الجمعة، 3 نوفمبر 2017

تجليات الروح

في المستقبل سيصبح لكل إنسان روبوت خاص به يساعده في الطبخ وفي تربية الأطفال وفي قيادة الطائرات وفي التعليم عندها سيصير  أمراً عادياً مثلما يملك الواحد منا هاتفاً ذكياً اليوم,هذه هي رؤية العلماء في البلاد المتقدمة الواعية لمستقبل الإنسانية العاملين عليه اليوم,وقد تكون الروبوت صوفيا المبهرة المخيفة... "السعودية"!-عجبت لك يا زمن!-بداية حقيقية لشراكة بين البشر والآلات,في عالم يفوق قصص وأفلام الخيال العلمي غرابة,قد يمنحون سر الحياة العجيب من الوعي والإدراك والفطنة وحسن التدبير,لكنهم يسنقصهم "الروح"هذا المفهوم الغير مفهوم علي الإطلاق ومع ذلك نشعر به مع كل نفس وكل لحظة,كيان أثيري غامض خفي يربطنا بالوجود من حولنا,ويقيم أجسادنا لمواصلة التجول في ميدان الحياة الفسيح اللولبي,حيث تتشعب الطرق وتتختلف الاتجاهات,تُكتشف العوالم وتتطور العلوم,تقوم الحروب وتبني الحضارات,تكتب النصوص الخالدة وترسم اللوحات ويقوم المعمار البديع,وبمجرد أن تغادر الروح الجسد يقع أرضاً ذلك المخلوق الضعيف الذي شق في صخور الحياة قديماً علومه وفنون ,واليوم يشق في المعادن والكهرباء والذكاء الاصطناعي حضارة جديدة من الآلات الذكية والتكنولوجيا المثيرة,تجعل السؤال عن حقيقة الروح سؤال مصيري في زمن تزحف فيه الآلات حول الإنسان وتتفوق عليه وتجعل كا مافات من ماضيه كوم(كون) والقادم كوماً(كوناً)آخر.
لنبدأ في شرح عبارة"هواها يرد الروح"من السبب القريب المباشر البيولوجي.
مع كل شهيق نحصل عليه من خزان الهواء الطبيعي علي الأرض,تُرد الروح من جديد بعد أن ضاعت في الزفير السابق,حيث تقوم الدورة الدموية بعملها في رد الروح من جديد بعد أن فقدها الإنسان,كأنه يحيا طوال فترة وجوده بين الحياة والعدم وهو يعد نفسه أحد سكان بيت الحياة,مطمئناً لليوم آملاً في الغد!
منذ أن اكتشف الطبيب المصري محيي الدين التطاوي عام1924 مخطوط ابن النفيس"شرح تشريح القانون"وهو يطالع في مكتبة برلين وهو أحد الطلبة في جامعة فرايبورغ الألمانية فصاغ بعد نضال أطروحته"الدورة الر ئوية تبعاً للقرشي"بعدما تبين له أن ابن النفيس هو أول من تحدث عن الدورة الدموية كما نعرفها الآن وحيث ذكر أن للقلب تجويفان لا ثلاثة كما قال الأطباء الأوائل,وبأن الدم يتجه إلي من التجويف الأيمن إلي الرئة,ويختلط بالهواء داخلها,ثم يعود للرئة عن طريق الشريات الوريدي ثم إلي التجويف الأيسر بالقلب,منطلقاً إلي بقية أعضاء الجسم,وهكذا تصير الروح المتعلقة بالهواء في عنصرها المادي تقوم برحلات لا تنقطع بين الرئة والقلب,ومن عباراته:"إن القلب لما كان من أفعاله( توليد الروح)وهي إنما تتكون من دم رقيق جداً,شديد المخالطة لجرم هوائي,فلابد وأن يحجل في القلب دم رقيق جداً وهواء ليمكن أن يحدث الروح من الجرم المختلط منها,وذلك حيث تولد الروح,وهو في التجويف الأيسر"
بهذه الطريقة البيولوجية يُرد الهواء من جديد في الروح.
وبما أن لي روح فسأعتمد عليها لأتمكن من معرفة أي شئ يمكن أن يرد الروح بالمعني المجازي,ببعث الرغبة في الحياة والمشاركة الوجدانية في هذا العالم الملغوم الخطر,يأتيني علي الفور الحب والغرام وإيجاد النصف الثاني الذي هو الروح في حد ذاته"هواها يرد الروح"المحبوبة حين تتجلي علي مرآة القلب فتصبح هي الهواء الذي يتنفسه المرء,وتخطر لي أمي العظيمة إيزيس وإعادتها الروح لأوزوريس بعد رحلة زادها الأمل ومطيتها العمل وواحتها الارتباط الروحي...رحلة لم تجد شاعرها العظيم بعد ليضعها فوق الإلياذة والكوميديا الإلهية والفردوس المفقود والسيرة الهلالية في الوعي البشري العام رغم كونها مبثوثة في كافة آداب العالم حتي صرخ منها جوته لأنهما لا يبرحانه,إيزيس من ضاعت روحها بعد موت أوزوريس فعزمت علي البحث عن أجزائه وجمعها من جديد وبعث الروح فيها لتعود لها روحها.
سمعت عن امرأة مرضت بمرض خطير ولم يرج لها الشفاء,أُجريت لها جراحة كانت هي أملها الضعيف,اندهش الطبيب من نجاحها وسرعة تعافيها,ما كان يؤلمها أن زوجها من ذوي النفوس القاسية منع أطفالها الصغار من زيارتها في المستشفي طوال أيام مرضها؛لخلاف مع إخوتها الذين مكثوا معها,عادت إلي المنزل ورأت أولادها وفي صباح اليوم التالي فاضت روحها لمستقرها الأبدي,قال الناس أن روحها كانت معلقة حتي تري أطفالها,هي السبب الأساسي في رد الروح لها وحين ملأت عينها منهم وتشبعت روحها بهم,سلبت الروح التي ردت لها في فترة مرضها..
لكل فرد في هذا العالم هوي/هواء خاص به يرد له الروح لو أنصت لصوت ذاته بعيداً عن ضجة وهراء عديمو الفكر الغوغائيين الذين يحتلون الكرة الأرضية علي مر الأزمان,لو فارق المادة الفاسدة المفسدة وتشبث بمخالب نسر وقلب عصفور بالنداء الباطني فيه فسيُرد له الروح,ويحيا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ومن التصاق بفعل الإحياء الذي لا يعني ميلاد المرء قدر ما يعني مقارعته لوجوده,ليغدو فصلاً جديداً في رواية الحياة المدهشة.
ليس كل هواء يمكنه توليد الروح بهذا المعني المغاير للمعني البيولوجي الذي لا يخضع لإرادة أحد,فالحب يمكنه اتخاذ شركاء عدة,مثلما أحب الكاتب الفرنسي العظيم فيكتور هوجو باريس ووصفها بأنها"المدينة التي وُلدت بها روحي"هذا الهواء مختلف هواء يثير الذهن ويحيي الموهبة,فالتهبت في موقد هذا القلب الإنساني الكبير حرارة الحياة,وولدت للأدب الإنساني الجائع  جان فالجان وكوزيت المعذبة وأحدب نوتردام كوازيمودو والغجرية إيزميرالدا,هواء تخمر عن أرواح لها براح في قلب الكون,نفس الهواء في القاهرة يرد الروح في قلب نجيب محفوظ فتتولد روائع الحرافيش والثلاثية والقاهرة الجديدة وبداية ونهاية,وهكذا كل أديب في مدينته التي كتب عنها وأحبها,فرد له هواها الروح,وكل فنان ومبدع له هواه الخاص ليرد له روحه فتخرج السميفونيات والأغاني والأفلام والروايات واللوحات.
"قد رأينا من خلق السودان على العموم الخفة و الطيش و كثرة الطرب فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع موصوفين بالحمق في كل قطر و السبب الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح و السرور هي انتشار الروح الحيواني و تفشيه و طبيعة الحزن بالعكس و هو انقباضه و تكاثفه. و تقرر أن الحرارة مفشية للهواء و البخار مخلخلة له زائدة في كميته و لهذا يجد المنتشي من الفرح و السرور مالا يعبر عنه و ذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة العزيزية التي تبعثها سورة الخمر في الروح من مزاجه فيتفشى الروح و تجيء طبيعة الفرح و كذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها و اتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت لذلك حدث لهم فرح و ربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشئ عن السرور. و لما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار و استولى الحر على أمزجتهم و في أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم و إقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حراً فتكون أكثر تفشياً فتكون أسرع فرحاً و سروراً و أكثر انبساطاً و يجيء الطيش على أثر هذه وكذلك يلحق بهم قليلا أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر و أشعته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح و الخفة موجودة أكثر من بلاد التلول و الجبال الباردة و قد نجد يسيراً من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها و في هوائها لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف و التلول و اعتبر ذلك أيضاً بأهل مصر فإنها مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريباً منها كيف غلب الفرح عليهم و الخفة و الغفلة عن العواقب حتى أنهم لا يدخرون أقوات سنتهم و لا شهرهم و عامةً مأكلهم من أسواقهم. و لما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن و كيف أفرطوا في نظر العواقب حتى أن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة و يباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره وتتبع ذلك في الأقاليم و البلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء و الله الخلاق العليم و قد تعرض المسعودي للبحث عن السبب في خفة السودان و طيشهم و كثرة الطرب فيهم و حاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنه نقل عن جالينوس و يعقوب بن إسحاق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم و ما نشأ عنه من ضعف عقولهم و هذا كلام لا محصل له و لا برهان فيه و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم."
يعزز كلام ابن خلدون هذا علاقة الهواء بالروح بالمعني بالمفهوم التطبيقي,حيث يري أثر الهواء في نفس الإنسان وسلوكه ورؤيته للحياة, ما يخصنا هنا هو آلية التفكير التي حاولت بلورة العلاقة بين الروح والإنسان,فالهواء هنا يرد الروح للإنسان أيضاً وهذه الروح تنعكس بحسب حالة الهواء,بل تؤثر في الأمم والمجتمعات فالسودان غير فاس بسبب حرارة وبرودة الجو,ولطالما نوّه مفكرون كبار أن الجو الحار عندنا هو سبب تخلفنا بلانا بالكسل والإهمال,بينما البلدان الباردة تكثر في الصناعة والعمل وتتقدم بها الحضارة بصورة مطردة...فكيف بنت مصر وجيرانها الشرقيون حضارات مذهلة نمت وغذت الدنيا بآدابها وفنونها وثقافتها؟!... مع ذلك للجو أثر في حياة الإنسان الروحية الدينية فما أجمل للهندي القابع في مناطق يغلي هواؤها من حالة السكون والتأمل لينتج لنا فلسفات عميقة,ونظريات تدعو للسلام والسكينة في عالم يُنسي فيه الجسد وتطفو الروح في قاربها المفارق لعالم الأرض في جندول السماوات الصافية,بعيداً عن حرارة الأرض الغير محتملة.
يردد الناس في مصر عبارة"هواها يرد الروح"كإحدي التجليات لثقافتنا الأصلية,كصدي من قصة الخلق المصرية,حيث كان خنوم خراط البشر يصنعهم أجسادهم من طمي النيل علي عجلته الفخارية,ثم ينفخ فيها آمون(المحتجب) من روحه لتصير بشراً سوياً,هذه الفكرة التي تمظهرت في ديانات البشر بصور شتي...ربما يكون معني قولهم"هواها يرد الروح"  أن الروح كانت ضائعة في حاجة لمن يردها,أو كأنها في الأصل مفارقة للذات وتحتاج لمؤثر خارجي ليعيدها لنفسها.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق