الثلاثاء، 3 مارس 2020

علي هامش حديث الأربعاء ليوسف زيدان(1)


علي هامش حديث الأربعاء ليوسف زيدان(1)
الاسرائيليات...الفانتازيا التاريخية
في الصين القديمة عاش الفيلسوف منشيوس واحد من أشهر الأسماء في الشرق,تقابل ذات يوم مع الملك"هوي"ملك ليانج فقال له الملك:
-أيها السيد المبجل,مادمت اتعتبرت أنه من ضمن الأمور الجديرة عنايتك أن تسافر سفراً بعيداً حتي قدمت إلي هنا,فإنني أعتقد أنك لابد أن تكون قد جئت ومعك من النصائح ما يعود بالفائدة علي مملكتي...أليس كذلك؟
فأجابه منشيوس-قبل قرون عديدة خلت بمفهوم لم يترسخ حتي اليوم بين بين البشر,المتبلبين بين حسابات المكسب والخسارة,والسعي إلي المنفعة دون تبصر,صحيح أن تلك الحالة أدت إلي نتائج برجماتية ملحوظة في العالم المتقدم لكننا في تلك البقعة من العالم التي نعيش فيها,عاجزين حتي عن تمييز المكسب من الخسارة!-:
- لماذا كان عليك يا صاحب الجلالة أن تتحدث عن الفائدةّ؟! ليس عندي ما أقدمه سوي حب الخير والصلاح,فإن سألت يا صاحب الجلالة"ما الذي سيعود علي مملكتي بالفائدة",إذن فسيسأل كبار الموظفين"ما الذي سيعود علي أشخاصنا بالفائدة,وسيسأل صغار الموظفين "ماذا سيعود علي أشخاصنا بالفائدة"وسينافس الكبار والصغار بعضهم بعضاً من أجل الفائدة,وستتعرض الولاية للخطر"
أعتبر الكتابة والعلم ونشر المعرفة من سبل الخير التي ينتهجها الإنسان في حياته,فتغفر له ضعفه البشري في مواجهة المغريات والمخاوف؛لذلك توخزني شوكة في قلبي عندما يتحدث يوسف زيدان في موضوع ويجابهه سؤال"وما الفائدة"يخيل لي أنه سيثور علي هذا السؤال الذي وجه لمنشيوس من قبل ومن المفترض أن إجابته عرفت منه,لكنه يتلقاه في هدوء ويجيب بحصافة مكثفة تفتح مغاليق الوعي الصدئ.
أتمني أن يفرد له التليفزيون المصري ضمن خطة التطوير,برنامجاً خاصاً ينفرد فيه بالظهور علي راحته,في سبيل تأسيس جديد للثقافة المصرية بعدما انعدمت بفعل غياب تام للتعليم ولو ظهر فلا يثير سوي الشفقة والضجيج البائس,تنتفع به أجيال انفصمت عن تاريخها وثقافتها,بدلاً من وجود محاورين كثيري المقاطعة والفذلكة دون وعي,عاجزين عن التمييز بين رجل يحمل الخير والإصلاح,وآخر ليس هناك سبباً لظهوره سوي فتح مكلمة وثرثرة لا ثمار لها.
لكن من ضمن الدروس التي صفعتني بها الحياة في وجههي أن الإنسان في مرحلة ما لابد أن يقنع بالمتاح ويعمل من خلاله,ربما يقدم خلال عمره خطوة,تتلوها خطوة أخري من جيل آخر وهكذا حتي يتعبد الطريق أمام السائرين بعدنا,ثم تصل مصر للمكانة التي تستحقها,وبغيابها عنها جُنت البوصلة ولم يعد هناك درب واضح لخطوات المنطقة كله,وبما أنه توقف عن الأسئلة منذ فترة تاركاً بالنسبة لي فراغ عقلي كبير أعيتني الحيل في تعويضه,سأتتبع هذه الحلقات التي سيثير فيها قضايا متنوعة وأكتب عنها كحافز معرفي.
في الفيزياء الكلاسيكية النيوتونية ينقسم الزمن إلي ثلاث مراحل:الماضي والحاضر والمستقبل,مرحلة يترتب عليها مرحلة أخري,وفي الثقافة العربية يحتل الماضي كل شئ,وله نصيب حتي في المستقبل!الكل يمضي يلوي عنقه ناظراً ورائه,دعك من أنه سيتعثر حتي يدمي بلا شك,سيجد أيضاً فيافي شاسعة في ذلك الماضي يغطيها ركام من خرافات ومنطق معيوب وأقاصيص مدسوسة جعلت من حاضرنا كتلة هلامية لا ملامح لها,منذرة بمستقبل شديد السوء,وأنا لا أعرف في القرن العشرين من أصابته تلك اللوثة غير الشعوب العربية المنهارة هل هي منهارة لأنها هكذا تسير أم تسير هكذا لأنها منهارة؟!كل الشعوب لديها أساطيرها الجميلة لكنهم يتعاملون معها علي أنها مواد فنية يدرسونها من الوجهة الأدبية والدرامية,أما الثقافة العربية تتخذها منهجاً قائماً علي ثلاثة لاءات لعينة(لا قوانين لا منطق لا تشكيك) في حالة عجيبة من التصميم علي تدمير الذات...ومبروك قد نجحت لكن الأمل في المصممين علي الأمل.
ربما لذلك لا نجد ردة فعل قوية إثر تدمير الآثار وتشوية الحضارات القديمة في مصر حماها الله والعراق وسوريا ينيجهما الله,فتلك الشعوب صاحبة الحضارات المؤسسة في الثقافة الإنسانية,أصبحت اليوم لأشد الأسف حتي منتهاه متشبعة بحواديت استلبت التاريخ كأمثال تلك المنسوبة لوهب بن منبه"التيجان في ملوك حمير"سرقها عن تواطؤ منها من حكمة إيمحوتب وتجربة جلجامش وبناء زنوبيا,وجعلت رؤيتهم لبلادهم تلك الأقاصيص المطوية في كتب تمثل الوجه القبيح للتراث وتلك هي الأزمة التدله في القبح والتفاني في الدفاع عنه,تحكي كل شئ منذ ما قبل الخليقة بأريحية تامة وثقة مستفزة,كأن الراوي كان شاهداً عليها وعلي قصص الأولين,لو تعاملنا مع هذه الأحاديث الطريفة علي أنها قصص فنية نرتشف منها المتعة الأدبية دون اعتبارها حوادث حقيقية,لكان للحاضر وجه آخر ولتوقفنا عن الجدال حول المهدي المنتظر وبدأنا في الكفاح والنضال بالعلم والعمل في سبيل حياة إنسانية أفضل.
والحق أنه ليغيظني بشدة ما تسرب من الإسرائيليات لينال من مصر وحضارتها,وقد غاظت فرويد من قبل فصرح بأن العقدة الأزلية لليهود هي الحضارة المصرية,وقد تتبع الرواة هذا الخط فأصبح لمصر التي هي"صورة السماء وأن القوي التي خلقت الكون قد تنزلت علي أرضها,وإن أردت كبد الحقيقة فإن مصر هي معبد السماء"كما جاء في متون هرمس,نصيب من تلك الفانتازيا التاريخية سلبت منها الفضل والفضيلة ولوثها بأوحال ما قاله فلان ورواه علان.
كان فاروق خورشيد محقاً عندما ذكر لكاتب المقدمة الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح أن كتاب التيجان"تحفة من الفن المكتوب"وهو شبيه بألف ليلة وليلة لبست رداء الدين والتاريخ,فأصبح ذو قيمة بينا العمل الفني الأمل والسردية الأروع في تاريخ البشرية ألف ليلة وليلة عرضة للنبذ ومحاولات المنع,بدعوي ما فيه من أدب مكشوف وعبارات جنسية,من الأحق بالمراجعة عمل فني فذ دانت له الآداب الحديثة واعترف به في العالم علي أنه السردية الأكثر جمالاً وخيالاً وجاذبية أم كتاب يحتوي علي صنوف من الخرافات العربية اكتسبت قداسة لإدخالها أسماء الأنبياء والملوك والصالحين كأبطال لها,وأيهم أخطر علي المجتمع في عصر الإنترنت وما حوي من كل شئ,عمل أدبي تسجل فيه أسماء الأعضاء الجنسية وأوضاع العشق الرقيق أم كتاب يفتقد لأبسط مبادئ التاريخ وبه نستكشف التاريخ وعلي ضوئه نعيش واقعنا؟!!!
كتاب ينفي مقدمة ابن خلدون الشهيرة التي لم يقرأها أحد لصالح وهب بن مبنه وتغليب الخرافة علي التحليل المنطقي؟!إذن الميزان في الحاضر يميل إلي ابن المنبه ويجعل ابن خلدون تحت الظلال المعتمة.
لماذا يفرد العقل العربي منطقة حرة لمفكري وكتاب السبهللة والاستسهال وينفي ويطارد ويضيق علي أصحاب التفكير القويم.
قد يبدو التشبيه بعيداً لكنني أجد في نفسي ميلاً قوياً له,تاريخ وهب بن المنبه يشبه سلسلة مارفيل الهوليودية الشهير بأبطالها الخارقين لا يهم الحقيقة والمنطق بقدر ما تهم الإثارة والمبالغة البعيدتان عن الالتحام بالنفس البشرية وحاولة فك شفرة الحياة,وتاريخ ابن خلدون يشبه أعمال شكسبير التاريخية حينما يتأمل في شخصية الملك لير وسقطته المدمرة,وخيانة ماكبث وسلوك زوجته,وموقف هاملت وتردده في الفعل...
مع إذاعة الحلقة القادمة سنستكمل الحديث علي هامشها,وياليت يوسف زيدان يأخذ مساحته الحرة من الحديث دون أن تقطع عباراته أو يخرج من سيل أفكاره لملحوظة لا معني له أو تعليق لن يضيف شيئاً,ولتكن ساعة ننفض فيها عن أنفسنا ميراث السبهللة والاستسهال,تذكرنا بسلفه الصالح العميد العظيم طه حسين في"حديث الأربعاء".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق