الجمعة، 2 أكتوبر 2020

"الكهف"...العودة لفن السينما

 

لسنوات عديدة,ظلت حجة تصوير الواقع في الحارة الشعبية ذريعة أساسية لكافة السقطات الفنية,وعرض القبح بصورة مفارقة لكافة معايير الجمال السينمائي,والسينما كما يعرفها عشاقها جمال صافي يتألق في العيون والأرواح,حتي وهي تعرض أسوأ الصفات وأبشع القضايا,تظل الصورة والقصة محتفظتان بحلاوتهما في نفس المشاهد,علي عكس مدرسة العشوائيات السينمائية المتحججة بالعشوائيات السكنية,يعرض فيلم الكهف للمؤلف سامح سر الختم والمخرج أمير شوقي معاني إنسانية رقيقة في نفس العالم الشعبي الذي خرجت للتعبير عنه أعمالاً في غاية السوء,وكملحمة شعبية يتضافر فيها الضعف البشري مع قسوة القدر مع الرغبة في الخلاص,تتوالي أحداث الفيلم بين مشاهد البداية تحت أمطار غزيرة في الشوارع وظلام حالك في البيوت,ومشاهد النهاية حيث الضياء الكاشف المُحرج للإنسان المتعري المتهالك بفعل ماضيه المتسلط علي حاضره بضراوة,فيمنع النور من التسلل لباطنه المظلم.

يشتكي بعض النقاد والمشاهدين من كون الفيلم ليس له بناء واضح وأسلوب السيناريو مرتبك في الحكي,وللأسف نحن نفتقد إلي الناقد الواعي الدارس وللمشاهد المتفهم لأسباب عديدة علي رأسها انهيار تام لمنظومة التعليم الخربة,لهذا السبب نجد أفلاماً لا تتخير كثيراً عن حواديت المصاطب الساذجة ممزوجة ببعض البهارات المحببة لعقلية المشاهد المعاصر تنال منه الإعجاب الكامل,لأنها لا تستدعي التفكير...التفكير ما هذه الكلمة الغريبة علي أسماع المواطن المفتقد حتي للبديهيات المنطقية ناهيك عن التذوق الفني.

قديماً قال العرب باستحالة وجود ثلاثة أشياء:1-الغول 2-العنقاء-3 الخل الوفي,الخيط الجامع للقصص الثلاث في الفيلم هي غياب الخل الوفي,صادق(ماجد المصري) وعبدالله (محمود عبد المغني)وخيانة زوجة الثاني له مع الأول,صفاء(روجينا)وثقتها في مسعود(ميدو عادل)النذل لم يحفظ سرها واستهان باطمئنانها له,ومع نفس النذل تخدع نعمة(مي سليم)ولا يكتفي بذلك بل يصور علاقتهما بالموبايل!وهي الظاهرة العجيبة في العلاقات العاطفية والجنسية هذه الأيام لتحويل أخص خصوصيات الإنسان إلي أداة دنيئة للابتزاز.من خلال القصص الثلاث يتأمل المخرج والمؤلف في ابن آدم الضائع في الكهف.

لماذا الكهف؟هل هو كهف أفلاطون حيث الظلال هي الحاكمة ويستحيل معرفة أي شئ عن الحقيقة الغائبة عن العقل البشري المغرور,أم كهف النفس الإنسانية الغارقة في العتمة,أو ربما الكهف في القصة الدينية حيث يعمل كآلة زمن يعود منها الماضي لينغرس في واقع جديد,أم الكهف هو العالم نفسه الذي سيهرب منه علي ابن صفاء في المشهد الأخير إلي مكان مجهول ولا نعرف هل سينجو وسط زحام العالم وسقوطه المريع وانحلال الالتزام الأخلاقي بين البشر وفي نجاته نجاتنا,أم سيدخل إلي كهف آخر؟أسئلة كهذه هي ما تجعل للأفلام قيمة فكرية وفنية حققهما المخرج أمير شوقي رغم كافة المضايقات التي تعرض لها قبل الفيلم وبعده,مع مجموعة من الفنانيين قدموا أداء جماعي أبرز إمكانياتهم التمثيلية,حتي متوسطي الموهبة بينهم استخرج منهم المخرج أداء أفضل مما قدموه في أعمال أحري.

