الاثنين، 27 أبريل 2015

فرح



فرح


-كتابة...!مازلت تحرضني علي الكتابة؟!سأخبرك عن حكاية كتمتها في صدري عامين.قد تكون سمعت بموقع اسمه "الحوار المتمدن"موقع عام متاح لكل من سجل فيه أن يقول ما عنّ له بلا ظابط ولا رابط,كتبت فيه مقالة تافهة أيام حكم الجماعة العفنة إياها, ولم أكن أعرف بسهولة المشاركة فيه,وظننتهم ارتضوها لألمعيتها وعبقريتها اللامسبوقة,ففرحت...قد تكون تلك أكبر فرحة فرحتها في حياتي,وكلمت صديق عمري ليشاركني سعادتي بهذا الإنجاز الكبير في حياتي...آه كم كنت ساذجاً!عزمته علي المقهي وسعادتي تفيض لتملأ أكواب الشاربين,وتشعل تدخين المدخنين,كأن الفرحة التي حرمت منها طوال عمري هبطت عليّ يومها,صاحبي هذا لم يكن يعرف ما هي القراءة ولا كيف تكون الكتابة,كنت أعهد له مراجعة ما كنت أكتبه وأعرضه دوماً عليه لعل كلمة تكون ناقصة,حرف ساقط,وأحدثه عن موضوعات وكتب,فيعيد الحديث عنها أمام الناس بذات كلماتي بل وأسلوبي ولهجتي كأني أسمع نفسي مرة أخري,وأري في عينيه زهو كنت أتفهمه لمعرفتي بمدي تكوينه النفسي والعقلي المنقوص لدرجة هو نفسه يشعر بها...أتدري كيف استقبل صاحبي سعادتي؟كتب ما كان يسمعه مني نفس الموقع,ليلتها كلمني واخذ يلح عليّ لأفتح الفيسبوك فقد أرسل لي رسالة هامة,فتحت فوجدت اللينك أمامي...والله يا أكرم,أسود ليلة في حياتي!كاد الألم النفسي والجسدي يقتلانني ليلتها...خيانة!!!أجل هي الخيانة!وكنت أعرف كيف تكونت نفسه الناقصة حب الانتقاص مني لو وجد فرصة سانحة,حاولت مداراة حزني في الصباح,رآني صديق فقال لي"خيراً؟!وجهك كمن مات له عزيز",حين قابلته شاهد علي وجهي الحزن فارتاح:"أصلك صعبان عليا تقول لي أنك لا تنم وتتعب لتقرأ وتتعلم"أي يخبرني هذا الجاهل الأحمق أن أتوقف عن الكتابة,التي دخلت من أجلها آداب قسم صحافة-ملعونة هي الأخري قطعة خراء-"مجالكوا هذا أي شخص يمكن الدخول فيه ليس ضرورياً أن تكون صحفياً" قالها باستهانة واحتقار, تمر الأيام والبارحة,أسمع شخصاً يجالسنا يقول له لما سمعه يسخر مني ومن عجزي عن الكتابة التي وصفها من قبل"هل ما تفعله تسميه كتابة,هذا هبل" ومرة بثقة الجاهل وأنا تغيظني ثقة الجاهل وبتعالي الأبله"هذا عملك أما أنا فألعب","هو عشان كتبت لك مقالتين في البتاع ده خلاص"يا ابن العاهرة يا حقير! أكيد قلت له ذلك في معرض السخرية مني والتقليل من عملي وحياتي,يا دنيا فلتبيدي بمن فيكِ,يجيبه وهو يقترب مني ليغيظني في تحد"كتبتها فقط لأبيض عليه"وقد أفلحت الفرخة البلدي,حول فرحتي وأملي لحزن وألم شديدان لا زالا والله من يومها ينغصان علي كلما تذكرت موقفه القذر هذا ولو كنت تركت نفسي لغيظي والله لخاصمته ليوم الدين مرة لاستكثاره الفرحة علي وإفسادها ومرة لانتقاصه الدائم لي ولكل ما أكتبه والثالثة لتكراره كلامي أمام كل من يفتح معي موضوعاً ثقافياً , بجرأة منتحل محترف ينسب لنفسه ماليس له,فقلت"إن هذا موقع شبيه بالفيسبوك,متاح للجميع بشرط التسجيل"فإذا به يفح في أذني كنساء الحواري الساقطات وهن ينشرن غسيل بعضهن الوسخ بألسنتهن:"قلت لك"متي قلت لي أي شئ يا ابن العاهرة,لقد كنت أستفيض معك في الكلام وأنت لا تنطق أبداً لأفضفض عما في داخلي من ثوران فكري أحتاج لأذن تشاركني فيه,فكنت أنت هذه الأذن اللعينة التي مازلت أصب فيها لليوم ما يجيش بداخلي من قضايا وموضوعات...حاولت الكتابة فأفسدت عليّ الكتابة صديقي الوحيد الذي صادقته منذ عشرين عاماً,وكشفت لي طبعه اللئيم الذي أعجز عن وصف كيف يتجلي في هذا الموضوع بالذات كلما جاء ذكره,لابد أن تجالسنا يوماً وأدير الدفة نحو هذا الكلام وتري كيف سيسخر وينتقص مني,أنا الذي عرفته بأسماء وكتب ومؤلفين وموضوعات ما كان ليسمع عنها طوال حياته,حدثته مؤخراً عن حضارة سومر,فأصبح هو المتحدث الرسمي باسم الحضارة السومرية لو حدثني فيها أحد أمامه...أفسدته علي وتغير قلبي من ناحيته وسيظل متغيراً ولن يعود يوماً كالسابق...وبعيداً عني وعن أحداث حياتي التافهة,ماذا فعلت الكتابة لأصحابها؟!اسم عظيم وذكر خالد.ماذاعن الآلام والأحزان التي خاضها المبدعون ليكتبوا ما كتبوا؟ماذا عن الهموم التي ركبت ظهورهم وسكنت قلوبهم؟ماذا عن تعبهم ومجهودهم الجبار لتخرج لنا أعمالهم العظيمة الخالدة...وفي هذا الزمان,الكتابة لا يتصدي لها غير صاحبي هذا الذي يلعب,ولا يعرف الهمزة ولا الكسرة ولا الرفع ولا الجزم...وربما يقول واحد من جيل قادم أين أيام العظماء أين أيام أحمد مراد صاحب ملحمة الفيل الأزرق القائمة علي معاني إنسانية عظيمة كالغيبيات والتغييب جن وعفاريت وخمر ومخدرات؟أين عصام يوسف صاحب سيرة ربع جرام عن عالم ساحر هو عالم الإدمان والمدمنين؟أين نبيل فاروق الذي تنبأ بثورة يناير في كتاباته التي ربت أجيال علي أسلوبها ولغتها الرفيعة؟أين زاب ثروت و يقلد عادل إمام"مين زاب ثروت ده؟!"...زاب هذا يا صاحبي آخر نعش في مسمار الثقافة المصرية...إيه دنيا! علي مر التاريخ كانت الكتابة مطمع لكل الناس من مختلف الثقافات,فهي ترفع ذكره وتزيد شرفه وتطرف واحد لا أذكر اسمه في عظمة الكتابة...كاتب عربي قديم هو,وقال إن اليد التي لا تكتب لو قطعت لا تستحق الديةّ!ألم يقسم الله "بالنون والقلم وما يسطرون"ألم يجئ في إنجيل يوحنا"في البدء كانت الكلمة وكان الكلمة عند الله وكان الكلمة الله",شوف يا عم عبد الرحمن الشرقاوي -الله يرحمه هذا الرجل يا أخي- ماذا قال عن الكلمة في مسرحيته العظيمة "الحسين ثائراً" ,أصل كل الأصول وعلة كل أمر معقول هي الكلمة...فانظر اليوم من خسف الله بهم ثقافتنا وكلماتهم العوراء وأفكارهم السقيمة...والله ليست بكلمات ولا أفكار أصلاً...
سرق كياني الغبي, بفعله الأهوج,لا سامحه الله,هل تعرف وجه الرجل الجاد العاقل في كوميكس صفحات الفيس بوك,كنت أنا,وهو وجه الغبي الأحمق,وفي النهاية دوماً يتسبب الغبي في بكاء العاقل ونفخه!تصور غيرت اسمي علي تويتر لـ"تألمت فتعلمت"!!! قلبت عليّ المواجع يا رجل,أنا ماشٍ...خذ حساب الشاي,مع السلامة!
لم يقاطعه بكلمة,مهتاجاً حزيناً سكران من الألم...تركه ينفث عن صدره ,قبل أن يتابعه ببصره وهو يعبر الشارع في خوف من السيارات المسرعة سلم عليه وطبطب علي كتفه وقال في صدق"اكتب,واحتسب الأجر"...ولم يكمل يحتسب أجره قلق وألم وعذاب معرفي أم  سخرية واستهزاء,أم تجاهل لحساب أناس الميديوكر مقارنة بهم فذ!
-فلتحتسب أنت الأجر فليس معي فكة!
يضحك ضحكته الشبيهة بشهقات إنسان يغرق.
قاربت الساعة الخامسة,لمس حقيبة اللاب توب في تردد,وألقي نظرة عجلي علي ملف أزرق يحوي 12ورقة,لامسه بمزيج من تردد وأمل,تمشي حتي وصل لدوران سموحة,لمحه يدور حول حافته ساهماً,في فمه سيجارة مطفأة,حاول تحاشيه واصطناع انشغاله في الموبايل.
-هل تصدق,مرة كنت أجلس في هذا المقهي,كلمته ليأتي للجلوس معي كما تعودنا في هذا الوقت,رد علي بلهجة مستفزة,وصوت أكله خيارة كما قال يثير خلايا سمعي قال وهو يمضغ كالجحش"لا لن أستطيع اليوم,إنني أكتب مقال في الحوار المتمدن"يا أخي لعنة الله علي يوم أريتك أني سعيد,لم أكن أعرف أنك تمتلك كل هذه الرغبة في تسفيه أحلامي,في اليوم التالي جلسنا ماذا فعل,أخذ يقرأ جزء من قصة الحضارة-أنا من أخبرته به!!-تجاهلني وطفق يطالع متخذاً وضع التفكير,واضعاً الإبهام والسبابة والوسطي علي جبينه. أقسم أن ويل ديورانت علي بساطته وجماله ما قدر علي الدخول لعقل صاحبي الأهطل,أخبرني كيف تتبدل الأدوار في الحياة ؟!العجيب أنه يغيظني بعدد لايكاته وشيره التي فاقتني .يزدريني"خليك انت تقعد تعمل لايك لصفحة دار ميريت ومش عارف إيه"!!كلامي حوله لموضوع سياسي سطحي عامي,مع أخطاء لغوية ونحوية تبدأ من كتابة التاء هاء في آخر الكلمة حتي ما شاء الله!وجدت من يصفه بالعبقري والذكي والنابه والمثقف!مرة كتب عن الشيعة وهو لا يعرف منهم غير اسمهم,لولاي أنا الذي ما زال فيّ داء الكلام عمرت دماغه السطحية بعدة موضوعات عن الشيعة...هل قلت كتب؟!أهكذا هي الكتابة!! الحياة لو لعبة كنت كسرتها...حطمني والله لم أعد أقو علي كتابة كلمة من يومها,حتي القراءة زهدت فيها...يا ابن الكلب!أهذا جزائي؟!صحيح أنه لم يكرر فعلته لعدم قدرته علي الاستمرار حتي ولو ظل يكتب بالهراء عن الهراء!إلا أني لا أنساها,قضت علي ما تبقي مني من أمل في خدمة الثقافة,ولا مانع من أن تخدمني الثقافة بعدها في قليل من الشهرة و معجبة جميلة!!...الغريب أنه دائم السخرية من الكتاب والمثقفين,يزدريهم بقسوة الغبي وثقة الجاهل وعناد المتخلف!...آه يا قلبي الجريح من طعنة حمقاء نفدت لك من يد غشيم,لعنه الله جزاء لما سببه لي من آلام مبرحة,وإحباط قاتل,وأصابه بمثل ما أصابني عن قريب.
مرة عاش الدور عليّ وأنا أكلمه في جدلية الثواب والعقاب في الأديان ابتسم بغباء مقاطعاً"سأعطيك مثالاً,أنا مثلأً أحسن منك فـ.....","فلما قال قافية هجاني"صدق والله ابن أوس.
هل تريد نصيحتي..."داري علي شمعتك تقيد",أي عظيم قال هذا المثل؟!
أعاد سيجارته للعلبة وقفز فجأة من أمامه في أوتوبيس أبطأ سيره.
أكمل طريقه نحو كورس الإنجليزية,"لا دراسة حقيقية للسينما ولا لأي علم في الدنيا ما دمت لا تعرف الإنجليزية .عبد الحي أديب سقط في امتحان زكي طليمات لعدم إتقانه للإنجليزية,وذكر في برنامج"زيارة إلي مكتبة فلان"أنه أدرك حينها أن اللغة هي مفتاح المعرفة, هذا شيخ كتاب السيناريو في مصر...أعذر ضعفك في الإنجليزية؛لأني أعرف جيداً ماذا يصنع اللاتعليم المصري في عقول الشعب!" "كما أخبره أستاذه في معهد السينما يحيي سمير,الوحيد الذي أدرك ما يحمل من مواهب قادرة علي تغيير خط السينما.
-لو كنت جئت في الستينيات يا أكرم لكنت حفرت اسمك,حظك السئ وضعك في أيام جزارين أصبحوا منتجون,ليس عندهم غير اللحم,إما يعريه الراقصات بإسفاف وفجاجة,أو يدميه البلطجية بأسلحتهم البيضاء...عزيزة أمير هي أم السينما المصرية والجزار اللي ما يتسمي هو حفار قبرها!
للمرة الثالثة,تتعمد الجلوس أمامه والرجوع بظهرها ناحيته,شعرها القصير منتثر علي جيدها اللامع,عطرها يتخلل مسامه,ضبط نفسه يتأمل شبح خطوط حمالة صدرها البارزة تحت قميصها النبيتي,ويختلس نظرات لظهرها لما تنحني علي الديسك فترتفع ملابسها كاشفة عن بياض ناعم يفرح القلب!
أيام البريزينتيشن كانت موضوعاتها,عن فرويد,جين أوستن,تولستوي,فيلليني,دافنشي,آدم سميث,آل باتشينو,آن فرانك,يوسف شاهين,بوب مارلي.خفف من ثقل تلك الأيام المطالب فيها بالحديث والمواجهة,صوت وكلام فرح,الكل ينتبه لما تتكلم,واثقة من نفسها,متحدثة لبقة,إجادة تامة للغة تثير إعجاب"مستر علاء",صوت منغم يصدر من موسيقي تعزفها الملائكة علي باب الجنة,أناقتها كنجمة هوليوودية في حفل الأوسكار.
رأي فرح وسمعها.لكنه لا يعرفها....

جال ببصره في الحجرة,وجدها ممتلئة بالناس خالية منها!سأل عليها مينا
-جاءت,ورحلت...اتصلوا بها من المنزل وقالوا أن أبيها راح المستشفي...عمرك ما اهممت بأحد هنا ولا حتي بالمدرس!!فلم تسأل عن فرح؟!
أنهي كلامه بغمزة من عينيه وابتسامة من أدرك سراً خفياً!
-كتبت لها شيئاً وأردت إعطاؤه لها
-ماذا كتبت"إلي أختي العزيزة فرحة"؟!
-اقعد ساكت ياله واتركني لحالي
ماهذا النحس,يعني يوم تتشجع وتأخذ معها خطوة تحدث لها مصيبة!أنت فعلاً نحس كما يقولون عليك,لأول مرة أتأكد من ذلك.امشي أنت الآخر وانتظرها ليوم الثلاثاء القادم...لعل العواقب تجئ سليمة وتراها...ترك الكورس كاسف القلب وهبط علي السلالم آملاً أن يعجبها السيناريو الذي خبأ فيه رسالته المرمزة نحوها,معزياً نفسه أنها لابد توثق العلاقة بينهما...لقد قاسي الكثير وحرم الكثير,أفلا يكون الإله به رحيماً,ويمنحه نفحته الربانية يعيش بها ولها."فرح....فرح....فرح"...الله ما أجمل هتاف قلبه باسمها,وأي اسم؟!"فرح"
دعا من قلبه"اللهم امنحها لي,ولن أطلب منك شيئاً بعد اليوم",عاد وفكر"هل تخادع الله؟!ما الحياة إلا امرأة؟!لن يكون عندك رغبة لتطلب بعدها شيئاً...كل ما بعد ذلك ساهل"قادته تأملاته و تجاربه إلي الإيمان بتسيير الإنسان من قبل قوة ما,لكل دين وفلسفة اسم لهذه القوة الغيبية,هو يدعوها"الله"كما لُقن وتربي,كان الله عنده في صغره هو الحل,اليوم هو المشكلة!

انمحي الزمان والمكان بانتهاء الخبر علي التليفون من أختها هناء"الحقي يا فرح بابا في المستشفي!!",فاقت لنفسها فقط حين طمأنها الطبيب بمرور اللحظات الحرجة من الأزمة القلبية الثالثة التي يتعرض لها هذا العام,لم تعرف كيف تمكنت من الوصول...المهم أنها وصلت.
-بابا أرجوك لا تتعب قلبك في العمل لا شئ في الدنيا يستاهل زعل ولا عصبية!
-حبيبتي قلبي فداء تأمين حياتك وحياة أختك في كل فم مفتوح ليلتهم من مال به الزمان...
قبلته علي خده وخرجت تبكي...في حاجة هي لذراعي رجل تتداعي عليهما في لحظات ضعفها,صدر يتلقاها ساقطة من رصيف الحياة المزدحم لفسحة شارع العواطف...حب!هي في حاجة للحب...لحظات حزننا الشديد تكشف لنا ما تحتاجه قلوبنا المحطمة,يترائي لنا من الحقائق ما كان غائباً عنا رغم وضوحه,الحب المسعي الإنساني الأول والأخير في الحياة,كل امرأة يهتف قلبها باسم الرجل,عليكِ مصارحة نفسك يا فرح...أنتِ معجبة بأكرم وتودين إثارة اعجابه والاقتراب منه,لا تخجلي وتقولي ليس هذا وقته,بل هو وقته...كل وقت صالح للحب ولو كان الموت علي بعد ثوان,ما أجمل أن تنتهي حياة الإنسان بقبلة من شفتي حبيبه.
-بابا أنا أحبك من كل قلبي.
فتح لها ذراعيه حانياً.احتضنته باكية.

بريك....الآن هو الوقت المناسب.
خرج مسرعاً لينتظرها علي الباب,شعرها القصير الفاحم يلتمع من الإضاءة,تدخل شيئاً في حقيبة يدها,تلتفت له وتفطن بقلبها أن وقت إعلان الحب أزف,لا تعرف ماذا سيقول,لكنها متأكدة أنه سيقول,تلكأت علي الباب ناظرة له.
-ممكن لحظة....
مينا ينظر بابتسامته المستفزة,يشيح ببصره عنه كيلا يزداد اضطرابه.
-كنت كاتب سيناريو قصير وعايز أهديه ليكِ....
-لي أنا؟!...ميرسي سأقرأه وأقول لك الريفيو السبت القادم.
-السبت القادم....
لمحها بطرف عينه قبل أن يهبط السلالم تفتح الدوسيه بلهفة,واختفي خلف جداره
"إلي فرح التي لا تعرفي...لعلها تذكر دوماً أنها تستحق الأجمل والأفضل في الحياة,فياليت الحياة تدرك ذلك فتعطيها حقها...
مش بالكلام
 فيلم قصير
القصة السينمائية:
رنا  فتاة في العشرين ابتُليَت منذ منذ ولادتها بالصمم والبكم,مما عزلها طوال عمرها في عالم صامت أبرز ما فيه شعور دائم بالحسرة ممزوج بألم الفقد مع سوء تفاهم متواصل بسبب عدم قدرتها علي سماع الآخرين والحديث معهم,تتفاقم أزمتها للذروة بسبب ابتعاد الجميع عنها لعجزهم عن التواصل معها,مما يوقعها في مصيدة الاكتئاب المزمن,ولم يكن لها سلوي في الحياة غير القراءة والجلوس أمام البحر السكندري البديع تتأمل الأمواج و وجوه الناس.
طارق طالب جامعي,فرق السن بينها واضح لصالح طارق من ناحية العمر المتقدم,بسبب رسوبه الدائم لم يُنهِ تعليمه حتي سن متأخرة نسبياً لاقتناعه أن ما يُقدم له ليس إلا هراء يخجل منه ويحتقر ذاته كلما فكر أنه مجرم وضحية في نفس الوقت لأكبر جريمة تُرتكب في حق كل الأجيال,هو ما يجعله هو أيضاً معزولاً كعزلتها وتفاصيلها:القراءة بنهم,وتأمل وجوه البشر.
يراها كل يوم عند العصر علي شاطئ البحر.
يظنها طبيعية,تعاني من مزاج سئ كمزاجه,يحاول التقرب منها بانجذاب حسي,وجهها الجميل الهادئ,بياضها الحليبي,قدها المُلفت,شعرها المنسدل علي كتفيها متموجاً سارحاً حتي نهاية الدنيا.وعاطفي,الحزن البادي علي كليهما,الانعزال الجليدي الغارقان فيه عما حولهما,و رؤيته لأغلفة كتب تحملها معها دوماً(الحرافيش,ثلاثية غرناطة,دواوين درويش ودنقل,أجزاء من موسوعة قصة الحضارة,كتب سلامة موسي وزكي نجيب محمود,وروايات فتحي غانم وبهاء طاهر......,......,......"
كل هذا كان يدفعه للتقرب منها لا إرادياً,ضبط نفسه مهرولاً خلفها وهي تهم بالمضي وقلبه يكاد ينفجر من فرط الانفعال:
-لو سمحتِ يا آنسة هو الكتاب ده.....
لم تشعر به وواصلت طريقها بهدوء, توقف محرجاً,عاد وهو يغلي من الموقف.
دافعه للاقتراب منها لا يهدأ ويُسكره بخمر النشوة والأحلام الرومانسية.
ظن أن عيناهما التقت فابتسم,سقط قناع التجهم السابق في لحظة مصالحة مع الحياة...الواقع أنها لم تكن تنظر له.
بدأ يكتفي بمشاهدتها مُجبراً نفسه علي التزام حد البعد حتي لا يُحرم مما رضت به الحياة منحه...رؤيتها بخلفية من موج وسحب وشمس تموت لتبعث من جديد,برؤية جديدة!
تحولت مراقبتها لعادة يجتاحه أثنائها الشجن والألم,مما يجعل عينيه في ذلك الوقت ممتلئة بدمع محبوس.
تأتي مع العصر,بكتاب و علبة عصير,مُداعبة بأصابعها ميدالية علي شكل راقص صوفي علي الطريقة المولوية يداه مرفوعتان للسماء ,مُفرغة في الوسط فراغات تُشكل عبارة الشيخ الأكبرابن عربي:"كل مُحب مشتاق ولو كان موصولاً",تقفز علي السور الحجري بنشاط بعد شعورها ببهجة البحر كأنه كان في انتظارها ويحييها بأمواجه,وتحضنهانسمات رقيقة تعبث بحنان في شعرها الُمتراقص حول وجهها فتبدو أمامه كحلم يتمني ألا تمتد يد الزمان لتوقظه مفزوعاً.
حتي يوم جاء بعد موعدها بدقائق,عبر الشارع وهو ينظر إليها قبل أن يتسمر في المنتصف عند الرصيف الذي يقسم الاتجاهين,كانت تمسك الموبايل موجهة عدسته الأمامية لوجهها,وبيدها تشير بحركات التعبير عند الصم والبكم,ركز علي شفتيها فوجدهما لا تتحركان أصابع يدها فقط هي ما تتكلم به.
تقلص وجهه من الألم تعاطفاً معها,وكزّ علي أسنانه غيظاً من فهمه وحدسه اللذان تخليا عنه.
توقف لأسبوع عن المجئ......ولاحظت رنا غيابه!
في هذا الأسبوع كان سجيناً لرغبته في تعلم لغة الإشارة بأسرع وقت,لجأ للإنترنت للكتب الإليكترونية والمرئيات البصرية,حفظ كل إشارة,وقرأ في علم النفس حتي يتفهم مشاعر الشخص العاجز وحالاته المختلفة,وكيف يتطور الأمر منذ الطفولة حتي البلوغ الفكري,وكيف تكون عقدة النقص عند ذوي العاهات الدائمة وكيف تبلور سلوكهم ورؤيتهم لأنفسهم وللآخرين وللحياة...وللحب.لم يرحم نفسه طوال الأسبوع ولم ينم إلا آخر يوم حتي يبدو أمامها بصورة مناسبة.
لم يصدق نفسه للحظات لما رآها تلك المرة تبتسم له هو,تلفت ورائه مرتين ثم عاد ونظر لها كانت ما زالت تبتسم له بحنو حُرم منه طوال العمر,تلك المرة أكيد! ولم تصدق نفسها لما أشار لها بما يعني"كيف حالك اليوم",كأنها تراه لأول مرة.
(ملحوظة في السيناريو سيكون حوارتهما مسجلة صوتياً,نابعة من دواخلهما كل واحد يسمع الآخر بلا كلام منطوق!)
-الحمد لله.
ثم اقتربت منه حتي جاورته واحتك جسدها به بعفوية وهي تجلس.
- هو إنت كمان أصم؟
-لأ
-أومال بتتكلم لغة الإشارة إزاي؟
-عشان إنتِ بتتكلميها!
مالت باسمة بجانب رأسها في خفة ودلال,وتابع مغالباً اضطرابه لمباغتتها المفاجئة-السعيدة-:
-بس فيه لغة تانية بتجمعنا إحنا الاتنين.
قلبت كفها ليبدو باطنه ظاهراً في حركة استفهامية.
-لغة القلوب!اسمك إيه بقي؟
-رنا
لما تضحك يتوقف الزمان السرمدي ويسمع صوت الانفجار الكبير الذي نشأت عنه الأرض,ويتساءل:هل نظرية التطور حقيقة يا داروين؟!لو كنت رأيتها لخجلت من نفسك لما تعتبرها هي وأنثي الشمبانزي من أصل واحد!هذا انفجاره الصغير ومنه سينشأ.
هامساً لنفسه بلا أي إشارة:
-صوت واحد بس كان نفسي نسمعه سوا...أم كلثوم!








م/1                                                         ل/د

حجرة طارق
-اضاءة خافتة توحي بجو من الهموم والقلق.
-يظهر طارق متقلباً علي سريره مؤرقاً,مستعيداً في نفسه صوت والده يوبخه في غلظة.
صوت الأب:
هاتفضل كده طول عمرك فاشل,وهاتضيع حياتك بإيدك وهاتبقي مسخة في في بق الناس ومش بعيد يضربوا بيك المثل في الخيبة,جاتك خيبة فيك وفي اللي جابتك في يوم واحد!اتفوه علي دي
خلفة!

مزج

م/2                                                   ل/د
حجرة رنا
-نفس الإضاءة تقريباً علي شرط أن تبرز صورة منظر طبيعي للبحر السكندري.
-تظهر رنا أمام المرآة في ثوب منزلي تتأمل وجهها في المرآة وتستعيد في مخيلتها (صور)من أحداث طفولتها وابتعاد الأطفال عنها ورفضهم انضمامها لهم في اللعب.
قطع

م/3                                                ن/خ
شارع الكورنيش
-الصخب والحركة لا يهدآن مما يزيد من توترها الحساس,وتبدو في عينيها نظرة الخوف وهي تعبر الشارع المزدحم بسيارت تسير بسرعة كأنها أمام ماراثون جنوني للتسابق علي شئ تجهله
-تضطرب أثناء العبور تتقدم وتتأخر في وجل,حتي تكاد سيارة أن تصدمها.
السائق:
ما تحاسبي يا غبية يا بنت......
قطع
م/4                                           ن/خ
أمام مجمع الكليات  النظرية
-يقف طارق وسط مجموعة شباب يبدو بوضوح أنه يكبرهم في السن لحد كبير,يبدو بينهم غريباً بملابسه البعيدة عن البهرجة وذقنه النابتة في إهمال.
شاب1(يمط حروفه ويرقق صوته ليتحدث بطريقة أقرب للفتيات,علي اعتبار أنها الطريقة الشبابية للكلام):
ده الواد حسن بتاع مظاهرات الثورة هربت منه خالص يا مان,ده أنا شايفه امبارح ماشي سرحان كده,سألته بتعمل إيه يا بوب,لقيته بيعد بلاط الممر 22 23 24
شاب2(ضاحكاً):
هم السابقون ونحن اللاحقون,بس خلي بالك العبط يليق عليه.
شاب3(ساخراً بمرارة بالغة) :
-يا راجل انت عشت الدور ولا إيه؟إنت مفكر نفسك في كلية حقوق بجد؟! إنت في مصر يا عم الحاج,يعني لا تعليم ولا حقوق! خلص أيامك السودا دي وبعد كده تطلع علي أي حتة برة عشان تعيش بني آدم,ولو ماعرفتش-وغالباً ده اللي هايحصل-وفضلت هنا ماتجيبش عيال عشان هايشيلوك ذنب اللي هايشوفوه في البلد دي زي ما بنشيل دلوقتي أهالينا,الله يرحمك يا معري يا اخويا فعلا:
"هذا جناه علي أبي     وما جنيت علي أحد"
في نفس القصيدة يقولك إيه بقي:
"فلا ذنب يا رب السماء علي امرئ     رأي منك ما لا يشتهي فتزندقا" الناس كفرانة من زمان يا أبا
ما سمعتش موال البرنس أحمد شيبة وهو بيقول(يغني بصوت عال):"الله يسامحك يا أبي جنيت عليا وأنا صبي,يا أبا يا أبا يا أبا مانصحتنيش يا أبا"
-يدوس علي سيجارته بحذاءه في غيظ من كل شئ,يبصق علي الأرض.
طارق لنفس الشاب:
-ولاعة والله يا كابتن لو سمحت.
-أحاديث كثيرة متداخلة يبدو خلالها طارق  محاط ببالونة كبيرة تعزله عن كل ما يحدث أو يقال حوله.
قطع
م/5                                                    ن/خ
أمام البحر
-تظهر علي الشاشة رواية( ميرامار)في يد رنا,تفتحها بعد أن تخرجها من حقيبة يد عليها صورة مايلي سايرس في شخصية هانامونتانا فتنتقل معها الكاميرا لبداية الصفحة الأولي-يُراعي أن تكون طبعة دار الشروق حيث الغلاف الأمامي اسم العنوان والخلفي صورةالكاتب العظيم نجيب محفوظ:"الأسكندرية أخيراً.الأسكندرية قطر الندي,نفثة السحابة البيضاء,مهبط الشعاع المغسول بماء السماء,وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع"
-نري طارق متمشياً علي الشاطئ واضعاً سماعات الموبايل في أذنيه فنسمع صوت محمد منير قادماً من مكان بعيد"سيبوني أتوه وحدي عطشان أنا عطشان,الدنيا توب قدي وما أطيقش أنا الغطيان مركب تاخدني لبلاد بعاد,ولُقي يصادفني من غير ميعاد,زمان ياخدني لمكان وعطشان أنا عطشان,صادفني كتير وشوش قلوب زي البيوت طريق ما بعرفهوش يوماتي عليه بفوت"تلفت انتباهه من علي بعد جلستها الملائكية وتبدو لعينيه مُحاطة بهالة كهالة القديسين في الأيقونات الدينية المسيحية.
يتخطاها وهو لا يحيد ببصرها عنها بينما هي لا تراه,يجلس في قرب نسبي منها,حتي تسقط الشمس حمراء مذبوحة في البحر,ولما تهم بالقيام يحاول اللحاق بها:
طارق(في خجل):
لو سمحت يا آنسة هو الكتاب ده........
-تسير بلا أدني اهتمام كأنه طيف يسير خلفها,يعود لمجلسه ووجهه متضرج بحمرة الإحراج.

-فوتومونتاج لجلسات مختلفة بنفس الهيئة,ومن بينها نلمح رنا تنظر له خفية في خجل أنثوي يأخذ القلوب.
قطع

م/6                                                  ن/خ
أمام البحر
-كالمشهد السابق,لكن رنا تبدو سارحة وعلي ركبتيها الظاهرتين من تحت جيب وردي, كتاب فوائح الجمال وفواتح الجلال لنجم الدين كبري تحقيق أستاذنا يوسف زيدان مقلوباً علي وجهه,وبين يديها ميدالية تلفها بين أصابعها في حركة آلية علي شكل راقص صوفي علي الطريقة المولوية بها فراغات في الوسط مُشكلة عبارة الشيخ الأكبر ابن عربي:"كل محب مشتاق ولو كان موصولاً",مكان طارق فارغاً ونشعر أن هذا هو ما يُحزنها تنظر للساعة وتمضي.
قطع
م/7                                             ل/د
 حجرة طارق
-مُنكباً علي جهاز اللاب توب في تعب بادٍ وتظهر عناوين كتب إليكترونية كلها عن علم النفس كـ:معني الحياة لألفريد أدلر,مهارات الناس لروبرت بولتون,علم نفس تقدير الذات  لناثانيل براند,موسوعة علم النفس لعبد المنعم الحفني,المخ الأنثوي لوان بريزنداين أبعاد الشخصية هانز إيزنك.
قطع
فلاش باك
م/8                                        ن/خ
-طارق يعبر الشارع لمجلسه اليومي بجوار رنا وفجأة ويتسمر في منتصفه,وعلي وجهه علامات الصدمة والألم.
-تنتقل الكاميرا لوجه رنا وهي تضع الكاميرا الأمامية للموبايل في واجهتها بيد وبالأخري تتكلم مع المتصل بلغة الإشارة.
-يعود طارق متثاقلاً.
قطع
م/9                                          ل/د
عودة لحجرة طارق
-نراه وهو يقلد حركات الإشارة عند الصم,وتقترب الكاميرا علي يديه المقبوضتين في وضع متقابل رافعاً وخافضاً الإبهامين في نفس الوقت,وهي حركة تعني "المُحب".
قطع
م/10                                          ن/خ
البحر
-يظهر طارق حليق اللحية,ناظراً لكفيه مُنشطاً إياهما علي الحركة,يجلس علي مقربة من رنا,التي تفاجئه بابتسامة لم يتوقعها,فيشير لها بأصابعه بما يعني"كيف حالك اليوم"تبدو الصدمة في عينيها,وما تلبث أن تقترب منه وتجلس بجواره,و يبدآن في الحديث بالإشارة مع الأخذ في الاعتبار أن الصوتين سيسجلان ويُسمعان في الفيلم صادران من دواخل نفسهما:
رنا:
-هو إنت كمان أصم؟
طارق:
لأ!
رنا:
أومال بتتكلم لغة الإشارة إزاي؟
طارق:عشان إنتي بتتكلميها!
-مالت بجانب رأسها الأيمن فانسدل شعرها بجانبها حاملاً نفحة عطر اصطدمت به
طارق:
بس فيه لغة تانية بتجمعنا!
قلبت يدها متسائلة
طارق:
لغة القلوب!اسمك إيه بقي؟
رنا(باسمة هيام واضح):
رنا
قطع
م/11                                          ل/خ

شرفة منزل رنا
-تتحدث بلغة الإشارة لطارق الذي يظهر علي شاشة هاتفها,ويضحكان في بهجة وتنتقل الكاميرا للداخل تدريجياً حتي تثبت علي صورة البحر الذي رسمت عليه رنا خطوط ساذجة لشخصين يجلسان علي سوره الحجري,وكتبت علي صورة الفتي طارق وعلي صورة البنت رنا
-النهاية-"

حين عودته وجدها ما زالت تقرأ خفية من حقيبتها الموضوعة علي ساقيها,اليوم يوم بريزنتيشن,لم تنزل عينيها من عينيه,سعيدة مبتهجة طائرة من السعادة,فوضي ما قبل بداية التحضير أعطتها فرصة للركض بدعوي نداء أفراد المجموعة,الحقيقة أن فرح ركضت من الفرح,كل ما فيها أنيق وشيك,وزعت عليهم قصاصات عن الصين وعاداتها,طبعت اسم كل واحد باللغة الصينية,معه عبارة بالصينية وترجمتها للإنجليزية والعربية,ركضت نحوه تسأله وهي تراه يقرأ القصاصة:
-أخذت ورقة؟
-نعم
أراد أن يقول"ألا ترينها في يدي؟"
داعبته:
-خذ تاني!
مدت له قصاصة جديدة
-من يدك آخذ أي شئ.
ركضت مكسوفة لآخر الحجرة,لتلقي كلامها علي سمعه وعينيها معلقة به والسعادة تطفح من علي وجهها,مال علي مينا:
-كفاية والله إني جعلتها سعيدة هكذا,لو لم أفعل إلا هذا في حياتي أنا راض عنها.
جاءه صوته من خلفه,في نبرة ولهجة السرسجية الأصلاء"محدد إنتِ هدفك يا زميلي علي طول...الوقفة عالباب.إنت قولت إيه للبت خليتها عاملة كده؟"
تجاهله وأخذ يتأمل هدفه الجميل,ينظر له ضاحكاً في دلال,ويبادله النظر شاحذاً كل همته ليحافظ عليه بكل ما يملك.

أول كل أمر هو أجمله لو كان جميلاً,وأقبحه لو كان قبيحاً.
خرجا سوياً يومها يرسم كل منهما مصيره مع الآخر في خياله,قالت فرح"أنت تملك الموهبة,وستصير يوماً من أهم كتاب مصر"رد"لو كان غيرك قالها لي قبل اليوم لأشبع جوعي للتقدير,أما....(تشجع)أما اليوم فأنا لا أريد إلا أن أصير عاشقاً"خفضت بصرها في الأرض"أليس هذا الكلام سابقاً لأوانه؟"تعجب من نفسه من أين تواتيه الشجاعة"إذن فهل تقولي لي أني يوماً سأصير عاشقاً؟"تشاغلت بضبط خصلات شعرها القصير من علي جبينها الوضئ"ستصير".
مشيا في كلام يشبه الصمت .
-هاتِ رقمك...سأرسل لك اليوم طلب صداقة.

 افترقا عند كوبري ستانلي,صعدت لشقتها طائرة علي بساط الحب,وأكمل طريقه لسيدي جابر سائراً علي ورود السعادة...من كل قلبه توجه نحو السماء,رفع رأسه وسط الشارع وبصوت سمعه السائرون"الحمد لله شكراً يا رب...لكن هدئ هرمونات الدوبامين والأوكسيتوسين قليلاً أشعر أني سأصاب بالإغماء"


-أنا حزين يا أكرم والحزن يأكلني...ابن الزواني ينتفش عليّ كالطاووس!المشكلة أنه أقدم صاحب لي,تخيل صاحبي منذ عشرين عاماً علي الأقل,لا تهن علي العشرة ولا الأصول لأفارقه بلا رجعة,مضي شهر منذ أن قابلتك آخر مرة,خلال هذا الشهر كلها عاودني ألم الليلة التي فعل فيها مافعل,صحيح مر عليها فترة طويلة من الزمن,لكنها اشتعلت من يوم ما فح في أذني...أخشي أن يسرق مستقبلي كما سرق كياني وألفاظي وكلامي وحركاتي ولهجتي وسكناتي,أنا شخص سوداوي المزاج,أتخيله أهم كاتب في مصر وأشهر مثقف فيها...تخيل!!
حاولت أن أفرح؛لأنه يقلدني بينما أنا لا أجد في أي من سلوكه ما يحملني علي الإتيان بمثله,مجرد واد جاهل,أنا من سكبت في أذنه كلماتي,هو نفسه مرة اعترف في لحظة صدق نادرة منه"أنا لا أعلم لولاك كيف سيكون حالي,أنت عرفتني علي ما لم أتخيل يوماً وجوده,تخيل هذا الأصلع القصير بعد أن فعل ما فعل بأيام,وعاتبته بلين رغم باطني المشتعل غيظاً لليوم,سخر مني"مش إنت اللي كنت فرحان وعمال تقولي(قلد صوتي في شماتة):نشرت يا عطوط",اسم والده عطية وأنا أداعبه بقولي له "عطوط" اسمه هو...
-أرجوك كفي...
ساد صمت المفاجئة,وأكمل:
-توقف عن العيش في هذه الحكاية الخايبة,توقف عن الانشغال ارمه من دماغك كما ترمي ورقة في سلة مهملات...الموقف فعلاً مستفز وصاحبك هذا يبدو أبلهاً وخبيثاً لدرجة تفوق الاحتمال,لكنك تجعل منها مأساة...صدقني ياصاحبي,فكرتك هي عدوتك وصديقتك,الموضوع برمته لا يستحق تحويل تفكيرك فيه,وانشغالك به,أنت من كنت تحدثني عن نظرية التطور والحداثة والتصوف والتراث والفن والسينما والأدب ,يصبح كل كلامك عن هذا الشخص التافه...لا! لا أقبل لك أن تنحط لهذا المستوي.
داري جمال خجله بابتسامة باهتة,رجع بظهره للوراء ثم أشعل سيجارة,أخرج الدخان من أنفه:
-"فكرتك هي عدوتك وصديقتك"...عبارة حلوة تنفع مدخل لمقال فلسفي تمتزج فيه نظريات علم النفس عن الدماغ والسلوك...
ابتهج أكرم:
-والله زمان يا رجل!



تبدت له فرح مع الأيام أنها مثيل اسمها,أينما ذهبت تولد الفرح في الجنبات,ضحكتها المبهجة ولمعة عينيها الصافية تشفيان آلام الروح والجسد,كان قبل الارتباط بها أكثر كائن علي وجه الأرض غارق في الأوهام والهواجس والأفكار السوداء,لو أصيب بألم خفيف في الساقين تخيل-وهو رجل مهنته الخيال-نهايته شلل وسيصير قعيداً طوال العمر,مخالفة عابرة يرتكبها يخاف من العسكري حتي يشفق العسكري عليه ويظل لأيام بعده يتخيل نفسه في السجن يغتصبه المساجين...ثم كانت فرح...في البدء كانت فرح وفي المنتهي خُلق من جديد.امرأة زين بها الله الحياة,أخذ من عينيها الشمس,ومن بشرتها القمر,ومن صوتها الموسيقي,ومن شعرها الليل,ثم استوت الدنيا علي ما هي.
قالت فرح وهما في سيارتها البيضاء يستمعان "للكلمات السبع الأخيرة للمسيح"لهايدن",متشابكة أيديهما في عناق روحي ذاب فيه الوجود داخل قلبيهما:
-ليت الأيام تمضي بنا فقط بين عناق وغناء...أكرم,احتضني.احتضن جسدي بين ذراعيك حتي لا يسقط قلبي من صدري...أحتاج دفأك.
وما كان هو أقل حاجة لدفئها...حضن الحبيب,السكون المعزول عن صخب العالم,السبيل الوحيد للصعود في رحلة سماوية نحو المطلق,نحو الإله...لهذا خلق الله العالم,لهذا خلق الله الإنسان,ليراه سكان السماء في لحظة حب فيتعلمون منه,ربما كان أول الأسماء التي علمها الله لآدم"الحب"...لحظة واحدة وسط أزمنة شقاء وعذاب وحرمان وألم,جعلت من بين الكلمات السبع الأخيرة للمسيح وهو مصلوب,علي رأسه تاج الشوك وجسده مثقوب بالمسامير, وفي حلقه العطش,والدم يسيل من جروحه الغائرة في لحمه, تساؤله الحيران الحسير"إيلي إيلي لم شبقتني؟","إلهي,إلهي لماذا تركتني؟"

قُبلة علي الشفاه روت قلبيهما من نبع الحياة,مداعبة لسانية وضغط خفيف علي النهدين,مع تحسس الأرداف.استكشاف الجسد,استكشاف صنيع الخالق الذي يقول في كتبه أنه خلق الإنسان علي صورته.

أدارت المحرك وانطلقا...

صعدت فرح معه للسطوح ليريها "غية"الحمام التي يعتبرها بيته,أثناء صعودها داعبته بدلال وفجاجة من تثق أن صورتها لن تهتز في نفس حبيبها"عندك كم حمامة؟!"تعبيراتها ونبرتها تشي بمعني بذئ التقطه فوراً فواصل"لا يهمني سوي حمامة واحدة لم تجد بعد عشها الدافئ اللذيذ"
تعودا علي بعض بسرعة كأنهما تربيا معاً,يمازحها كما يمازح صديق,وجدها أحياناً تميل للكلام الذكوري البذئ فما وجد ضرراً من مجاراتها,بل وارتاح لروحها التي يجد فيها الحبيبة والصديق.

-فرح...ليتنا نطير معهم تاركين الأرض وما عليها لمن عليها,نتخلي عن بشريتنا ونصبح  حمام,لا عمل لنا إلا الطيران والحب.ما أضيع الأيام التي يقضيها الإنسان بلا حب...كم أرثي للمساكين البؤساء الذين حرموا نعمة الحب.
جنّ عليهما الليل,وهجع الحمام لعشه,وبقيا تحت السماء المظلمة يرنوان نحو المجهول القادم في مستقبل أيامهما.

حاول تحاشي النظر لشقة عم كمال وهو ينزل السلم,لكنه لم يقدر أن يمنع نفسه من النظر,خاصة لما سمع نهنهة خافتة صادرة خلف الباب...ألا تمنحنا تلك الحياة يوم واحد من الصفاء يا ربي!
دق وفتح مرحباً بلا حماس,أشار لهما بالدخول وهو متردد"من هي تلك المرأة التي مع أكرم؟"
عيناه تخبران عمن كان ينهنه بالبكاء.
نظراته نحو الحمام المضاء,أكدت لأكرم ما كان يظنه,أحد أبنائه المصابان بضمور في الأعصاب يقضي حاجته,سأله:
-لم لست في الداخل معه؟
-قال لي:يا بابا أخرج,لا تعذبني أكثر مما أتعذب.
ونظر بألم ناحية فرح.
لم تعرف فرح عم يتحدثان,قبل أن تحاول الاستفسار بعينيها من أكرم ,سُمع صوت سقطة علي البلاط و"آه"!
هرعا نحو الحمام,وجدا الابن العشريني ملقً علي الأرض,نصفه الأسفل عار.
-أريد أن أموت...أريد أن أموت!
حملاه نحو سريره الذي يفوح هو وسرير أخوه المريض بنفس المرض,برائحة لا تطاق من الرقاد الدائم وقضاء الحاجة عليه لو لم يسارع أحد بحملهما للحمام.
ظل يردد رغبته في الموت,وأبوه يبكي بحرقة وأخيه الآخر يدفن وجهه في المخدة متألماً,ولو نطق لقال"أريد أن أموت أنا أيضاً"ولو نطق الوالد لقال مثل هذا!!
بقي أكرم جامداً لا يعرف ماذا يقول...
دخلت فرح,وبنظرة واحدة فهمت الموقف كله,وتقطع قلبها رثاء علي حال الثلاثة,ولدان أكبرهما في العشرين عاجزان تماماً,وأب كهل ستخذله صحته قريباً عن العناية بها,خرجت بسرعة حتي لا يري أحد دموعها فتزيد آلامه وحسراته.
خرج بناء علي أمر من الأب ليتولي هو تهدئتهما...
-آسف لما شاهدته,تمنيت ألا نضطر لدخول هذه الشقة...
-منذ متي وهما علي هذه الحالة؟
-منذ ثلاث سنوات بدأت أعراض الإصابة عليهما,لكنها تدهورت بعد حقنتين من طيبب ملعون جاهل وأصبحا كما رأيتي.
-ولذلك لا أعترف بأي شهادة في هذه البلد ولا حتي شهادة"أن لا إله إلا الله" كلها زور...
"سيرجيو كانافيرو" في إيطاليا يسعي لأول عملية زرع رأس في العالم,وهنا جهل الأطباء ينسف حياة الشباب...ألا فلتحرق كل مقالب القمامة التي يقولون عليها مدارس وجامعات.
-كل يوم أزورهم,هذا الرجل بطل,أعانه الله علي ما ابتلاه.
فكر,لماذا يبتلي الله الناس بكل تلك القسوة؟وسرح قليلاً...
-خذني معك غداً.
دخلت معه الشقة بوجه باسم ونفس مشرقة,وتلقائياً نقلت تلك المشاعر للأسرة,فرح موهوبة جداً في الفرح,ابتسامتها المبهجة من أسباب وقوع أكرم في هواها,يكفي أن تبتسم فيبتسم من يراها,تنفرج شفتاها الرقيقتين عن أسنان بيضاء لامعة,وتتحول ملامحها لكتلة حية من الرقة والبراءة,فمها الواسع قليلاً يزيد تألق الابتسامة علي محياها...باختصار تضحك فتضحك الدنيا كلها.
هو عين ما شعر به أحمد ومحمود,رغبة في الابتسام,فابتسما بصدق لأول مرة منذ سنوات,أحمد الأكبر هو من كدرت ابتسامته معرفته باستحالة وجود امرأة كفرح في حياته,بل مستحيل وجود أي امرأة في حياته,قرأت في نظراته لها ما يجول في خاطره الكئيب,تمعنت بأنوثتها في عينيه كلما التقت بعينها أو سقطت علي جزء من جسدها.
أمسكت بذقنه بأناملها وهي تشير لأكرم:
-لو كنت رأيتك قبله لكنت أنت صاحب النصيب فيّ...ولن أعبأ بفارق السن,وماذا تعني ثمان سنوات؟!
لم يجب عليها بما كان يفكر فيه,كيلا يفسد ساعة من البهجة المقتولة في عمره,ابتسم وطبطب علي يدها,فردت عليه الطبطبة بقبلة علي خده,سيظل لسنوات يذكرها ويستدعيها في أحلك لحظات حياته.
بعد خروجها قال لأخيه محمود وهو يضع يده مكان قبلتها:
-ماذا فعل أكرم لينال رضي الله عنه,فيكافئه بخطيبة كفرح؟!وماذا فعلت أنا لأغضبه فيجعلني روح معذبة بحسد كسيح؟
كان مؤمناً بحق من كل قلبه,استغفر الله مائة مرة ودعاه ليسامحه,أسلم رأسه للنوم وهو يردد في نفسه"حكمتك يا رب؟!...لكن ماذا فعلت؟!"

فرح...يا امرأة من الجنة...طوبي لمن اجتباه قلبك يا حلوة يا ذات القلب الذهبي...

............

بعد المكالمة التاسعة رد علي هاتفه:
-البقاء لله...أين أنت؟
-لا أدري
هو فعلاً لا يدري أين هو,قادته قدماه بلا وعي منه
-أعتقد أني عند المندرة ربما في محمد نجيب بالذات.
-مصر كلها حزينة...لا أريد تركك في هذه الحالة
-تعالي في المقهي التي تعرفينها
نزل جمال هو الآخر بعد أن سمع الخبر يهيم علي وجهه في الشوراع,وجد نفسه أمام المقهي وأكرم جالس ساهم علي بابه وصوت ميادة الحناوي يملأ الآذان"هي الليالي كده هي الليالي
طبع الليالي كده طبع الليالي
بتغرب ده وده
وتبدل ده بده
وتقرب ده لده
وهي كده الليالي ولا تعرف غير كده"
لم يتمالك جمال دموعه,أخفي وجهه بيديه وراح يبكي,وهو يلعن الليالي,تذكر ليلة وفاة نجيب محفوظ,وخيري شلبي,ويوسف شاهين,وإبراهيم أصلان,وأسامة أنور عكاشة,وفاتن حمامة,وسعاد حسني... والليله,21إبريل عبد الرحمن الأبنودي!!مصر التي تفرغ من مبدعيها ليتسيد الميديوكر زمناً ثم يسقط الميديوكر أيضاً ويتسيد رجال "اللاشئ"!
جاءت فرح وجلست بلا سلام ولا كلام,أخرج جمال الموبايل من جيبه وراح يكتب عليه,ثم قال وهو ينظر لوجه فرح الحزين...:
-تقبلي مني هذي القصيدة إهداء مني لوجهك الحزين الجميل
كانت فرح فعلاً امرأة ملهمة,لكل فنان يراها:
" اسمعني يا خالي
أنا مانيش شاعر زيك
لكني غاوي
ما أنت علمتني
علمتني غنا المجاريح وسط ليل زي الصفيح
صفيح بارد أطرافه قاسية
تدمي قلبي فيصبح جريح
وأكون ساعتها واحد من المجاريح
جاني خبر موتك يا عبد الرحمن
ساعتها مابكيتش ولا اتهزيت
تنحت شوية وماصدقت
إزاي الأبنودي يموت؟
إزاي الراجل اللي كان صاحبي وماشوفتهوش ما يودعنيش
ما يجيش ويقولي مع السلامة يا جمال
ما تغبش عليا يا صاحبي مستنيك
لكني شوفت العزا في الأخبار
الله...
ده الكلام باين له صحيح
بس إزاي؟
إزاي ابن فاطنة قنديل يعملها وما يودعنيش
كده برضه يا خالي؟
مش كنت تيجي تبوسني وتحضني وتقولي:
"أوعي تزعل يا وليدي ده إحنا مش من هنا ,وآدينا لمكانا الأصلي راجعين,في روح وريحان وجنات نعيم,هناك هلاقي أصحابي الطيبين,يحيي وأمل وعبد الحليم,وحشوني ولاد الإيه,مع السلامة يا جمال دي نهاية الرحلة يا ابني وكله بميعاد"
وتبوسني تاني وأنت بتودعني يا خالي يا اللي ماشوفتنيش
وأنا أقولك"رايح فين بس؟دي مصر بتفضي وماعدش فيها غير ولاد الكلب الملاعين,رايح فين ماتخليك,أنا قاعد هنا مستنيك,هاقول زي ما كانت غنوتك الصبح بتقول"بالسلامة يا حبيبي بالسلامة,بالسلامة تروح وترجع بالسلامة,تيجي زي الفرحة تيجي بالابتسامة"
بس مهما أستني خلاص
خد الموت عبد الرحمن...
دلوقت بس بكيت
بكيت من كل قلبي المحروق عليك
وقولت أوصلك ازاي
القبر اتقفل عليك وزمان الضلمة محاوطاك
قلت في عقل بالي
الراجل ده علمك إيه؟
مش برضه تقلده وتجعل قصيدتك شمعتك
نورله واحدة بقي وسمعها له
وآديني مش عارف أقول لك إيه
سامحني يا خالي
أنا مانيش زيك شاعر
لكني غاوي
بصوتك اللي زي صوت جدي
هاحاول في يوم أقيد لك شمعة بقصيدة
وهاحطها مع كل اللي حبوك في شمعدان
عشان قلبك الأخضر يرقص عليه
زي ما بتقول فايزة بكلامك
الوداع يا خالي
هناك أحسن هتلاقي الحقيقة وهتلاقي كيانك
مع السلامة با ابن فاطمة
سلم لي علي كل الحبايب
وبالذات سعاد حسني وفاتن حمامة
آه يا بلد فضيت علي الأوساخ
كلوا فيها
لحد ما عضمها من تحت جلدها يبان
وبزها ينشف ما يطعمش ابنها الجعان
آه يا بلدي...مات فيكي الطيب وعاش الجبان.
يا حبيبي يا عبد الرحمن
يا قبر ضم عليه بحنان
يا قبر استودعتك شاعر إنسان
خليك علي قد طيبته
واحضنه زي أمه
ده كان خالي...خالي اللي لا شوفته ولا شافنيش"
بكت فرح,وأخذت يد أكرم في يدها,خائفة من يوم تقبر فيه وحدها في الظلمة ليس معها ونيس,يخرج منها الدود ليأكلها,سيأكل يوماً جسدها الشاب الطري الظمآن للعشق والارتواء من الحبيب,تأملت يد أكرم وقبلتها وسط دهشة رجل عجوز يدخن النارجيلة بجوارها.كانت الأغنية انتهت وانفض المجلس...ومات أشعر شعراء العامية في مصر,وأهم من كتب الأغنية,مات من جمع سيرة بني هلال ورافقهم في تغريبتهم مات من كانت تفتح كلمته "و قول يا عم جابر"نهر جابر أبو حسين في تدفقه علي الرباب...مات عبد الرحمن الأبنودي,ليس كالخواجة لامبو العجوز في أسبانيا علي الصقيع,بل كنخلة راسخة في الإسماعيلية,في الربيع,يوم وفاة صلاح جاهين!!
كتبت فرح علي الفيسبوك أن حلمها زيارة مدينة بوسيتانو,فكان تعليقه "وأنا هاخليكي تروحي بوسيتانو مع دانتي شخصياً,وبعد دقائق أرسل لها:"

فرح في "بوسيتانو"

هبط مؤسس اللغة الإيطالية الحديثة بعمله الخالد"الكوميديا الإلهية",أديب إيطاليا الأكبر وشاعرها الأسمي,دانتي أليجيري إلي الأسكندرية في ليلة شتوية ممطرة,ونزل في غرفة فرح النائمة تحت أغطية ثقيلة علي أمل أن تقيها برودة الجو,اقترب من فراشها حتي لدرجة أنه سمع صوت أنفاسها,أشفق من إيقاظها بعد أن رآها في دنيا الأحلام تنعم بالدفء و الراحة,لكن مهمة دانتي لابد أن تنفذ,فقد عرف بحسه الشاعري رغبتها في زيارة مدينة بوسيتانو الإيطالية,شاهدها فتذكر حبيبته بياتريس التي كتب من أجلها كوميدياه الإلهية مُتحملاً رحلته الكابوسية في الجحيم حتي يراها في الفردوس.
مد يده لذراعها وضغط عليه برفق:
-فرح...فرح...
كادت فرح أن تطلق صرخة لولا أن دانتي وضع يده علي فمها مهدئاً,وفي النور الخافت للغرفة شبه المظلمة تعرفت علي وجهه فزاد هياجها أكثر...لقد مات دانتي منذ حوالي سبعة قرون!
-اهدئي...يبدو أنك عرفتيني.
كان في هيئة شبيهة بتمثاله في نابولي.لكن فرح لم تستطع الحديث لخوفها أولاً ولأن دانتي كان لا يزال يضع كفه علي فمها,أشارت بعينيها لكفه.
-آه ...آسف.
حاولت فرح التماسك,ضمت شعرها بيدها وأرجعته للخلف كعادتها حين تتوتر,لملمت حروف الكلمات بصعوبة وقالت في خفوت سمعه دانتي بصعوبة:
-هل هذا حلم؟
دانتي لو لم يتفلسف لن يكون دانتي...
-يا عزيزتي الصغيرة الحياة كلها حلم نستفيق منه عندما نموت!
-أريد إجابة واضحة,السؤال بطريقة أخري:هل مازلت نائمة؟
-ماذا تعتقدين؟!
وقف دانتي وأضاء نور الحجرة فبدا وجه فرح في براءته فاتناً,تأثر دانتي و اتجه نحو النافذة وتنهد:
-تذكرينني ببياتريس الجميلة حبيبتي!
مسح بسرعة دمعة خانته عينه وذرفتها,كان مؤثراً لفرح أن تري صاحب الكوميديا الإلهية يبكي أمامها فنسيت خوفها ونهضت لجواره,همت أن تضع يدها علي كتفه لمواساته,فابتعد عنها دون أن ينظر إليها وصاح متألماً:
-أرجوكِ ابتعدي عني الآن,تثيرين في نفسي ذكريات تمزقني كالسكاكين.
سقط علي الأرض يبكي بحرقة كطفل ضاع في الزحام من حضن أمه وأخذ يردد بين شهقاته:
-بياتريس...بياتريس! يا إلهي,لم تحملني فوق احتمالي؟! امنحني القوة...ليتني ما هبطت لها!
جلست فرح تبكي جواره في صمت.
بدأ دانتي يستعيد صلابته مرة أخري,وجفف دموعه وهو يقول معتذراً في خجل قاتل:
-آسف يا ابنتي...سامحيني...كانت جميلة مثلك تماماً ومبهجة كما أنتِ,كان يحلو لي النظر لها والغرق في بحور الحب...إياك أن تكوني قاسية مثلها,فقد سخرت مني ومن حبي,وتزوجت غيري,ومع ذلك كانت هي ملهمتي وقائدتي في السماوات وقد دعيتها"ملكة الفضائل".
استمعت فرح لدانتي وهي تتأمل وجهه,كان وصف بوكاتشو له صادقاً,تلوح علي وجهه دوماً علامات الحزن والتأمل والتفكير,وجهه طويل وجبهته عريضة,متوسط القامة شفته السفلي أبرز قليلاً من شفته العليا ذقنه مدبب وعينيه واسعتين.
-أعرف أنك تودين الذهاب إلي إيطاليا,بوسيتانو تحديداً.
-أجل...أتمني!
-ولأنك تذكرينني بحبيبتي بياتريس...
بدأ يتشنج قليلاً فظنت فرح أنه سيبكي مجدداً,وعلي غير توقع تمالك نفسه تماماً وأكمل:
-قررت أن أنفذ لكِ أمنيتك تلك!
هتفت فرح بفرح:
-حقاً؟َ
فقال سعيداً ببهجتها التي تزيدها بهاءً:
-حقاً!...هيا بنا.
ولدهشتها وبحيلة سينمائية ساذجة ذكرتها بـ"عم حزومبل"في فيلم صغيرة علي الحب,احتضنها دانتي حتي غطاها بعباءته,وبعد لحظات شعرت أنها تطير لكنها لم تقو علي فتح عينيها,كأن الظلام هو ملجأها الآمن من كل هذا الغرائبي الحادث لها في ليلتها,أخيراً فتحتها حين شعرت بالأرض تحت أصابعها...
فرح في بوسيتانو...
نجت من البلاد الداعشية المحكومة من إبليس نفسه علي عرشه القائم بإيدي بشر ملعونين,ورحلت إلي بلاد يحبها الله أكثر من البلاد الملعونة التي يتردد فيها اسمه بهدف الذبح والتفجير والتخريب,رأت أطفال يسعون في الدنيا بسلام كملائكة صغار خرجوا من تحت يد رسام مُلهم,فرثت لأطفال بجلود محروقة ورءوس مقطوعة وأعضاء مبتورة,أو لاجئون في ذل يتعلم فيهم أبناء الدول الأخري (الرجولة!!!)-علي حد قول آبائهم-بصفعهم علي وجوههم بقسوة!هربت من أبناء الأفاعي من الدواعش الظاهرين جهراً والمختفين سراً أراح الله الإنسانية ولعنهم كلما أشرقت الأرض بنور ربها مع كل صباح,وانتقلت مع دانتي إلي إيطاليا,بلد النحت والرسم والأوبرا والجمال...ومونيكا بيلوتشي!
همّ دانتي بالحديث مع فرح المدهوشة بجمال بوسيتانو عن الثقافة الإيطالية,فما منعه سوي اللمعة السحرية في نظرتها وهي تتأمل المدينة,والأهم من ذلك حيرته!مايكل أنجلو وحده يحتاج عمراً لتأمل لوحاته وتماثيله,دافنشي كذلك! فمتي سيحدثها عن الأوبرا الإيطالية,المسرح,السينما,المعمار....ثم ماذا عن موسيقي فيلفالدي وأفلام فيلليني؟!.فترك لها مهمة التعرف علي الحضارة الإيطالية حين تعود للأسكندرية(مدينة الله العظمي)كما كانت تسمي في زمن سالف,أجمل مدن البشر,لولا أن أهلها يجهلون هذا الجمال!
لابد أن الكاتب الأمريكي جون شتاينبك يحسد فرح علي وصولها إلي بوستيانو بصحبة دانتي؛ رحلة شتاينبك التعيس كانت مرعبة مع سائق أرعن,رحلة يمكن لفرح تخيل مدي خطورتها لما تعرف أنه في خلال الحرب العالمية الثانية تعرض لقذائف النازيين من التلال الجبلية ونثرت عليه الطائرات قنابلها,ولم تبخل عليه الغواصات ببعض الطوربيدات,لكن ذلك كان أكثر أمناً من رحلته مع"سينيور باسانو"... أقسم علي ذلك!!
اتحد الجمال مع الجمال فكان الفيلم الرومانسي"only you"جمال الطبيعة مع جمال السينما,في إيطاليا دارت معظم أحداث الفيلم,الذي يدور حول فتاة(تقوم بدورها "ماريسا تومي") ظهر لها اسم حيببها المنتظر في لعبة مع أخيها وأكدت علي ذلك العرافة-سنعرف في النهاية أن ذلك كان مزحة سخيفة من أخيها-تعلقت الفتاة الرومانسية باسم"ديموند برادلي"وستترك حفل زفافها لتلحق به في إيطاليا,يقع في هواها من أول نظرة بائع أحذية خفيف الظل(روبرت داوني)فيضطر أن يدعي أن اسمه ديموند برادلي,ولما يصارحها تثور ولكنها لا تيأس من البحث عن برادلي المزعوم,حتي يخبرها بائع الأحذية أن حبيبها موجود في مدينة بوسيتانو,لكن نكتشف أن ذلك خدعة جديدة منه ليبقيها بجانبه وقتاً أطول,وقبل أن تترك إيطاليا تتعرف علي شخص اسمه فعلاً ديموند برادلي لتكتشف في النهاية أنها تحب بيتر البائع الذي قال آخر لبرادلي آخر جملة حوارية له في الفيلم قبل أن يذهب للطائرة"أنا أحبها أكثر مما تتخيل,لكن....أنت محظوظ,رجل محظوظ!فلك الاسم المناسب مع السلامة يا فايث.أتمني لكما السعادة"
أخيراً لاحظت فرح تغيير ملابسها,بفستان ماريسا تومي الأبيض في فيلم only youوتمني دانتي في نفسه لما رآها حظ أفضل لفرح في بحثها عن حبيبها وألا تتعلق بوهم في خيالها يمنعها من الاستماع لصوت قلبها...لو اتبعت صوت قلبها بعيداً عن ضوضاء العالم الفاسدة,لعرفت طريق ما تريده....
...مع أول خطوة لها في بوسيتانو,كان الفرح لوجودها في كل بوسيتانو.ازدهت المنازل الملونة ترحيباً بها,واحتضنها النسيم في حنو,وغنت العصافير لمقدمها,وتذكر دانتي كعادته بياتريس,تقدم منها مبهوراً بمرآها:
-آنستي...الشعر مات تحت قدميك فما عاد له معني
غارت الأحزان خوفاً من "فرحنا" فما عادت معنا!
قطف وردة حمراء ووضعها في شعرها,ثم انحني ليقبل يدها...
في الصباح استيقظت مع صور باهتة منقوصة,لما ظنته حلماً حاولت أن تتذكر شيئاً فما قدرت,قامت من سريرها ولم تلحظ أن هناك وردة حمراء ندية مثبتة بين خصلات شعرها!"
أتبعها بعبارة "فلنهرب من تلك الدولة الظالم أهلها,بالخيال والخيال والخيال,الخيال كالحب خط دفاعنا الأخير عن إنسانيتنا"
قالت فرح"خبئني في قلبك,ولتذهب بي حيث تشاء"
عيد ميلاد فرح...
في حفل والدها,الذي نظمه,كانت كأميرة من أميرات ديزني,تجول وسط المدعوين كحلم عابر في حياة كل منهم
أخيراً وحدهما.
تورتة صغيرة وشمعتان,واحدة لها والأخري له علي طاولة زجاجية في حجرة أكرم.علي ضوء الشموع الخافت طبع علي وجهها عدة قبلات قبل أن يستقر مدة طويلة علي شفتيها...ما أشهي طعم الشفاه المرتشفة بشفاه!
وبدأ يغني مرتجلاً الكلمات واللحن: الشموع في التورتة رقصت من الفرح
وغنت:النهارده عيد ميلاد فرح
27سنة
يارب 100 كمان وكل سنة بهنا
الشموع في التورتة من الفرحة نورت
وقال يوم 10:أنا غير كل السنة
دي الدنيا بيا اتغيرت
وعقارب الساعة من البهجة اتلخبطت
والعذراء في السما من كل برج اتحسد
وعالأرض الشمس طلعت مخصوص عشان فرح
ولسه الشمع بيرقص وبيغني لفرح
شاركته فرح الغناء منتشية,وهي ترقص بهز ردفيها ونهدها,وتميل عليه كالراقصات المحترفات,وحيدان لا يراقبهما سوي البدر المطل من الشباك المفتوح.