السبت، 11 مايو 2024

جدلية التسامح والعنف

 

 

عرفت الإنسانية منذ القدم التسامح والعنف، قبل أن تتعلم كيفية بلورتهما في مصطلحات لغوية تختلف من لغة إلي أخري، وقد سبق العنف التسامح بزمن طويل، فجاء التسامح رداً علي طغيان العنف، ففي نشأة الحضارات البدائية كان العنف هو الوسيلة المثلي لحل كافة النزاعات والمشكلات، فسادت الحروب ومن الحروب ظهرت فكرة العبودية والاستغلال، ومع تعقد المجتمعات ولدت العصبية والتطرف للأديان والمذاهب، ثم حاول الأنبياء والمصلحون في الأزمنة القديمة هداية البشر للتسامح، حتي بزغ ذلك المفهوم جلياً علي أرض أوروبا في القرن السادس عشر نتيجة للحروب الدينية التي اشتعلت هناك واتسمت بالوحشية الشديدة، ومنذ ذلك الوقت تطور المفهوم لدعوة عالمية لكل الأديان والقوميات ليزدهر البشر سوياً أو يذبلوا فرادي.

والمجتمع الإنساني كما هو في حاجة للتسامح يحتاج أيضاً للعنف في حالات محددة، بل يمكننا القول أن العنف مشكلة أكثر تعقيداً من التسامح، وسنبدأ في تفكيك المفهومين في إطار جدلي لصياغة فكرة واضحة عن ماهية التسامح وحدود العنف.

1-التسامح

المصطلح اللغوي والفلسفي:

أصل كلمة التسامح في اللغة العربية يعود إلي مادة سمح، بمعني اللين والسهولة، جاء في القاموس المحيط للفيروزآبادي أصل كلمة التسامح في اللغة العربية يعود إلي مادة سمح، بمعني اللين والسهولة، جاء في القاموس المحيط للفيروز أبادي:سمح-ككرم:سماحاً وسماحة والتسميح السير السهل، والمساهلة كالمسامحة وتسامحوا أي تساهلوا، وفي تعريف الجرجاني فالمسامحة"ترك ما تحب تنزهاً"، وفي الإنجليزية tolerance وفي كلا اللفظتين الدلالة المعاصرة علي احترام حرية الآخر وقرارته الفردية ونمط معيشته.

ذكر أندريه لالاند في موسوعته الفلسفية إن التسامح"هو طريقة تصرف شخص يتحمل دون اعتراض أذي غير مالوف يمس حقوقه الدقيقة بينما في إمكانه رد الأذية" ويربطه جميل صليبا بالأخلاق في معجمه، فيعرفه بقوله" التسامح هو أن تترك لكل إنسان حرية التعبير عن آرائه وإن كانت مضادة لآرائك... والتسامح هو أن يحترم المرء آراء غيره لاعتقاده أنها محاولة التعبير عن جانب من جوانب الحقيقة... فليس تسامحنا في ترك الناس وماهم عليه من عاداتهم واعتقاداتهم وآرائهم مما نجود به عليهم، و إنما هو واجب أخلاقي ناشئ عن احترام الشخصية الإنسانية"بينما الباحثة الفرنسية غوبلر فتري" أن التسامح لت يوجب علي المرء التخلي عن معتقداته أو الامتناع عن إظهارها والدفاع عنها أو التعصب لها، بل يجب عليه الامتناع عن نشر آرائه بالقوة والخداع"، وبالنسبة لفلاسفة عصر التنوير فالتسامح هو حالة من الإنسانية والأدب والتفاهم تمكن الناس من التعايش رغم اختلاف آرائهم.

التسامح في فلسفات الحضارات القديمة:

غمرت أنوار الشرق العقل البشري وتشرب العالم كله من نبع ضيائها، فظهر التسامح في الحضارة المصرية القديمة كفكرة  عقائدية وممارسة سلوكية مترسخة في الوجدان، لإيمانهم بالحياة الأخروية فتحتم عليهم فعل الخير وتجنب الآثام، وتأسيس قواعد العدالة والرحمة، فلم يحاول المصريون القدماء نشر دينهم بالقوة قط، مهما بلغت البلاد من قوة ونفوذ، فلم يذكر التاريخ أن هناك شعباً تم إكراهه علي اتباع ديانة مصرية، ونسمع عبر الزمن صوت الحكيم بتاح حتب وزير الأسرة الخامسة، يحذر من مغبة العنف وداعياً للسلام" لا تزرع الخوف في نفوس الناس فتلك إرادة الله، إذا لجأ أحدهم إلي العنف فإن الله ينزع الخبز من فمه، وإذا فعل ذلك من أجل الثراء سيقول الله" لأحرمنك هذه الثروة... اعمل علي أن يعيش الناس فس سلام وسوف يعطونك عن طيب خاطر".

في الحضارة الفارسية يعتبر الملك كورش الإخميني هو صاحب أول ميثاق لحقوق الإنسان في العالم، كتبت علي أسطوانة يرجع تاريخها إلي نحو ٢٦٠٠عام،كتبت بالنقوش المسمارية وتشجع علي حرية العبادة في جميع أنحاء الإمبراطورية الفارسية، وتسمح للسكان الذين تم تهجيرهم بالعودة إلي أوطانهم ومن بينهم اليهود الذي يقدرون ذلك الملك للغاية بسبب مافعله معهم، وكانت الدولة الفارسية في عهده تقزم علي التنوع والتسامح بين مختلف الثقافات والأديان.

ويعبر عن الفلسفة الهندية بوذا المبجل بفلسفته التي يقال عنها بأنها لم تتسبب في إراقة قطرة دم واحدة، فهي قائمة علي المحبة والانعتاق التام من شرور الحياة، وتعتبر عدم التسامح والحط من شأن الآخر والانتقاص من قدره أمراً يزرع بذور العداوة والكراهية في نفوس الناس، لذلك يقول بوذا" يجب علي كل إنسان أن يغرس في نفسه الحب العميق الصادق لسائر الخلق".

يتفق تماماً معه كونفوشيوس أحد مؤسسي الفلسفة الصينية، حين يرفع شعار"حب الآخرين ويعتبر ذلك أحد ركائز عقيدته، ومن اهم خصائص الفلسفة الصينية التأكيد علي التكامل، لذلك تعتبر إن الآراء المتناقضة والاتجاهات المتباينة تشكل صورة واحدة للحقيقة، وعندما سئل كونفوشيوس عن طبيعة الإنسان أجاب ببساطة وعمق قائلاً" إن الناس سواسية خيرين بطبيعتهم، ولكنهم كلما شبوا اختلف الواحد منهم عن الآخر تدريجياً وفق ما يكتسبون من عادات، وأن الطبيعة البشرية مستقيمة، وإذا ما افتقد الإنسان الاستقامة افتقد معها السعادة"

وفي الزمن الهيلليني صنعت اليونان عالماً من التسامح الديني، وسادت حالة فريدة من التعايش بين المذاهب والثقافات، وحاول الإسكندر الأكبر تلميذ الفيلسوف أرسطو صهر العالم في بوتقة واحدة، ومن بلاد اليونان ظهرت الفلسفة الرواقية علي يد زينون الإغريقي، التي نادت بالمواطنة العالمية  ووحدة الجنس البشري.

تطورت الرواقية علي يد الرومان وظلت حتي ظهور المسيحية، هي المعين الفلسفي للعالم الغربي ومن بين معتنقيها الفيلسوف والأديب سينيكا، فكتب عن الإخاء والمحبة كهدف أساسي للجهود الفلسفية" أول شئ تعدنا به الفلسفة هو الشعور بالرفقة والانتماء للإنسانية" وعن الرحمة يذكر"الرحمة التي تعصمك من دم شخص آخر وكأنه دمك، لمعرفتك بأنه ليس للإنسان أن يهدر دم الإنسان".

الفلسفة الحديثة:

تبدأ الفلسفة الحديثة من عصر النهضة في القرن الرابع عشر حتي وفاة هيجل، ويبرز في تلك المرحلة فيلسوف شهير من مفاخر فرنسا التي تضاهي بها العالم، وهو فولتير الذي كتب رسالة شهيرة في التسامح عقب إعدام جان لاكاس ظلما، وتشتيت عائلته، بعد اتهامهم ظلماً بقتل أحد أبنائهم لأنه اعتنق البروتستانتية ، وهو اتهام كاذب ولا معقول من جميع الجهات، فأثارت تلك الحادثة دفاعاً ملتهباً ومتدفقاً عن التسامح، دون ليخلد في الضمير الإنساني، ويلحظ فيه فولتير عن حق أن"المغالاة إلي اقصي الحدود في التسامح لم تتسبب في حدوث أدني انشقاق أو فتنة" ويجئ ذلك عبر بحث ممتع في تاريخ التسامح والعنف، ويؤكد من جديد علي نفس المعني" إن التسامح في خلاصة القول لم يتسبب قط في إثارة الفتن والحروب الأهلية، في حين أن عدم التسامح قد عمم المذابح علي وجه الارض"، ويستمر فولتير بقلمه الممتع وأفكاره المتدفقة يتلو علينا بحجة دامغة دفاعاته عن التسامح ضد التعصب والعنف إلي أن يقول عبارة كاشفة"إن الحق في التعصب حق عبثي وهمجي، إذ إنه من حق النمور وإن فاقع بشاعة، فالنمور لا تمزق بأنيابها إلا لتأكل، أما نحن فقد أفنينا بعضنا بعضاً من أجل مقاطع وردت في هذا النص أو ذاك"

وفي نهاية عام ١٩٩٤وجه مدير اليونيسكو نداؤه لشعوب العالم من أجل التسامح، وبعد ذلك جاء ميثاق الأمم المتحدة المتضمن لخطة عمل من أجل التسامح ورد في مطلعه" نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا علي أنفسنا أن ننقذ الأجيال القادمة من ويلات الحرب.... وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسيى للإنسان وبكرامة الفرد وقدره... وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش معاً في سلام وحيت جوار، وعرفت التسامح بكونه"يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافلت عالمنا ولأشكال التعبير ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية  الفكر والضمير والمعتقد، إنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجباً أخلاقياً فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضاً، والتسامح هو الفضيلة التي تيسر قيام سلام يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب".

 

٢-العنف:

الظاهرة البارزة للمسيرة البشرية منذ ظهور الإنسان العاقل، بل إن تاريخ الإنسان هو العنف، فجذوره تمتد إلي عمق التاريخ السحيق، ومنشأه هو الخوف، فقد كان الإنسان عاجزاً ضعيفاً أمام الطبيعة والحيوانات المفترسة وأمام غيره من نفس جنسه، فكانت الحجارة والعصا هي الوسيلة الوحيدة لفرض الإرادة، وتحتل قصة ابني آدم قابيل وهابيل مكانة مركزية في اليهودية والمسيحية والإسلام.

المصطلح اللغوي والفلسفي:

العنف ورد في لسان العرب لابن منظور بمعني "الخرق بالأمر وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق، عنف به وعليه يعنف عنفاً وعنافة وأعنفه وعنفه تعنيفاً، وهو عنيف إن لم يكن رفيقاً في أمره. واعتنف الأمر أخذه بعنف." وجاء في تاج العروس للمرتضي الزبيدي"العنف... هو ضد الرفق، الخرق بالأمر وقلة الرفق به" وكل المعاجم لا تخرج عما ضمنه ابن المنظور والزبيدي، ويرتبط دوماً بالقسوة والشدة والتقريع والتوبيخ، فتنبه أهل اللغة للعنف الجسدي والشعوري.

كلمة العنف في اللغة العربية ترادف في المعني العام كلمة violence التي تعود في أصولها لكلمة violentia اللاتينية ومعناها القوة وهي علي اتصال بكلمة violante ينتهك.

يعرف جميل صليبا العنف في معجمه الفلسفي علي إنه"مضاد للرفق، مرادف للشدة والقسوة، والعنيف violent هو المتصف بالعنف، فكل فعل شديد يخالف طبيعة الشئ ويكون مرفوضاً منه وخارجاً عنه فهو بمعني ما فعل عنيف، والعنيف هو القوي الذي تشتد صولته بزياد الموانع التي تعترض سبيله، والعنيف من الرجال هو الذي لا يعامل غيره بالرفق، والعنف أيضاُ استخدام القوة استخداماً غير مشروع أو غير مطابق للقانون"أنا الباحث أحمد خليل في كتابه" المفاهيم الأساسية لعلم الاجتماع فيعرفه بأنه"الإيذاء باليد أو باللسان أو بالفعل أو بكلمة في الحقل التصادمي مع الآخر".

وفي معجم الفلسفة لمحمود يعقوبي"العنف هو استعمال القوة بصورة غير قانونية للحصول علي شئ مرغوب فيه، أو استعمال القوة لاسترداد حق مهضوم أو حمايته، استعمالاً لا يستمد مشروعيته  من غايته مثل العنف الثوري"وفي نفس الإطار القانوني يعرفه مونتسيكو في كتابه روح الشرائع"هو استعمال غير مشروع أو علي الأقل غير قانوني للقوة عندما نكون نحن الذين نعيش في ظل قوانين مدنية، مكرهين علي إبرام عقد ما لا يقتضيه القانون "

وفي مجال علم النفس يعتبر العنف مرضاً نفسياً يهتم به الطب النفسي، فيبحث في الاسباب البيولوجية والدوافع النفسية، والعوامل التي ينتج عنها سلوك عنيف كالإدمان والتربية، وذره عبد القادر طه في موسوعة علم النفس والتحليل النفسي بانه" سلوك مشوب بالقسوة والقهر والإكراه، وهو سلوك بعيد عن التحضر والتمدن، تستثمر فيه الدوافع والطاقات العدوانية استثماراً صريحاً بدائياً كالضرب، والتقتيل للأفراد، والتكسير والتدمير للممتلكات، واستخدام القوة والإكراه للخصم وقهره ويمكن أن يكون العنف فردياً يصدر عن فرد واحد، كما يمكت أن يكون جماعياً يصدر عن جماعة أو هيئة أو مؤسسة".

ينقسم العنف إلي نوعين هما عنف مادي يتمحور حول الجسد، والعنف المعنوي الذي يتعلق بمشاعر الإنسان وأحاسيسه، وهناك طريقيتين لممارسة العنف، طريقة شرعية تتمثل في حق الدولة والمجتمعات في استخدام العنف لحماية أمنها والدفاع عن نفسها ضد أخطار خارجية.

العنف في فلسفات الحضارات القديمة:

العنف غريزة أساسية في الطبيعة البشرية لم تتغير مبادئها وآلياتها حتي الآن، لكن جعلتها التكنولوجيا والتسليح العسكري المتطور أكثر فتكاً ووحشية وهولاً، لكن المبادئ كما هي مع حلول البندقية والقنبلة النووية محل العصا والسيف.

استناداً للمفهوم الجدلي يري هيراقليطس أن العنف هو شئ أساسي للعالم، فلا يوجد شئ في الدنيا بدون عنف، فلكي يتواجد أي شئ يجب أن يزيح أو يلغي شيئاً آخر، وقام بانتقاد هوميروس لأنه أخطأ في ملحمته الخالدة الإلياذة وتكملتها الأوديسة لأنه قال أن التنازع بين البشر والآلهة قد زال، واعتبر أن ذلك لو كان حقاً لزالت جميع الأشياء في العالم، فالعنف والصراع في نظر هيراقليطس هما أصل كل شئ، وربط السوفسطائيون العنف بفكرة القوة باعتبار أن القوة هي المعيار الأساسي للفعل السياسي.

ملمح العنف في اليهودية بارز لدرجة ضخمة ومخيفة، حتي أن مصطفي محمود يصوغ مدي العنف التوراتي بقوله"جعلوا من الرب طاغياً يستبيح لهم الأمم،  و النص التوراتي في سفر الخروج يعلن ذلك صراحة فـ" الرب رجل الحرب"، و" الرب إله الجنود يهوه اسمه، وألفاظ الحرق ترد بكثرة كـ"احرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار"، "اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة"، "احرقوا حتي بنيهم وبناتهم بالنار"،" فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرمها بكل مافيها مع بهائمها بحد السيف".

الفلسفة الحديثة:

اعتبر الفلاسفة المحدثون أن العنف أداة اساسية للحكم والسياسة فميكافيللي الشهير في كتابه الامير، يوضح أن السياسة لها ركائزها المنبتة عن القيم الدينية والأخلاقية، ومن الأدوات الواجب علي الأمير استخدامها في الحكم العنف كقوة أساسية يحقق بها المصلحة العليا، بهدف بث الرعب والرهبة في نفوس الرعية، ومن الصفات الأساسية للأمير احتكاره القوة خاصى الجانب العسكري، لأن القانون عاجز عن تحقيق أهداف الدولة، وميكافيللي في مؤلفه كان يجلي حقائق الامور، ولم يخترع مناهج جديدة للسياسة، بل كشف عن وسائل الأباطرة والملوك في الحكم فاتضح له أن المصلحة والقوة والعنف، هي المعايير الحقيقية للسياسة وبرغم من بشاعة ذلك الاكتشاف يبقي حقيقياً وصادقاً رغم كل امنياتنا الطيبة في عالم أفضل.

ولا يتخلي الفيلسوف توماس هوبز الملقب بإقليدس السياسة  عن العنف بل يسمي الدولة"التنين الكبير"، لأنها تبتلع في جوفها الأفراد الذين تنمحي شخصياتهم وإرادتهم في مواجهة شخصيتها وإرادتها، ويتساءل عن نمط الحياة في حالة غياب قوة لردع الناس، حينها ستقع فوضي هائلة وسيتجند كل شخث متسلحاً بماتطاله يده، للدفاع عن نفسه وممتلكاته ويحدث ما سماه "حرب الكل ضد الكل" وينتج عن ذلك عاقبة وخيمة كما حذر في كتابه التنين" إن كل عمل يأتيه الإنسان مهما كانت بشاعته يعد عملاً عادلاً، وبالتالي فإن الأفكار العامة عما هو  خطأ أوصواب، أو عادل أو ظالم لا محل لها من الإعراب علي الإطلاق، فحيث لا توجد قوة مشتركة رادعة، ولا يوجد قانون يخضع له الناس جميعاً، لايمكن أن يوجد أي نوع من أنواع العدل"وحينئذ سيكون" الإنسان ذئب أخيه الإنسان"كما قال، وأشار هوبز علي تخويل الملك استخدام كل الوسائل المشروعة والغير مشروعة لغاية واحدة هي تحقيق الأمن والاستقرار، فالقوة في عرف هوبز هي المحرك الأساسي لعالم السياسة وهو في ذلك لا يختلف مع هيراقليطس والسوفسطائيين وميكافيللي.

مع صدور البيان الشيوعي بقلم ماركس وتلميذه فريدريك أنجلز، اعتبرت الماركسية أن العنف برز للحياة انطلاقاً من الصراع الطبقي، واتخذ حسب العصور أشكالاً متباينة، والقاسم المشترك بين كل الأزمنة هو الصراع بين الطبقة البرجوازيى المالكة لوسائل الإنتاج، وطبقة البروليتاريا المفتقدة لوسائل الإنتاج، ولذلك قاما بالدعوة إلي الثورة الشيوعية التي لن تحقق أهدافها سوي بـ"انتهاك" الملكية ونظام الإنتاج البرجوازي.

أما جورج سوريل فيؤسس فلسفته الاشتراكية علي "مذيح العنف" فالاشتراكية لا تستمر إلا بالإضرابات، ويعتبر إنه عن طريق العنف يمكن خلق المجتمع من جديد.

وفي القرن العشرين تتجلي فلسفة العنف عند فرانز فانون، كما قدمها في كتابه المعذبون في الأرض، فيصف الدولة الاستعمارية بأنها تقتل إنسانية المقهورين، وتلجأ إلي كافة الوسائل لإهانتهم واستعبادهم، وطبقاً لذلك الوصف فلا يمكن القضاء علي القوي الاستعمارية إلا بطريق العنف، وكان يردد في أحاديثه وخطبه" إني أتحدث عن ملايين الناس الذين شربوا بدهاء عناصر الخوف ومركبات النقص والذعر وروح العبودية واليأس والذل".

كلمة ختامية:

إن الجدلية بين التسامح والعنف ستظل قائمة وأبدية، كجزء من قانون الحياة بتعاون الأضداد والنقائض علي تشييد كوننا الذي نحيا فيه، فالسالب ضروري للموجب والليل لابد منه لولادة النهى، وسيظل التسامح والعنف يلعبان دوراً مصيرياً في التاريخ البشري وينسجان لنا متوالية حكايات، تدور في أعلي ذري الأخلاق والعطف، وأخري تنحدر لحضيض الحيوانية ملطخة بالدم ومعمدة بالمجازر، ومع ذلك يبقي العنف مكومأً أساسياً لآلية عمل المجتمعات والدول، لا يمكن الاستغناء عنه مثله مثل التسامح بالضبط... لكن علي الإنسان أن يجابه معضلة لا غني عنها طرحها الفيلسوف الوجودي ألبير كامي في مسرحيته العادلون، وهي متي يلجأ الإنسان للعنف ومتب يستكن في أحضان التسامح.

الأحد، 5 مايو 2024

عتبات البهجة المغلقة

 

 

 

للدراما غرام خاص بالأدب، فمنذ ظهور الكاميرا ارتوت الشاشة من نبع الأدب في مختلف البلدان والثقافات، واجتماعهما سوياً يثير مشاعر مختلفة فيصبح للقلب عينا علي الصورة وأخري علي الكلمة، ومهما قيل عن اختلاف الوسيط والوسيلة بين العمل الادبي والعمل الدرامي المقتبس عنه، ستظل المقارنة بينهما موجودة وذلك أحد الحسنات الكثيرة لعلاقة الدراما بالأدب، لأنها تشرع للناقد نوافذ عديدة يتأمل منها تفاصيل تثير التفكير والتأمل.

وللأديب الكبير إبراهيم عبد المجيد عدة تجارب مع السينما والتلفزيون، فتم تحويل روايته الشهيرة-وفي رأيي الأجمل في مسيرته الأدبية- لا أحد ينام في الأسكندرية ثم رواية في كل إسبوع يوم جمعة لأعمال تلفزيونية، أما السينما فقد اختارت رواية الصياد واليمام، وأخيراً عرض مسلسل عتبات المأخوذ عن رواية بنفس الاسم نشرت في عام ٢٠٠٥ تدور حول صديقين تجاوزا الخمسين، يبحثان عن البهجة في العلاقات النسائية والتكنولوجيا والأعشاب الطبية والسينما، وقد كتبها عبد المجيد عقب وفاة زوجته بالمرض الخبيث، واصابته هو نفيه بمرض في القلب استدعي العلاج بالتمشية كل يوم، وتلك الظروف تركت بصمتها واضحة عند أحمد بطل الرواية وصديقه حسن صاحب الآراء الغرائبية في الحياة والطب، وبنل إن السينما ملمحاً بارزاً في حياة وأدب إبراهيم عبد المجيد، حتي إنه خصص لها كتاب"أنا والسينما" نجدها حاضرة بقوة في أعماله عموماً بل إن فيلم عربة اسمها الرغبة بنهايته الحزينة هو ما زرع فيه بذرة تلك الرواية التي جلس لتدوينها مباشرة عقب مشاهدة ذلك الفيلم.

بين صفحات الرواية نستشف الحالة العامة للمجتمع المصري في بداية قرننا الحالي، ونلمس جزء من الاسباب التي فاقم تجاهلها من أضرارها دام تأثيرها حتي اليوم.

ومع تحويل المسلسل لرواية بنفس الاسم في رمضان ٢٠٢٤من بطولة يحيي الفخراني وإخراج مجدي أبو عميرة والإشراف الدرامي لمدحت العدل، لم يحتفظ صناع العمل إلا بالإطار العام للرواية، ويحسب لهم إدخالهم في صميم القصة أزمات الجيل الحالي كانهيار التعليم وانتشار المخدرات والجانب المظلم من الانترنت والتكنولوجيا، وغيرها من المشكلات التي يئن تحتها الشعب المصري، وقبل بداية عرضه كانت التوقعات تلامس قمة التفاؤل والأمل بعمل مميز بسبب ارتباط الفخراني في الوجدان العربي بالأعمال الجميلة التي تحتل مكانة خالدة في الذاكرة البصرية للجمهور العربي ككل، لكن من الحلقات الأولي تقلصت الآمال المعقودة علي النجم المحبوب، رغم إن أداء الفخراني نفسه لم ينقص منه شيئاً، فالعيب الأساسي للعمل يكمن جزء كبير منه فيما وراء الكاميرا، وخصوصاً في السيناريو الذي قدم شخصيات نمطية للغاية لها سلوك متوقع، مع العيوب المعتادة من ورش كتابة السيناريو وخلط فن الذراكا بمحتوي السوشيال ميديا، والأداء التقليدي للغاية لبعض الممثلين وأبرز من وقع في فخ الأداء التقليدي هي جومانة مراد في شخصية نعناعة، فدور المرأة الشعبية يحتاج لمراجعة جذرية من أهل الفن في مصر، بمشاركة مختصين واعين للماهية الحقيقية للمرأة الشعبية وصفاتها الإيجابية والسلبية علي السواء، في المقابل نري علاء مرسي في شخصية عيطة قليل الحيلة المقهور، يؤدي شخصية الغلبان بصدق مؤثر، وبالنسبة لتسكين الأدوار للعديد من الوجوه الشابة فقد جاء بعيداً عن الصواب لحد كبير... وإذا سألتني"أين أجد عتبات البهجة في الرواية أم المسلسل؟" فسأنصحك أن تتجه لصفحات الرواية، ولتعتبر المسلسل محاولة لم يحالفها النجاح لصناعة بهجة درامية كعادة الفنان يحيي الفخراني.