عبقري هو المثل الفرنسي القائل"ابحث عن المرأة"يمكن تطبيقه علي 99%من أحوال الرجل في الحياة,المرأة هي المركز الأساسي في عالم الرجل وإن أنكر أو تهرب أو ادعي غير ذلك,بعد اكتشاف خيانته من قبل صديق عمره مع زوجته وهو يراقبهما في صعف مخز,يذهب عبد الله لزيارة قبل والديه كعادة المصريين في الاستنجاد بالموتي ومن ولي زمنه وغاب تحت التراب كإرث قديم لتقديس الموت في مصر القديم,وهناك يتعرف علي عصابة القبور منتهكي حرمات الموتي علي رأسهم المقرئ الحالم أن يصبح ابنه علماً من أعلام التلاوة المصرية الخالدة في سماوات الإبداع الصوتي,عبد الله الخجول الذي يعاني من ضيق ذات اليد وعدم الثقة في نفسه يتحول إلي أحد أركان العصابة بل ويأخذ دور الفتوة داخلها,وطارق المنحرف الشقي يصبح متصوفاً من ذوي العمائم الخضراء في انقلاب مصيري لكليهما,لنكتشف أن الدور الوحيد للمظاهر الخادعة هو تكفين حقيقة الإنسان حتي مجئ المواقف المصيرية فتنبعث من بين الأكفان الجوهر الأصيل الكامن في نفس كل شخص,من الخير ينمو الشر ومن الشر يتلألأ الخير.

صفاء الهاربة من أهلها مع ابنها بعد زواج لم يقتنعوا به تسلم أسرارها إلي مسعود شبيه صادق إلا أنه لا يحمل بذرة الخير التي نمت من قلب صادق,يفضحها ويفسد علاقتها مع صادق وفي نفس الوقت يكتشف طه(إيهاب فهمي)خيانة زوجته القديمة من فيديو لها علي مسعود,فيهرع الاثنان في نفس الوقت لقتله لتلويث شرف صفاء بالقول وشرف طه بالفعل,وهو يزعق في الحارة بأن صفاءملكيته الخاصة!وفي خضم ذلك يعود عبد الله للانتقام مضرجاً في دمع بعد معركة علي مناطق النفوذ في القبور!!فيقتل صادق الذي يحتضنه ويموتان سوياً كما عاشا سوياً.

التأليف:

أول تجربة لسامح سر الختم في التراجيديا والموضوعات الجادة,بعد العديد من الأعمال الكوميدية محدودة المستوي المسايرة لطبيعة السوق المصري للأسفل,لكنه أجاد بصورة تجعلنا نعيد النظر في الموهبة الكامنة لدي مؤلفي السينما والندم علي إهدار موهبتهم في أعمال أقل من قدراتهم ولا تناسب حجم ما يكنونه من أفكار فلسفية ومشاعر إنسانية,لتضيع مع الضحكات الساذجة التي تعني للمنتجين أموال أكثر.

صياغة جيدة لمعاني كبري قدمها في أماكن محدودة للغاية ومحلية لأقصي درجة وشخصيات تعبر عن النموذج المصري العادي ليست تلك البلهاء المستجدية للضحك بحركات غريبة ولا تلك التي تحيا في شقق وقصور فخمة تتوه في حجم ثرائها الكاميراً,ولا المسحوقين وأصحاب الفاقة والعوز القاتل لكل إحساس جميل!البنت التي تسعي للزواج والاستقرار,الأرملة المتحملة لعبء الوحدة في مجتمع لا يتورع عن الإساءة للوحيدات وتحلم برجل يشاركها رحلة الحياة والأحلام,الشاب الطيب الذي يخطئ مضطراً ويندم صادقاً,والعديد من الشخصيات الزاخرة بالقضايا الاجتماعية.

الإخراج:

العمل الأول للمخرج الواعد أمير شوقي,ولأن هذا الرجل صاحب فكر ومؤمن بالسينما كفن وأداة,سيجد الكثير من المعوقات والمصاعب,أهيب به ألا يتراجع أبداً,لأن المعركة طويلة وقاسية في ظل الظروف الحالية,وعلي كل شخص جاد يحلم بتغيير حقيقي ومؤمن برسالته أن يحارب كل في مكانه وموقعه,فالعالم المنهار يحتاج إلي بنائين ومرممين,وليس كالسينما ومخرجيها من يقدر علي تعويض من نفقده كل يوم من نزيف في الروح والثقة في المستقبل,بإدارته لهذا العمل الفني وتشكيل صورته الفنية المتألقة وسط ركام فظيع وبائس من العك السينمائي,يثبت أمير شوقي جدارة فائقة,كصاحب عين سينمائية حقيقية تعرفنا علي أنفسنا وتكشف مساوئ الواقع مهما بلغت قسوته لأن مجتمعنا بالفعل في الحضيض علي كافة المستويات,لكننا استنمنا لأفلام لا تخرج عن الكباريهات وبضعة مشاهد ركيكة تضع علي مذبح الإفيهات تاريخ السينما المصرية بل وكرامة الإنسان نفسه,واقعنا الردئ يحتاج إلي مخرج مثقف يضعه في وجوهنا,يدمي أعيننا وقلوبنا لأن التغيير يحتاج أحياناً إلي قسوة شديدة خاصة من الأصوات المعدودة التي ظلت قابضة علي جمر الفن والأدب والثقافة.

التمثيل:

-روجينا:عندما ينضح الفنان بعد تجارب متنوعة,يفوح منه عطر الموهبة المصقولة بإزميل العمل والاجتهاد,روجينا في الآونة الأخيرة بدأت تنشر في أعمالها عطراً من ذلك النوع المميز في نظرة عين أو نبرة صوت أو تعبير وجه صامت ينم عن الألم أو الحيرة,في دور صفاء الأم الأرملة من أصول ريفية الهاربة من كهف قديم لكهف جديد بحثاً عن أمان مزيف وحلم بعيد,تحجز لنفسها مكانة في سلسلة الموهبات المحفورة في ذاكرة السينما المصرية.

-ماجد المصري:هناك أدوار تنادي علي أصحابها,وصادق كان ينادي علي ماجد المصري ليستعرض قدراته كممثل مخضرم,عندما خان صاحبه وندم كان صادقاً,ولما توجع وسلك الطريق الصوفي كان صادقاً,ولما مات بيد صديقه وهو يحتويه في حضنه كان صادقاً.

محمود عبد المغني:وجه مصري أصيل وصاحب مزاج في اختيار أدواره,يقرأ الملامح النفسية للشخصية كأي ممثل يحترم نفسه ويحترم جمهوره,ينفعل معها بصدق بينفعل معه المشاهد,وفي دور عبد الله الصديق المغدور به,يقدم نسختين من شخص واحد,القديمة الضعيفة المهزوزة المتكلة علي غيرها,والأخري المتفجرة بطاقات الغضب والعنف.

إبراهيم نصر:مشاهد معدودة وأثر يدوم,هكذا كان إبراهيم نصر في الفيلم,صباحاً المقرئ ومساء مستبيح القبور وساتر جرائم القتلة,فيلسوف الموت وصديقه,لكن عندما يفجعه في موت ابنه تسقط كافة الأفكار ويبقي الحزن والأسي.

مي سليم:لا ينتقص من الفنان ألا يكون فائق الموهبة مادام يطور نفسه باستمرار,ومي سليم تفوقت علي نفسها في دور نعمة وعبرت عن الأنثي المقهورة سواء بالخيانة أو بالضرب,ولم تسقط في فخ الفجاجة الذي يسقط فيه اللواتي حاولن تأدية دور الفتاة الشعبية في الآونةالأخيرة,وكأن الفتاة الشعبية هي عنوان الوقاحة.

إيهاب فهمي:تمكن من ملامسة نفسية الإنسان المقهور الذي يمارس القهر الواقع عليه علي الحلقة الأضعف منه,فشخصية طه تمثل شريحة عريضة لمجتمعنا مصابة بالهوس الديني,وتغطي عيوبها بقشور الدين,دون أن النفاد إلي اللب الحقيقي المتمثل في الرحمة والتسامح وتقبل الآخر,فهو يريد الحجاب والنقاب لزوجته كأداة للسيطرة عليها,لأنه عاجز جنسياً ولا يجد سوي الضرب والإهانة كي يستر عجزه الفاضح أمامها,ومع ذلك لا يخلو من مناطق إنسانية تجعله يعود إلي الروح الإنسانية المتحررة من الأدران,فيكتشف رجولته من جديد,لكنه في النهاية يسقط أيضاً ضحية الخيانة فيقرر قتل مسعود ويشتبك معه في بينما زوجته ترقبه من النافذة بعدما أشبعها ضرباً.

الإنتاج:تحية إلي شركة الريماس...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق