الاثنين، 22 يناير 2024

الشاعر الذي مات حزناً!

 

  

الشاعر الذي مات حزناً!

 

في تاريخ الشعر العربي أسماء صارت أعلاماً علي فنهم، بما خلفوه من دواوين وأشعار، صاغت الوجدان العربي وأثرت لسانه وكتبوا لأنفسهم الخلود كامرؤ القيس والمتنبي والمعري وأبي نواس وغيرهم من مئات اللآلئ المتألقة في أحشاء بحر اللغة العربية علي حد وصف حافظ إبراهيم، وآخرين كتبوا لأنفسهم الخلود بقصيدة واحدة فحسب عرفت عنهم، فشغلوا النقاد والأدباء كدوقلة المنبجي والمنخل اليشكري وابن زريق البغدادي الذي انكسر قلبه ومات حزناً وحسرة، يصدق عليه بيت أمل دنقل في قصيدته الشهيرة" لا تصالح" وهو يصف موت كليب بن ربيعة" ثقبتني قشعريرة بين ضلعين..

واهتز قلبي-كفقاعة-وانفثأ!"

كان ابن زريق شاعراً معدماً من بغداد عاش في القرن الحادي عشر ميلادياً، سافر من بلاد العراق للأندلس، سعياً وراء الرزق كما يفعل حتي الآن ملايين من أهل الدول العربية الذين يرتحلون مفارقين أحبابهم ويدوسون علي قلوبهم كي يحققوا طموحهم المادي، مثلهم سافر ابن زريق تاركاً ابنة عمه التي تزوجها، كي يوفر لها معيشة حسنة كأترابها من نساء بغداد إحدي أكبر الحواضر العربية وعاصمة ديار الإسلام، لابد أنه رأي عز بغداد وثراء أهلها وشاهد نساء الأغنياء يتنعمن في المال والقصور، فحلم أن يصير غنياً وأن يكون لزوجته خدم وحشم كزوجات السادة، لكن بغداد سدت أبوابها في وجهه، فيمم وجهه لدنيا جديدة بالنسبة إليه، وفي الأندلس قصد الأمير أبا عبد الرحمن الأندلسي وتقرب إليه مادحاً، فأراد عبد الرحمن أن يختبر شخصيته فأعطاه جائزة زهيدة، فقال ابن زريق" إنا لله وإنا إليه راجعون سلكت البراري والبحار، والمهامه والقفار إلي هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء النزر" فشعر بانكسار النفس وقلة القيمة، وانشغل عنه الأندلسي عدة أيام بشئون الحكم وهموم الإمارة، حتي تذكره فبحث عنه حتي وجده في الخان الذي نزل فيه عند مجيئه، وسألوا عنه الخانية فقالت إنه لم يخرج من حجرته ولم تره منذ الأمس فصعدوا لحجرته ووجدوه ميتاً وتحت رأسه قصيدته اليتيمة المؤثرة التي لم يعرف له سواها، وحين قرأها أبو عبد الرحمن الأندلسي بكي وقال:وددت لو أن هذا الرجل حي وأشاطره نصف ملكي" هكذا جاءت القصة في كتاب" مصارع العشاق" لابن سراج وتعددت الإشارات لابن زريق في عدة مصادر أخري كـ" الإمتاع والمؤانسة" للتوحيدي، و" يتيمة الدهر" للثعالبي، و" تاج العروس" للزبيدي، ولم يعدم ابن زريق من تشككوا في وجوده من الأساس، فالشك في الشعراء غواية النقاد والأدباء منذ عصر هوميروس صاحب ملحمة الإلياذة والأوديسة أشهر النصوص الشعرية في التاريخ، وانقسم الباحثون لفريقين الأول يدعي أنه لا يوجد شاعر اسمه هوميروس، وأن الملحمة نتاج عدد من الشعراء اليونانيين، والثاني يبرهن علي وجوده التاريخي فنشأت مشكلة لم تحل للآن في عالم النقد الأدبي عرفت باسم" المشكلة الهوميرية"، وفي الثقافة العربية يحيط الشك بالكثير من الشعراء ومنهم من يحق الارتياب في وجوده التاريخي، ومنهم من تكون أسانيد وجوده قوية، فابن زريق مثلاً قصيدته في غاية النبل والذوق بعيدة عن الصراعات الدينية والسياسية التي مزقت بين الفرق والمذاهب، فما الذي يجعل شاعراً ما أن ينشدها ثم ينسبها لاسم وهمي، فيضطر هو أو الرواة بعد ذلك إلي اختراع قصة لذلك الاسم وتلك القصيدة، أجل هناك حالات مشابهة حدثت، لكنها لا تصدق علي ابن زريق البغدادي، فهو حالة إنسانية من الطراز الأول وجودها الفعلي أكثر إقناعاً من ابتكارها من عالم الخيال فلا يصدق عليه وصف الأديب العراقي نعمان الكنعاني بأنه" شاعر عنقائي الوجود"! لأن قصته لا تحمل مبالغات ولا فيها انتصاراً لحزب علي حزب آخر، ولا نستشف منها تكلفاً لإبراز شخصية عامة، فوجوده التاريخ أقرب لواقع الحال.

القصيدة آية من آيات البيان العربي وصفاء اللغة وعذوبتها وحسن وقعها من النفوس، وفيها صراع نفسي درامي قوي بين الأنا والهو والأنا الأعلي، تمتاز بوحدة فنية محكمة، سميت باليتيمة لأن صاحبها لم يعرف له قصيدة أخري، وأغلب الظن أن شعره ضاع مع الكنوز الجمة التي ضاعت من التراث العربي، فكاتب هذه القصيدة لايمكن أن يكون هاوياً أو متكسباً بالشعر عاني من نار الشعر والإحساس حتي احترق بهما، وسميت أيضاً بالفراقية لاشتمالها علي ألم الفراق نحس به ينز من بين مقاطعها، وقد شطح الخيال بالبعض فسموها أم الفرائد لأنهم تصوروا أنها من شعر الجن كتبوها وهم يرون مأساة حياته فعبروا عنها بكتابة هذه القصيدة ووضعوها في رقعة تحت رأسه حين حضرته الوفاة!

اختار لها الشاعر البحر البسيط وهو من البحور المركبة التي تتألف من ٨تفعيلات تتكرر بين مستفعلن وفاعلن، فمثلاً قوله:

قد كان مضطلعاً بالخطب يحمله  فضيقت بخطوب الدهرأضلعه

تتكون من:

مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن   مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن

ذلك البحر يناسب حالته النفسية البائسة، وأشجانه الحزينة، وخير ناقل لتلك لمشاعر تلك الشخصية الحائرة التي ذاقت مرارة الحزن والأسي فجرت علي لسانها أبيات تقطر باللوعة وعذاب الغربة والندم، وفي تلك القصيدة حكم بالغة القوة والجمال، فقد كتبها ابن زريق وهو علي شفا الموت وقد صفت نفسه، بينما ينظر إلي حقيقة الحياة في عينها غير هياب، لقد هرب من الفقر ومن بلاده، ومن ماضيه، ولم يجد الهرب شيئاً، عليه الآن مواجهة الحياة للمرة الأخيرة، وينشد أمامها معزوفته الأخيرة المشحونة بحكم مصفاة تعبر عن إيمانه بالله والقدر وإن كان يقع اللوم علي مخلوق فهو الملوم، يستهل قصيدته برجاء:

لا تعذليه فإن العذل يولعه  قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه

جاوزت في لومه حداً أضر به  من حيث قدرت أن اللوم ينفعه

فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً  من عذله فهو مضني القلب موجعه

يوحد بين زوجته وبين الأنا الأعلي، فكلاهما يلومانه علي ماجري، ويطلب منهما ألا يكثرا من عذله-والعذل هو اللوم-فذلك يؤجج أحزانه ويجعل نيران الحزن والندم تشتعل داخل قلبه، كانت زوجته علي حق حين رفضت هجرته من العراق، لكن رغباته الدنيوية ووسوسة نفسه صبا وقراً في أذنيه فلم يسمعا نداء الحق، والبيت الثاني أشد التصاقاً بالأنا الأعلي فهي تجلده بقسوة اللوم والعتاب، ويرجوها الترفق به، فهو معذب تملؤه المواجع.

قد كان مضطلعاُ بالخطب يحمله  فضيقت بخطوب الدهر أضلعه

يكفيه من لوعة التشتيت أن له   من النوي كل يوم ما يروعه

ما آب من سفر إلا وأزعجه   رأي إلي سفر بالعزم يزمعه

كأنما هو في حل ومرتحل   موكل بفضاء الله يذرعه

مازال يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب، يتجه للحديث للأنا عن الهو أو للمحبوبة عن نفسه التي ضيعته في بلاد الغربة، ولا يمكن إلا أن نرثي له فقد كان صابراً علي خطوب الزمن وأزمات الحياة، حتي ضاق بها صدره وانفلتت الآهات من بين أضلعه، لقد كان السفر هو وسيلته الوحيدة لتحقيق ذاته، ويكفي عذاباً له أن الفراق يؤلمه كل يوم ويطعن بحرابه قلبه المحزون، إنه نادم من صميم فؤاده علي قرار الرحيل فهو نعذب في الغربة ومعذب في الوطن، لا يرجع من سفر حتي يجد نفسه مضطراً إلي سفر جديد، حياته لا تعرف الاستقرار ولا الحضن الدافئ الذي يشتاق له في ليالي الأندلس الباردة، وهو وحيد يناجي هواجسه وآلامه، كأنما كتب عليه السير في أرض الله غريباً في بلاد غريبة لا يهدأ له بال ولا يعرف الانسجام والراحة، كل موضع بمثابة ترانزيت يفضي به ألي موضع آخر، لا يأمن علي روحه ولا يحيا حياة عادية كبقية خلق الله.

ثم يسرد الشاعر ويفند لنا أسباب تركه لبلاد الرافدين، وينطلق علي لسانه ما تعلمه من عبر:

إن الزمان أراه في الرحيل غني   ولو إلي السند أضحي وهو يزمعه

وما مجاهدة الإنسان توصله رزقاً   ولا دعة الإنسان تقطعه

قد وزع الله بين الخلق رزقهمو   لم يخلق الله من خلق يضيعه

لكنهم كلفوا حرصاً فلست تري   مسترزقاً وسوي الغايات تقنعه

والحرص في الرزق والأرزاق قد قسمت  بغي إلا أن بغي المرء يصرعه

والدهر يعطي الفتي من حيث يمنعه  إرثاً ويمنعه من حيث يطمعه

لقد أطمعه الزمان في الغني وعبثت به الخيالات والأحلام، حتي ولو كان سيسافر للسند فعزمه لن يلين ونيته حاضرة، والسند مرتبطة في الخيال العربي بالبعد السحيق الذي دونه مخاطر وأهوال، وذكر هنا كتسريب من لا وعي الشاعر له دلالة علي سيطرة الأمنيات الخيالية علي عقله.

ومن الشطحات الخيالية في البيت السابق إلي الدروس المستفادة والحكمة المتولدة"بطلوع الروح" حرفياً، حيث كانت هذه الأبيات هي آخر ما عهد الشاعر بالحياة، فيقول إن الأرزاق وزعت علي الناس قبل أن يدبوا علي الأرض، فالله لم يخلق البشر للضياع، فلا المجاهدة والصراع علي الرزق، هي الضامن لأسباب الثراء، ولا الدعة والركون إلي الراحة هي المانع من الوصول إلي الهدف، لكنها طبيعة البشر في الحرص والتنافس والطموح الذي جعل الإنسان في حالة طلب ورغبة متواصلة لا يعرف القناعة ولا الرضا، ما يجعله في حالة سعار متواصل يؤدي به أحياناً إلي الهلاك، والزمن يعطي ويمنح علي هواه ليس للإنسان سلطان عليه، فيعطيه من الباب الذي ظن أنه مغلق أمامه ويمتنع عليه مايخيل أنه مضمون لم يبق سوي أن يسقط في راحة يده.

أستودع الله في بغداد لي قمراً   "بالكرخ" من فلك الإزرار مطلعه

ودعته وبودي لو يودعني   صفو الحياة وأني لا أودعه

وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحي   وأدمعي مستهلات وأدمعه

بأسلوب الفلاش باك علي طريقة السينما، يتلفت قلب ابن زريق إلي بغداد، ويتلفت مع قلبه وعيه وذاكرته وكيانه وحواسه جميعاً، فتصفو لغته وترق ألفاظه رقة فوق رقتها، وهو يتذكر محبوبته ووداعها له، فيستودعها الله، ويصورها بأنها قمر يطل علي الكرخ، وهو الاسم الذي كان يطلق علي الجانب الغربي لمدينة بغداد التي يشقها نهر دجلة لقسمين، يعرف الشرقي بالرصافة والغربي بالكرخ، ولكن ذلك القمر لا يطلع من حيث تدور النجوم والكواكب، إنما يطل من فلك الأزرار، وفلك الأزرار يعني ثنايا الثوب، وذلك تشبيه فريد وفي منتهي الرهافة الشاعرية، حتي أنه حير بعض القراء والدارسين، فظنوا أن "فلك الأزرار" أحد أمكنة مدينة بغداد، كان الشاعر يسكن فيه، أورث ابن زريق معناه الجميل إلي شعراء الأندلس الذين جاءوا بعده، فالشاعر الغرناطي ابن هذيل النجيبي يستخدم نفس التشبيه في قصيدة له مطلعها:

ألا استودع الرحمن بدراً مكملاً   بفاس من الدرب الطويل مطالعه

ففي فلك الأزرار يطلع سعده   وفي أفق الأكباد تلقي مواقعه

وأندلسي آخر هو الشاعر والكاتب أبو عبد الله بن زمرك، كاتب سر السلطان ابن الأحمر، يقول كما أورد ابن خلدون في كتاب"رحلة ابن خلدون":

فكم في قباب الحي من شمس كلة   وفي فلك الأزرار من قمرسعد

 أما السلطان تميم بن المعز فيحور المعني إلي شكل آخر بقوله:

كأنما الشمس من أثوابه برزت   حسناً أو البدر من أزراره طلعا

فماذا فعلت يا ابن زريق بقمرك هذا الذي ألهمك وألهم شعراء عدة في أجيال أعقبتك، لقد ودعه وتركه وها هو يتمني لو كان ودع السعادة والراحة واستقبل عالم الشقاء والألم ولم يفارقه، ويعترف إنه قد تشبث به يوم الرحيل ودموعهما سوياً تتدفق من ألم الفراق، واصفاً صورة نابضة لساعة الفراق:

لا أكذب الله ثوب الصبر منخرق   عني بفرقته لكن أرقعه

إني أوسع عذري في جنايته   بالبين عنه وجرمي لا يوسعه

 تشبيه جميل آخر حيث يقول أن ثوب الصبر تقطع وانخرق من لوعة حزنه علي فراق محبوبته، وليس له حيله إلا بترقيعه بمزيد من الصبر.

ويعطينا حكمة سياسية وإنسانية، بأن الله أعطاه ملكاً يتمثل في زوجة محبة ومنزل هادئ دون مشكلات أو منغصات، فغفل عن كل ذلك وسعي لهلاك روحه:

رزقت ملكاً فلم أحسن سياسته   وكل من لا يسوس الملك يخلعه

ومن غدا لابساً ثوب النعيم   بلا شكر عليه فإن الله ينزعه

ويستمر الشاعر في بث شكواه بحرقة والقصيدة كاملة:

 

لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ

قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ

جاوَزتِ فِي نصحه حَداً أَضَرَّبِهِ

مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ النصح يَنفَعُهُ

فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً

مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ

قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ

فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ

يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ

مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ

ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ

رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ

كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ

مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ

إِذا الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً

وَلَو إِلى السَندّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ

تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه

للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ

وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ

رزقَاً وَلادَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ

قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ

لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ

لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى

مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ

وَالحِرصُ في الرِزقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت

بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ

وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه

إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ

اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً

بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ

وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي

صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ

وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً

وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ

لا أَكُذبُ اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ

عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ

إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ

بِالبينِ عِنهُ وَجُرمي لا يُوَسِّعُهُ

رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ

وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ

وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا

شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ

اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ

كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ

كَم قائِلٍ لِي ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ

الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ

أَلا أَقمتَ فَكانَ الرُشدُ أَجمَعُهُ

لَو أَنَّنِي يَومَ بانَ الرُشدُ اتبَعُهُ

إِنّي لَأَقطَعُ أيّامِي وَأنفقُها

بِحَسرَةٍ مِنهُ فِي قَلبِي تُقَطِّعُهُ

بِمَن إِذا هَجَعَ النُوّامُ بِتُّ لَهُ

بِلَوعَةٍ مِنهُ لَيلى لَستُ أَهجَعُهُ

لا يَطمِئنُّ لِجَنبي مَضجَعُ وَكَذا

لا يَطمَئِنُّ لَهُ مُذ بِنتُ مَضجَعُهُ

ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ الدهرَ يَفجَعُنِي

بِهِ وَلا أَنَّ بِي الأَيّامَ تَفجعُهُ

حَتّى جَرى البَينُ فِيما بَينَنا بِيَدٍ

عَسراءَ تَمنَعُنِي حَظّي وَتَمنَعُهُ

قَد كُنتُ مِن رَيبِ دهرِي جازِعاً فَرِقاً

فَلَم أَوقَّ الَّذي قَد كُنتُ أَجزَعُهُ

بِاللَهِ يا مَنزِلَ العَيشِ الَّذي دَرَست

آثارُهُ وَعَفَت مُذ بِنتُ أَربُعُهُ

هَل الزَمانُ مَعِيدُ فِيكَ لَذَّتُنا

أَم اللَيالِي الَّتي أَمضَتهُ تُرجِعُهُ

فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ

وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ

مَن عِندَهُ لِي عَهدُ لا يُضيّعُهُ

كَما لَهُ عَهدُ صِدقٍ لا أُضَيِّعُهُ

وَمَن يُصَدِّعُ قَلبي ذِكرَهُ وَإِذا

جَرى عَلى قَلبِهِ ذِكري يُصَدِّعُهُ

لَأَصبِرَنَّ على دهر لا يُمَتِّعُنِي

بِهِ وَلا بِيَ فِي حالٍ يُمَتِّعُهُ

عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِبُ فَرَجاً

فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ

عَسى اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا

جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ

وَإِن تُغِلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ

فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ

 

الجمعة، 19 يناير 2024

اسمها فلسطين

اسمها فلسطين

فلسطين في العصور القديمة

 

فلسطين هي المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط ، في عهد بعيد جداً قبل ميلاد السيد المسيح بحوالي ٢٥٠٠سنة(نختصر الفترة التي سبقت الميلاد بحرفي ق. م) استوطنها قوم يسمون الكنعانيون، ثم هاجرت قبيلة يونانية من جزيرة كريت تقريباً ١٥٠٠ق.م(نستخدم كلمة حوالي وتقريباً عادة في تلك التواريخ البعيدة جداً لأنه من الصعب معرفتها بدقة)، كان اسم القبيلة pelest، ومن اسم هذه القبيلة(البلست) اشتق اسم(بالستين) ثم فلسطين، حيث انسحب الجزء علي الكل، وأصبح كل سكان تلك الأرض يسمون الفلسطينيون.

ذكر اسمها في نقوش مصر القديمة، ووردت عند هيرودوت المؤرخ اليوناني، وأرسطو الفيلسوف الكبير الذي يسمي المعلم الأول، ورسمها بنفس الاسم وميزها ككيان مستقل، الجغرافي اليوناني بطليموس، وفي التوراة نفسها ذكر أنها أرض الفلسطينيين ففي سفر التكوين نقرأ "وتغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياماً كثيرة" وعاش هناك قبيلتين من القبائل العربية  الكبري هما الأنباط والغساسنة.

بالقوة والسلاح دخلها اليهود حوالي ١١٨٦ق.م بقيادة يوشع بن نون، وحاربوا الفلسطينيين، وتمكنوا من إخضاع بعض مدنهم، ثم انقسموا علي أنفسهم بعد وفاة النبي سليمان حتي وقعت الأرض التي حاربوا لأجلها في يد الآشوريين عام ٧٢٠ق.م(الآشوريين أصحاب حضارة غنية مكانها العراق حالياً)، وأسروا بعض أهلها وقادوهم لمدينة نينوي، وفي ٥٨٦ق.م(لاحظ أن التواريخ قبل الميلادية تكتب بطريقة تنازلية كلما تقدمت الأحداث) جاء نبوخذ نصر فهدم معابدهم وسبي معظم السكان لمدينة بابل فيما عرف بالسبي البابلي، بعد ذلك حكم فلسطين الفرس واليونان، وبعدهما حل العصر الروماني حيث طرد اليهود من أرض فلسطين نتيجة للثورات والقلاقل التي دبروها مما تسبب في إزعاج الإمبراطورية اليونانية، فحاصر القائد الروماني تيتوس القدس عام ٧٠م، وقضي علي بقية اليهود وأحرق هيكلهم عقاباً لهم، وكان ضمن جيشه فرقة عربية نبطية،وبدأ الشتات اليهودي، ويري بعض علماء اليهود أنه أمر قدره الله علي بني إسرائيل،نتيجة لذنوبهم و يجب طاعته.

علي أرض فلسطين ولد المسيح ورعت سمائها طفولته وشبابه، ففي بيت لحم ولد نوراً أراد الله منحه للعالم، حملت به مريم البتول من روح الله، وفي بقعة ميلاده المجيد بنيت كنيسة المهد بأمر من الإمبراطور قسطنطين الكبير ٣٣٥م، وفي في الناصرة عاش حياته الطيبة يدعو للتسامح والحق ويحاول هداية بني إسرائيل بعد ضلالهم، وكانت فلسطين وجهة قبيلة قريش في رحلتي الصيف والشتاء قبل بعثة النبي محمد وحلول أنواره علي العالم المعمور، وأول من سن هاتين الرحلتين المذكورتين في القرآن الكريم هاشم بن عبد مناف الجد الثاني للرسول العدنان، الذي توفي بمدينة غزة ودفن فيها وصارت منذ ذلك اليوم تعرف بغزة هاشم، وفي مدينة القدس يقع المسجد الأقصي أول قبلة للمسلمين، وكنيسة القيامة أهم الكنائس المسيحية وأكثرها قداسة ويعتقد اليهود بوجود هيكل سليمان داخل نفس المدينة، أي أن مدينة القدس مقدسة لدي أتباع الديانات الثلاثة، وكان من المفترض أن تصير مثالاً للمحبة والتآخي بين الجميع، لكن للأسف ظلت ساحة للحرب والقتال المتواصل علي مر التاريخ، وربما المدينة التي سميت بمدينة السلام لم تشعر أبداً بالسلام.

بعد معركة اليرموك ٦٣٦م أصبحت فلسطين ضمن نفوذ الدولة العربية الفتية، وبداية من ١٠٩٦تعرضت فلسطين لعدة حملات أوروبية، رفعت الصليب شعاراً لها لتخفي أغراضها الاستعمارية تحته، فسميت بالحملات الصليبية، واستمر الدم ينزف في مدينة السلام "واستشهد السلام في وطن السلام" كما غنت فيروز بكلمات الأخوين الرحباني، حتي تمكن صلاح الدين من استعادته بعد توحيد مصر والشام والحجاز واليمن، للقضاء علي الجيوش الغربية الساعية لالتهام خيرات الشرق. ومنذ عام ١٥٠٠م حتي الانتداب البريطاني ظلت فلسطين جزءً من السلطنة العثمانية.

خريطة فلسطين

إذا نظرنا للخريطة نجد مساحة فلسطين ٢٧, ٢٤كيلو متراً مربعاً، يحيط بها أشقاؤها من الدول العربية، فمن الشرق سوريا والأردن، ومن الشمال لبنان،مع الأخذ في الاعتبار أن تلك البلاد جميعها، كانت كتلة واحدة تسمي الشام، قبل أن يقسمها الاستعمار سياسباً، كما قسم العديد من الدول العربية لإضعافها، ومن الجنوب مصر

تحفل فلسطين بالعديد من المدن التاريخية :

أريحا: واحدة من أقدم المدن في العالم،ويعني اسمها في اللغة الكنعانية "القمر" ومازلت تعرف بمدينة القمر، هاجمها الهكسوس ما بين ١٧٥٠-١٦٠٠ق.م،واتخذوها قاعدة لهم، أول مدينة هاجمها يوشع بن نون، مناسبة لزراعة المحاصيل التي تنمو في المناطق الحارة.

 عكا:تأسست علي يد الكنعانيين ودعوها باسم "عكو" أي الرمل الحار، اشتهرت بصناعة الزجاج، عثر علي حفريات داخل المدينة تعود لعهد المملكة المصرية المتوسطة زمن الملك المصري سنوسرت، وآثار تعود لعهد تحتمس، تمكنت من صد نابليون بونابرت، معروفة بأسوارها وأبراجها العالية.

 حيفا:تأسست كقرية صغيرة في عهد كنعان، وهي ميناء هام علي شاطئ البحر المتوسط.

 الناصرة: إحدي أكثر المدن قداسة في الديانة المسيحية، نشأ فيها المسيح وسمي بيسوع الناصري نسبة إليها، وتسمي بالكنعانية "عين أيل" أي عين الحياة وذكر اسمها في الإنجيل ٢٩مرة.

الخليل: وضع أساسها الكنعانيون، بها المسجد الإبراهيمي الذي يحوي مدافن الأنبياء إبراهيم وإسحق ويعقوب، وسميت نسبة إلي إبراهيم أبو الأنبياء الملقب بالخليل.

 بيت لحم: مسقط رأس المسبح، بنيت في عهد الكنعانيين، تقع ضمن سلسلة جبال القدس، وبها كنيسة المهد، كان يوجد فيها معبد كنعاني، استعمله بني إسرائيل في فترة وجودهم هناك لتقديم قرابينهم من الحيوانات للرب فعرفت ببيت لحم.

 رام الله: مصيف فلسطيني ساحر، تعني كلمة"رام" الأرض المرتفعة بالكنعانية، وأضاف لها العرب كلمة الله، فتعانق في اسمها مراحل التاريخ الفلسطيني.

غزة: من أقدم المدن في العالم، تأسست يد الكنعانيين في القرن الخامس عشر ق. م، سموها"هزاتي" واسمها مشتق من معني العزة والقوة، يطلق عليها في التاريخ غزة هاشم، لأن الجد الثاني للرسول الكريم محمد مات ودفن هناك، مسقط رأس الإمام الشافعي أحد العلماء الكبار في الدين الإسلامي الحنيف، ومؤسس المذهب الشافعي، ويقول فيها شعراً:

وإني لمشتاق لأرض غزة    وإن خانني بعد التفرق كتماني

سقي الله أرضاً لو ظفرت بتربها   كحلت به من شدة الشوق أجفاني

الطنطورة:مرفا طبيعي جميل يقع علي شاطئ البحر المتوسط جنوب حيفا، عرف بخصوبة أراضيه، وبساتينه، وعمل أهله بالفلاحة والصيد، هاجمتها العصابات الصهيونية ١٩٤٨،وقامت بواحدة من مذابحها العديدة في حق الفلسطينيين(كتبت الروائية المصرية رضوي عاشور رواية بعنوان الطنطورية اقرأها في أقرب فرصة لأنها ستكشف لك جوانب عدة من التاريخ الفلسطيني).

 

 وفي القلب مدينة القدس ذات التاريخ الثري والمتنوع والملهم، التي يهفو إليها قلوب أصحاب الاديان الثلاثة وعرفت بمدينة السلام، لكن صوت السيوف والبنادق، طحن أناشيد السلام الذي يحلم به الجميع.

تنقسم أرضها إلي ٤مناطق:

١-المنطقة السهلية وتضم سهول فلسطين ومن أجملها السهل الساحلي من غزة إلي حيفا.

٢-المنطقة الجبلية، وتضم سلاسل الجبال بين فلسطين وسوريا، ومن أشهرها جبل جرزيم البالغ ارتفاعه ٨٨١متر،وجبل عيبال ٩٥٠متر،وبين هذين الجبلين تقع مدينة نابلس، وجبل الطور أو البركة الذي يشرف علي مدينة حيفا.

٣-منطقة الغور وتمتد بين طبرية  والبحر الميت، وسميت بذلك لانخفاضها عن سطح الأرض.

٤-منطقة بئر سبع، وتدعي النقب، وتضم مساحات شاسعة من الصحاري، وتشكل ما يقارب من نصف مساحة فلسطين.

 

صهاينة ومستعمرون

الصهيونية حركة استعمارية، ارتدت عباءة الدين اليهودي لتتخذ لنفسها صفة القدسية، وتهدف لحشد اليهود في فلسطين، اتخذت اسمها من جبل صهيون بمدينة القدس(مدفون فيه بمقبرة صهيون المسيحية التاريخية جثمان الشهيدة الصحافية شيرين أبو عاقلة، بعد أن أصابها الجيش الإسرائيلي بعيار نياري).

مؤسس الحركة الصهيونية والرجل الذي حولها من فكرة تتناقلها الألسن منذ القدم إلي حيز التنفيذ الكاتب النمساوي المجري تيودور هرتزل( الكتابة عمل هام جداً وعظيم جداً لا يعرف قدره ويبجله سوي الأمم المتقدمة والمجتمعات الراقية، يمكنه شق طرق جديدة في الحياة، فقد بدأت النظرية الماركسية بكتاب رأس المال لكارل ماركس، وعلم الاقتصاد الكلاسيكي تأسس بكتاب ثروة الأمم لآدم سميث، وعلم الاجتماع بدأ من مقدمة ابن خلدون وغير ذلك من مئات الكتب التي شكلت الحضارة والتاريخ الإنساني) ويحلو للصهاينة تسميته بالأب الروحي لإسرائيل، ولد في بودابست عاصمة المجر ١٨٦٠،درس في فيينا عاصمة النمسا الحالية، واشتغل بالكتابة الأدبية، وفي ١٨٩١عين مراسلاً لإحدي الصحف، كان يري في البداية أنه يجب علي اليهود الاندماج بين الشعوب التي يقيمون فيها، لكنه تخلي عن ذلك الرأي وبدأ يدعو لإنشاء دولة يهودية مستقلة، في كتابه المسمي الدولة اليهودية، ولم يحدد فلسطين كوجهة محددة، لكن حين عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل، قرر أعضاؤه أن تكون فلسطين هي مكان إنشاء الوطن القومي لليهود، وسموها بأرض إسرائيل! وصاغوا برنامج الصهيونية وكان ضمن التوصيات إنشاء شركة لشراء الأرض وأعمال الاستعمار، وأقروا العلم الصهيوني المستمد من نجمة داود، والنشيد القومي المستمد من قصيدة للشاعر اليهودي، نفتالي هيرتس إيمبر، وقال هىرتسل كلمته"اليوم أنشأنا الدولة اليهودية"، مات هيرتزل بنوبة قلبية في ١٩٠٤ودفن في فيينا بعدما جعل قضية إسرائيل محل اهتمام دولي واسع، وبعد النكبة تم نقل رفاته لجبل بفلسطين أسموه جبل هرتزل تكريماً للرجل الذي مهدت كلماته لقيام إسرائيل، ويضم مقابر قادة الكيان الصهيوني كإسحق رابين وجولدا مائير.

وقد عارض العديد من اليهود دعوة هرتزل، وفضلوا البقاء في أوطانهم التي عاش فيها أجدادهم ولم يعرفوا سواها،ومن هؤلاء العالم اليهودي أينشتاين صاحب النظرية النسبية الذي صرح في يناير ١٩٣٩"إنني لست من أنصار الصهيونية، ولا أعلم لماذا يطالب الصهاينة بإنشاء دولة لليهود"، والدكتور جودا ماجنس أول عميد للجامعة العبرية الذي قال"إن معارفي بطبيعتي اليهودية تجعلني أشك في قيام دولة إسرائيل علي حدود مسلحة، ومثل هذه الدولة لت تكون إلا مؤقتة ولا تدوم".

 أما اليهود الذين لم يتمكنوا من الانغماس في الشعوب التي انحدروا منها، ولم يكن لديهم هناك مستقبل أو عمل أو حتي أمل، فهؤلاء من لبوا دعوة هرتزل حيث الأرض الموعودة، التي ستمنحهم بيتاً وعملاً وسلاحاً لطرد الفلسطيين ولحماية أنفسهم ضد هجمات أصحاب الأرض الأصليين، وتلك هي فكرة"المستوطنة" التي تأسست عليها إسرائيل، أو بالأصح الجماعات العرقية المتنوعة المختلفة التي ارتحلت ومازالت ترتحل من شتي بقاع الأرض لفلسطين تحت ستار اليهودية، سعياً وراء حلم الاستيطان.

في عام ١٩١٤اندلعت الحرب العالمية الأولي بين دول المحور:ألمانيا والنمسا والدولة العثمانية وبلغاريا، ودول الحلفاء: بريطانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة، فوجدها الصهاينة فرصة للتحالف مع الاستعمار لتثبيت أقدامهم في فلسطين، فاتصلوا بالجبهتين المتحاربتين! وقرروا في النهاية التحالف مع الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس من فرط اتساع مستعمراتها في العالم وقتئذ، وبعد ذلك بعامين أعلن العرب بقيادة الشريف حسين ثورتهم علي الحكم العثماني الغاشم الذي انتهج سياسة سحق الهوية العربية وطغي قادتهم في بلاد العرب  كأمثال جمال باشا المعروف باسم جمال السفاح، وقد ساهمت تلك الثورة التي كان يأمل قوادها نيل استقلال بلادهم كما وعدهم الإنجليز في إحراز القوات البريطانية انتصارات هامة، ودخل الجنرال ألنبي مدينة القدس عام ١٩١٧وقال "الآن انتهت الحروب الصليبية"، ومن القدس واصل زحفه حتي بيروت وطرابلس، وأصبح الشام تحت القبضة البريطانية.

وبالطبع لم تكن بريطانيا صادقة في وعدها للعرب، فسرعان ما تمت معاهدات بين الحلفاء، منها المعاهدة الشهيرة سايكس-بيكو ١٩١٦بمصادقة من روسيا القيصرية مثل الجانب البريطاني مارك سايكس، والجانب الفرنسي جورج بيكو، وقسموا خلالها الشام والعراق كمناطق نفوذ بين الدولتين، وفي ١٩١٧صدر وعد بلفور وزير خارجية بريطانيا لليهود، علي شكل رسالة وجهها آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا، للبارون اليهودي ليونيل روتشيلد، وسماه العرب" الوعد المشئوم" و "وعد من لايملك لمن لا يستحق"، وجاء بعد ٢٠عاماً من السعي الدءوب للصهاينة عقب المؤتمر الصهيوني الأول ونصه الكامل:

" وزارة الخارجية

الثاني من نوفمبر ١٩١٧

عزيزي اللورد روتشيلد

يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي علي العطف علي أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض علي الوزارة وأقرته:

إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلي تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، علي أن يفهم جدياً أنه لن يؤتي بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التس تتمتع بها الطوائف غير اليهودية في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلاد الأخري.

وسأكون شاكراً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح.

المخلص

آرثر بلفور"

وهكذا وجدت الصهيونية منفعتها في حضن الاستعمار، واحتضن الاستعمار الصهيونية لتحقيق مشاريعه وخططه في المنطقة، وهو ما عبر عنه لورد بالمرستون وزير الخارجية البريطاني عام ١٨٤٠ بقوله" ستكون فلسطين اليهودية سداً في وجه أي محاولات شريرة لإنشاء دولة عربية تضم مصر والشام، وتهدد مصالحنا من جديد" وهذه العبارة تمس صلب تحالف القوي العظمي مع إسرائيل، حيث اوجدت ذلك الكيان الغريب علي الأرض العربية، لتمزيقها واستنزاف طاقتها في محاربته، ولتكون إسرائيل يده في المنطقة العربية.

في ١٩٢٠انعقد المجلس الأعلي للحلفاء في مدينة سان ريمون بإيطاليا، وقرروا وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ووضع العراق وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، علي أن تلتزم بريطانيا  بتنفيذ وعد بلفور، وفي نفس العام حدثت معركة ميلسون بين قوات متطوعين سوريين بقيادة وزير الحربية يوسف العظمة، والجيش الفرنسي بقيادة الجنرال ماريانو غوابيه، انتهت بانتصار القوات الفرنسية، واستشهاد يوسف العظمة وهو أول وزير حربية عربي يموت في ساحة المعركة في العصر الحديث،ورثاه الشاعر المصري علي محمود طه في قصيدة"شهيد ميلسون"(للشاعر قصيدة أخري اسمها فلسطين"اسمعها بصوت موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب).

بمجرد بدأ الانتداب بدأت بريطانيا تحقيقها بتهويد فلسطين ببرنامج استعماري محكم، تصدي له الفلسطينيون وجرت العديد من المصادمات المواجهات العنيفة عام ١٩٢١و١٩٢٨واستمر العنف يتصاعد حتي بلغ ذروته في ثورة فلسطين الكبري ١٩٣٦ ،  وسيطر شعور بالخوف وترقب أيام عصيبة يجهزها القدر للعرب، فأثناء زيارة الملك سعود لفلسطين ١٩٣٥وكان حينها مايزال ولياً للعهد، ألقي الشاعر عبد الرحيم محمود قصيدة قال فيها:

يا ذا الأمير أمام عينيك شاعر   ضمت علي الشكوي المريرة أضلعه

المسجد الأقصي أجئت تزوره   أم جئت قبل الضياع تودعه

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، صدر قرار التقسيم  ١٩٤٧،وقد رفضه العرب كافة بينما رحب به الصهاينة وأعلن حاييم وايزمان من سيصبح فيما بعد أول رئيس لإسرائيل، بسبب تأثيره الهائل في وجودها، عن حماسه للتقسيم لاشتماله علي دولة يهودية" إن اليهود سوف يكونون حمقي إذا لم يقبلوا بها حتي ولو كانت في حجم مفرش المائدة"، وأضاف" إن مملكة داوود كانت أصغر من ذلك لكنها في ظل سليمان أصبحت إمبراطورية"!

النكبة... النكسة... العدوان

لم يعد هناك حلاً سوي الحرب، اتجهت القوات المصرية والعراقية والاردنية والسورية واللبنانية والسعودية ١٩٤٨، ضد عصابات الصهاينة: البلماخ، الأرجون، الهاجاناه، شتيرن،  وهي قوات دربت ونفذت عمليات في خضم الحرب العالمية الثانية، ما أكسبها كفاءة عسكرية ممتازة، بينما القوات العربية مازالت تحت الاحتلال، وتسليحها ضعيف مقارنة بما أمدت به بريطانيا الصهاينة من أحدث وأقوي أسلحة العصر، بل صدق أو لا تصدق، سلمت قيادة العرب في الحرب للسير البريطاني جون باغوت جلوب، ورغم صور البطولة والفداء من كل البلدان العربية، هزم العرب في حربهم الأولي مع إسرائيل، وجرت مذابح رهيبة بحق الفلسطينيين، كمذبحة دير ياسين والطنطورة، وأجبر ٨٠٠٠٠٠فلسطيني علي ترك منازلهم وبلادهم والنجاة بحياتهم، وسمي العرب تلك الحرب النكبة التي ضاعت بعدها فلسطين، وعندما زار الأديب اليهودي آرثر كوستلر القدس ١٩٤٨كتب"ليست هناك مدينة أخري تسببت في كل هذه الموجات من القتل والاغتصاب والبؤس غير المقدس علي مدي قرون كما فعلت هذه المدينة المقدسة".

عقب نكسة ١٩٦٧وهزيمة القوات المصرية، احتلت اسرائيل شبه جزيرة سيناء، وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، توسعت إسرائيل التي كان أقصي أحلام حاييم وايزمان أهم شخص في تاريخها بعد هرتزل قطعة أرض ولو حتي بمساحة مفرش المائدة، وتوغلت أكثر في أرض العرب، وأجبرت أكثر من ٣٠٠٠٠٠فلسطيني علي مغادرة أراضيهم، وخلال سنوات بقائها علي الأرض المحتلة، قامت بعمليات تطهير عرقي بشعة(التطهير العرقي جريمة ضد الإنسانية تسعي للقضاء علي مجموعات تختلف في الديانة أو الجنسية، سواء بطردهم أو قتلهم للتخلص لحساب مجموعة أخري تمتلك وسائل القوة) دفعت تلك العنصرية الممقوتة المناضل الكبير لسياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا، للوقوف بجانب الحق الفلسطيني لدرجة أن يقول" إننا نعلم جيداً أن حريتنا منقوصة من دون الحرية للفلسطينيين"، وفي ١٩٧٣ قام أبطال الجيش المصري بتحرير سيناء.

لم تهدف إسرائيل لاحتلال فلسطين فحسب، بل طال عدوانها الدول العربية المجاورة، لكن فلسطين هي الفريسة القابعة بين مخالب الصهيونية،تمزق فيها علي مراحل، آخرها ما جري لغزة من محاولة إبادة جماعية وتهجير سكانها، وقتل آلاف الأطفال والمدنيين وتدمير آلاف البيوت السكنية، ومنع الغذاء والدواء والكهرباء عن القطاع بأكمله، وقصف المستشفيات والمدارس واستخدام أسلحة محرمة دولياً ضد النساء والأطفال، ومنع كل مقومات الحياة عنهم، حتي أن الاطفال يموتون من الألم لعدم توافر مخدر أثناء إجراء العمليات الجراحية!

 

نجوم في سماء فلسطين

رغم كل الآلام مازالت فلسطين تمد الثقافة العربية منذ بدء الأزمة، بالعديد من الأسماء اللامعة، من الشعراء: محمود درويش، سميح القاسم، فدوي طوقان، ومن الأدباء:غسان كنفاني، إيميل حبيبي، مريد البرغوثي، ومن المفكرين: إدوارد سعيد، نور مصالحة، وفي الرسم ناجي العلي(رسوماته تعبر عن كل مآسي فلسطين والعرب، تأملها في هدوء وبصيرة وستجد فيها رسائل عميقة وملهمة).

الختام:

 أعزائي اليافعين من أبناء الوطن العربي رجال المستقبل وقادة الغد، والأمل المنير في عيون الأمة، العلم هو الخطوة الأولي في أي طريق، بالعلم أصبح إيلون ماسك من أغنياء العالم وشركاته يتلهف علي إبداعاتها العلمية البشر في كل مكان(أجل العلم هو إبداع قرننا هذا) ، وسيطر مارك زوكربيىج علي العالم وعلاقات الناس من خلال موقع الفيسبوك... وبالعلم والمعرفة تضخمت إسرائيل وبالجهل والتخلف تراجعنا... أتمني أن يكون ذلك الكتاب المبسط مفيداً لكم في تشكيل خلفية عن تاريخ وثقافة فلسطين، تلك البقعة الغالية علي قلب كل عربي، وكل حر في العالم، فإنها الأرض الوحيدة التي مازالت ترزح تحت طغيان الاحتلال، ويناهض ذلك الاحتلال ملايين عبر العالم من المسلمين والمسيحيين واليهود الذين لم يتصهينوا، بل وتتعالي أصوات من داخل إسرائيل نفسها، تجرم وتفضح السياسات المقيتة لقادة إسرائيل، من مؤرخين وفنانيين وباحثين، وطبعاً كما تخمن الآن بالضبط يتم تكذيبهم والهجوم عليهم وقمعهم لو تطلب الأمر...

 وأتمني من كل فؤادي، حين تكبرون أن تصير أيامكم احلي وأبهي وأزهي من أيامنا، وأن تتخذوا من المعرفة منهجاً للحياة، وتمضوا علي طريق العلم تسابقون به شتي الأمم، لأن العلم هو الاختبار الحقيقي لنجاح الأمم أو فشلها.

وختاماً... سلاماً لكم يا أبناء العرب في كل مكان... وسلاماً أهل فلسطين... وسلاماً لكل العالم...

 

المراجع:

١-فلسطين أربعة آلاف عام في التاريخ، نور مصالحة، مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠٢٠.

٢- مأساة فلسطين في الشعر العربي الحديث، كامل السوافيري، مطابع سجل العرب، ١٩٨٥.

٣-إسرائيل وفلسطين، آفي شليم، المركز القومي للترجمة، ٢٠١٣

٤-صك المؤامرة، جميل عطية إبراهيم وصلاح عيسي، دار الكرمة، ٢٠٢٠.

٥-شبكة الإنترنت.