهما معارك عديدة أثناء الحرب,استعرضا فيها قواهما في المعرفة وقوة الإدراك ومهارة الحركة والنفاذ لأسرار الكون المقدسة أو ما يسميه الناس بالسحر,أقواها محاولة ملكه أبوفيس خطف الملك أحمس مستعيناً بقواه في الجذب,وتحويل عربته خارج سرب الجيش,وقف الجنود عاجزين بمواجهة هذه القوة العجيبة,وهم يرون العربة تجري بلا جواد,لولا صلابة أعصاب أحمس وظهور أفراد لهم قوي سحرية عاونوه في قطع حبال الجذب الموصولة بخيان,لأصيب مصر بنكبة قاصمة,وهي في ذروة انتصارتها,بوثبة هائلة طار في السماء وحل في العربة الملكية,قابضاً علي عصاه يحركها بذراع قوية وقد تدلي جسده علي جانب العربة,ثبتها في الأرض,فهدأت العربة حتي وقفت,قال أحمس لاهثاً:
-يبدو أنهم لا يقنعون بالسيوف والعجلات الحربية...حروب جديدة! باركك الرب أيها الجندي...
انحني حور بين يدي الملك:
-اسمي حور يا مولاي وأنا كاهن.
شد أحمس علي يديه مبتسماً:
-هذه الأيام كلنا جنود,أيها الجندي حور!
سيكون الباب الفاتحة لألغاز لا تنتهي,في الداخل اكتست الجدران والممرات بالمرايا,صانعة متاهات,أكثر من مرة يرتطم بواحدة منها,وعندما يصطدم بصورته يشعر بالسخرية من الإنسان الذي دوماً تضيعه نفسه وتلهيه عن الحقيقة,ترك لحواسه الخمس الطبيعية وقلبه مهمة هدايته,لن يستخدم السحر,لو ضيعته نفسه فلن يقدر علي إيجاد أي شئ,واجهها مراراً,أصابه الغثيان والدوار, تحسس نفسه ليعرف من هو بين هؤلاء.سمع بكائها الحزين,صرخ باسمها يجاوبه صداه.
 بقي ممر واحد,آخر مرآة,رأي نفسه فيها تذوب وتظهر ميريت محبوسة فيها,تبكي وتنادي,لا تسمعه ولا تراه,غلظت عروقه من الغضب,نزع عباءته الممزقة وتوجه نحو باب الحجرة المقدسة وجد خيان متربعاً في يده حبل يلعب به ببرود مستفز,اصطنع المفاجئة من رؤيته:
-من صديقي حور هنا؟...قاتل أخي سيان ومفتت كبدي عليه؟
عند أسوار طيبة برز سيان دون علم أخيه,تياهاً بغرور الشباب يود إيقاف الزحف المصري,جاهل باستحالة اصطياد النسور المنقضة علي فرائسها المتوحشة,أطلق عليهم طوفان من ماء,فحول حور نفسه لسد عالِ حجب عن الجيش الغرق,أطلق سهام من حمم الشمس,فجعل نفسه جبل من جليد,حلق سيان بصورة وطواط عظيم فأصبح حور زهرة لوتس عملاقة واعتصره بين أوراقه,سقط سيان مقتولاً,واستعر الجنون في قلب أخيه وصمم علي إحراق قلبه,خرج من قصر أبوفيس غير عابئ بنداءاته,الحقد في عينيه يستعلن والرغبة في الانتقام تسيطر عليه,لم يحب في الدنيا أحد كأخيه,يعتبره ولده وصديقه,فقدانه ضربة سببت له اضطراب عصبي اتضح لحور وهو ينزل فوق كرسيه علي وجهه ابتسامة مريضة,يجر خلفه الحبل علي الأرض,تراجع حور خطوة:
-أخيك حكم عليه القدر.
هوي خيان بالحبل الذي أصبح حيات تصرخ في حنق علي وجه حور:
-بل حكمك.
تلاشي حور وبدا خلف خيان:
-للحرب ضحايا كثر,من يشارك عليه توقع الموت,أنت قضيت علي المئات.
استدار خيان وهوي من جديد:
-وستكون أنت وزوجتك بينهم.
اختفي من جديد,هذه المرة خرج من العدم علي صدر خيان وتدحرج فوقه,خرج من فمه شعاع نقر رأسه فانفجر,قام فعاجلته ضربه أوقعته أرضاً.
-صورة جديدة أيها المصري.
التفت حور فوجد عشرات كلهم خيان,احتار مقلباً النظر فيهم,أغمض عينيه وترك حدسه يدله"البصر فخ فاحذره,واستسلم لبصيرة القلب الصادق,الساعي للحق والعدالة"تذكر كلمات أبيه هابو التي تلقاها منه صبياً.
ابتسم للذكري ودون أن ينظر,فتح فمه من جديد وسدد...
لم يبق في الحجرة غير واحد منطرح علي ظهره ينزف الدم من أحشاؤه,انتصب حور فوقه وقال بنبرة هادئة:
-لم يكن لي رغبة غير العلم والسلام...لكنكم بدأتم كل ذلك.
-وأنتم أنهيتموه.
وخرجت روحه مع كلماته.
رجع لميريت,دار حولها مرات عدة,غرز في المرآة عصا تحوت,في الداخل عرفتها ميريت,تشبثت بيها,وانتزعت نفسها من سجن المرآة وهي تبكي من الألم,انفطر قلب حور,وهو يري جسدها يدمي كأنها تنزع عن نفسها جلدها,خرجت مجروحة فداوها أحضانه,حملها ومضي نحو الباب.
أمام المعبد رأي أسرة مصرية تمر بالجمال,هرعوا لهما وقادوهما نحو الخيام,غاب حور عن الوعي مستسلما للرقاد,أفاق بعد أيام فطالعه وجهها,لف ذراعه حول خصرها,فكتمت صرخة ألم من جراح المرآة,جذب يده بعيدا:
-عدت ومعي النصر.
ردت بصوت مفعم بالأمل:
-والجراج ستشفي.
وطرق سمعهما صوت الأطفال يلعبون في مرح,تحت أشعة الشمس الذهبية.