السبت، 15 أغسطس 2020

انتحار بيت قديم

 


العصفور السعيد

تقدم العصفور خطوة ليقف ملاصقاً للنافذة تماماً,ينظر من خلالها إلي البنت الصغيرة مفطورة القلب,تبكي بحرقة,يسمع تنهداتها من الخارج,يحزن العصفور لبكاء البشر,ويتألم معهم رغم أنه لا يجد سبباً للحزن,السماء واسعة والأرض كذلك تسع الجميع ليحيا فيها,فما بال هؤلاء البشر يكدرون بعضهم ولا يرتاحون إلا إذا ألحقوا الأذي بغيرهم,نقر نقرتين علي الزجاج,لم تنتبه البنت وراحت تعض الوسادة مقهورة ودموعها الساخنة تجري وتزوم من الوجع,زادت شفقة العصفور وزقزق لعلها تتلهي عن بكائها,ظل يزقزق ويغني ويضرب بجناحيه طوال الليل,حتي هده التعب وارتمي علي ظهره في يأس وإجهاد,شاهد الدنيا من تحته تموج بخلق كثير,يطوف الناس حول أنفسهم فقط لا يهتمون بغير فائدتهم,غير عابئين بما ينطوي عليه العالم من آلام,قرر أن يكون أفضل منهم,واصل الليل بالنهار,مع طلوع الشمس كان يغني ويرقص سعيداً منتشياً,يغني للبنت النائمة ظناً منه أنها نامت علي صوته,رقص حباً في الطبيعة والسماء,وكلما ارتفعت الشمس زادت حرارة أداؤه,لم يتحمل قلبه كل هذه السعادة والتعب وسقط ميتاً علي الإفريز.

عند الظهيرة والشمس في عز شبابها,فتحت البنت النافذة,وصرخت هلعاً عندما وجدت العصفور ميتاً,جاءت أمها جرياً تستطلع ما حدث,أحضرت عصا المكنسة الخشبية المكتسية بالسواد عند رأسها,ودفعته ليهوي إلي الأرض,ارتطم بالأسفلت وعلي وجهه الميت ابتسامة يعرفها من يجيد قراءة التعابير العصفورية,قفزت قطة رماها صبي عابث بالحجارة نحو الرصيف,تأملته للحظة,وتدلي رأسها نحوه,التقطته بين أسنانها وغابا عند المنعطف.

2

انتحار بيت قديم

اليوم يهدمون البيت بعد حياة مديدة امتدت مائة عام,وقف عامل بارز العضلات تحت الشمس المحرقة,رفع المطرقة الضخم بساعدين مدربين,هوي فوق رأس المنزل توجع البيت من الضربة,قلقت الذكريات وتوجست بقايا أرواح كل من عمروه,تتالت الضربات,عشرات السواعد تجلد البيت بلا شفقة,بكاء البيت طغت عليه أصوات المطارق وزعيق المارة وجعير أبواق السيارات,يتمني لو يسمعه أحد ويعفو عنه صرخ بصوت واهن تردد في جب الفراغ العميق:

-لا زلت قوياً ويمكنني العيش مائة سنة أخري,صاحبي الأول بناني كما ينبغي,كان علمه في رأسه وعمله في يديه وضميره رقيب,لماذا تريدون هدمي وكل ما حولي هو ما يستحق الهدم قبل فوات الأوان,مع أول هزة سيقع فوقكم وساعتها ستحتاجون لي,اتركوني أعيش رحمة بكم يا ناس.

همدت المطارق,ظن أنه نجح في إقناعهم,فرش العمال السمر المغبرين بالتراب علي وجوههم وملابسهم,ملاءة مهترئة,وجلسوا حول طعام الإفطار يأكلون ويتحادثون,يؤنسون وحدته الآن إذن,سامحهم علي طرقاتهم المؤلمة,وراح يستمع لأصواتهم في شوق من فقد الحس والصاحب...آه...ضربة أخري,استسلم البيت للأمر الواقع,جمعت بقايا الأرواح نفسها وخرجت للشارع وسط الغبار والحر,أما الذكريات فقد تكومت علي نفسها وقد قررت أن ما يجري علي البيت يجري عليها.

جاء البلدوزر في النهاية ليهدم الدور الأول من جذوره,بمجرد أن لامس حديده البيت الذي فقد قواه,سقط من تلقاء نفسه منتحرا,مخلفاً ورائه سحابة هائلة من التراب الناعم,ثار في الجور وهاجم كل ما في طريقه,أغلقت الحوانيت أبوابها وأغلقت المنازل شبابيكها وجري المارة,خوفاً من العاصفة الترابية وبعد خمودها,عاد كل شئ لحاله...ولم يعد البيت القديم.

3

النبضة الأخيرة

العجوز في غرفة العناية موصول به أسلاك في الأنف والصدر,ممدد علي السرير,هو الذي لم يمكث يوماً في مكان,طاف الدنيا وحكي كثيراً عن متعته الجارفة وهو يهبط في بلاد الجليد من علي سلم الطائرة متدفئاً بالخمر وأحضان النساء,معلقاً جاكتته علي إصبعه فوق كتفه,وعن مغامراته في بلاد الفرص يركض حول نوادي القمار ولاعبيه يربح من ذلك وينفقه علي تلك,وعن ركوبه للفيل في الأدغال وتمايل جسده واهتزازه مع حركته,كان يختبر الشباب بسؤالهم عن عواصم الدول وكالعادة لا يجب أحد,فيستفيض هو في الكلام عن الجغرافيا والتاريه والعالم وما يحوي من جمال ومناظر,يحملهم بلسانه إلي ما سمعوا عنه ولم يروه,يسرد عليهم ما يلهب رغبتهم في التجوال,لعلهم يعيشوا حياة كالتي عاشها أو قريب منها.

يبدو هادئاً بعد فوران طويل,ليس بجواره مخلوق,نسي في غمرة طموحه وتقافزه في أرجاء الأرض,أنه يحيا وحيد ليس بجواره أحد وعندما أفاق كان الوقت فات,القلب ينبض نبضاته الأخيرة,أخيراً سيستقر العجوز هذه المرة في بلاد بعيدة جداً,لها تذكرة ذهاب فقط,ها هي يمنحها له جهاز قياس ضربات القلب بخيط طويل وصفارة مزعجة تستعجله لرحلته الأخيرة...وداعاً أيها العجوز ستعيش بعد حكاياتك حتي يلقاك آخر من سمعها منك.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق