الخميس، 16 ديسمبر 2021

جدل التناقضات في قصيدة"كانت أمي أمية"

 

جدل التناقضات في قصيدة"كانت أمي أمية"

الشاعر السكندري أحمد مبارك,الذي رحل عن عالمنا في الثاني عشر من يونيو2019,أحد المبدعين الذين قبضوا علي جمر الشعر والإبداع في عقود انهارت فيها الروح الإبداعية,وغابت فيها الأفكار والمعاني الكبري في زمن طغت فيه المادة علي الروح,وتراجع تيار الأدب في خضم صخب الحياة المعاصرة وترنحت القصيدة بفعل تآكل الأساسات النفسية والاجتماعية,لكنه صمد من بين قلة قاومت وأبدعت,ورغم الغربة التي فرضت علي ذلك الجيل الذي اضطر للهجرة في السبعينيات وكان شاعرنا أحد المهاجرين سعياً وراء الأان المادي,تفجرت قلوبهم حنيناً لأصولهم وأوطانهم وأمهاتهم,وذلك المعني يبدو جلياً يتألق سردياً وشعرياً في إحدي أجمل قصائد شاعرنا بعنوان"كانت أمي أمية"فترجمت لأكثر من لغة أجنبية؛لقوة معانيها الموحية ودفقاتها العاطفية المؤثرة,كواحدة من عرائس الحداثة الشعرية العربية,منذ بدايتها مع نازك الملائكة والسياب,وهي تجمع بين الفنينن اللذين استهويا أحمد مبارك,وهما الشعر وفن القصة القصيرة,وإن كان وفاؤه للأول يفوق الثاني,لكنهما امتزجا بحساسية مرهفة في حكايته عن أمه الأمية والمشكلة التي خلقتها بصورة غير مقصودة مع صاحبته المثقفة,لنطلع علي القصيدة كاملة قبل التأمل في معانيها:

كانت أمي أمية

لا تقرأ غير عيوني

والمسطور علي صفحات جبيني

فتضم رأسي إليها حيناً

وتغطيني

بظلال الهدب,

وتسقيني

من نبع اللهفة والحب,

فأرجع غصاً,

فرحاً,

 فرحاً,

رغم سنيني

 وسفيني

ذاك المجهد من صد التيار,

وطول الإبحار,

وحيناً

ألمح في عينيها

نجمات السعد

تباشير ضياء

ترقيني

من شر الناس

وشر الوسواس الخناس

و...كانت أمي أمية

واليوم

صاحبتي جابت كل القارات

تزهو بثلاث لغات

تملك تحت الشعر المصبوغ بلهيب النار

العاشق دوماً للهيب"السيشوار"

-مكتبة تحوي كل فروع العلم

وكثيراً ما يجمعنا كرسي واحد

ودثار واحد

نجم

لا يسهر تحت ضياه سوانا

لكن صاحبتي لو ضمت كفي

لو جالت في صفحات جبيني

لو فحصت بالمنظار عيوني

لا تعرف ما يسعدني

لا تعرف ما يشقيني

أحياناً تسألني عما أخفي

فأقول

أتذكر أني ما كنت أبوح لأمي

فيرتج الشعر الناري,

وتتركني وتروح

لتبحث في أبواب معاجمها

ثم تعود تمط الشفة,

تهز الوجه,

تضيق في الأحداق,

تمور في عينيها أشباح الإخفاق

تشيح بعيداً عني,

تنعتني

بالرمز الغارق في أعماق اللامعقول

فأقول:

كانت أمي أمية[1]

الغنائية المسيطرة علي المقاطع الشعرية,والجرس الموسيقي المنساب بين السطور,دليل علي قوة العاطفة ودرجة الصدق الحار في نفس الشاعر,فالكذبة لا يغنون,والمدعون تخونهم النغمات أما الصادقون حقاً فينطلقون لإنشاد ما في أعماق ذواتهم,لذلك يسمعه الناس ويتعلقون به,والقصة القصيدة ضاربة في جذور الوعي الإنساني,فإذا ما أراد الشاعر أن يلهب خيال وروح سامعيه,انطلق يقص يحمي عما جري,لذلك نجد القصائد الشعرية في مصر القديمة تتخذ شكل الحوار,أو العتاب أو تصور موقفاً درامياً بصورة دقيقة ولماحة تتردد صداها حتي اليوم,وفي اليونان يقف الشاعر هوميروس ينشد"غني يا ربة الشعر لغضبة أخيلوس بن أبيلوس المدمرة التي ألحقت بالآخيين مآسي تفوق الحصر,ودفعت إلي العالم الآخر لهاديس بأرواح الكثيرين من المقاتلين البواس,بينما جعلت من أجسادهم لقمة سائغة للكلاب وكل أنواع الجوارح-وهكذا تحققت مشيئة زيوس"[2]

بتلك البداية الدرامية تُفتتح أشهر قصيدة عرفها العالم,لتضعنها منذ اللحظة الأولي في خضم حدث سردي يتمثل في غضب أخيلوس بطل اليونان الشهير,والشعر العرببي حافل بالقصص التي اتخذت من أبيات الشعر موضعاً لتنطلق علي الألسن,ولم تعرف الثقافة العربية الرسمية فن القصة حتي ظهرت المقامة,وأشرقت علي العالم قصص ألف ليلة وليلة,وظل ذلك الفن متنكراً في ثياب الشعر حتي أواخر القرن التاسع عشر,حيث بدأ فن القصة يتخذ مساره متأثراً بالمدارس الأوروبية,والعجب أن أوروبا بدأت حياتها القصصية الحديثة متأثرة بألف ليلة وليلة!!

إذا أردنا تتبع القصة في الشعر العربي فليكن امرؤ القيس هو البداية,وإن لم يخطر علي باله فن القصة,لكنها ظهرت في قصائده بصورة فطرية,تتوهج بالحياة والحرار في معلقته:

ألا رب يوم لك منهن صالح       ولا سيما يوم بدارة جلجل

ويوم عقرت للعذاري مطيتي       فيا عجباً من كورها المتحمل

فظل العذراي يرتميم بلحمها      وشحم كهداب الدمقس المفتل

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة    فقالت لك الويلات أنك مرجلي

تقول وقد مال الغبيط بنا معاً     عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

فقلت لها سيري وأرخي زمامه     ولا تبعديني من جناك المعلل

فمثلك حبلي قد طرقت ومرضع   فألهيتها عن ذي تمائم ومخول

إذا ما بكي من خلفنا انصرفت له  بشق وتحتي شقها لم يحول

امتلأت قصائد الشعراء العرب بالقصص من كل الألوان,فنجد المغامرات والرومانسية والاعتذار والعرض التاريخي للوقائع,اختزنها ذلك الشعر البديع,وفي الآداب الأجنبية تتجسد في قصيدة الغراب للأديب الأمريكي إدجار آلان بو,وملحمة الكوميديا الإلهية للشاعر الإيطالي دانتي علي سبيل المثال,وقصيدة"كانت أمي أمية تنتمي لذلك الفرع الأدبي الذي دمج بين الإبداعين فسمي"القصة القصيدة".

يسرد لنا مبارك في قصيدته تشظي الذات بين الأم الأمية,وصاحبته الثقفة,لكن كفة الإدراك النفسي والمعنوي تميل إلي صالح الأم,فهي القادرة علي قراءة لغة العيون-أصعب لغات الدنيا للعقل وأسهلها للقلب-ومعرفة السيماء العامة لابنها وحالته النفسية والجسدية"المسطور علي صفحات جبيني",القادرة بأمومتها علي احتواؤه,وعندئذ يتبدل حاله رغم هموم الزمن وعثرات الحياة:

فأرجع غصاً,

فرحاً,

 فرحاً,

رغم سنيني

 وسفيني

ذاك المجهد من صد التيار,

وطول الإبحار

دلالة علي معني الوطن,والوطن هو"السكن"تلك الكلمة الرائقة المُطمئنة,الذي يلجأ إليه الإنسان بعد عناء السعي ومجاهدة الظروف القاسية,وقيمة الوطن ليس في الغني ولا البهرجة,ولا في التقدم والمفاخرة,بل في عطائه الدافق بمعان بسيطة,يشعر بها الإنسان بأصوله وكينونته والعاطفة التي تحوطة بالأمان,فما تقوم به الأم من أمور بسيطة قد نعتبرها ساذجة,تفعلها بشغف وإيمان وحبة:

ألمح في عينيها

نجمات السعد

تباشير ضياء

ترقيني

من شر الناس

وشر الوسواس الخناس

و...كانت أمي أمية

يؤكد الشاعر علي أمية والدته مقابل الذكاء العاطفي الفذ الذي تتمتع به,بمواجهة صاحبته التي دارت العالم وعاشت تجاربه,وتتفاخر بامتلاكها ثلاثة لغات,واللغة هي أداة البشر للتواصل والفهم,لكنها تعجز عن التواصل معه أو حتي فهمه!وكلمة"السيشوار"في سياق القصيدة الدلالي رمز للعالم الاصطناعي المزيف الذي أصبح الشاعر يحيا فيه,لا تتمكن صاحبته بمكتبتها الضخمة من التواصل العاطفي معه كأمه الأمية,فتظل تبحث وتجهد نفسها وتبحر في علومها عن سر قلب الشاعر,وتعود له مخفقة واصفة إياه بصيغة فلسفية فخمة"بالرمز الغارق في أعماق اللامعقول"فتكون إجابته بسيطة لكنها كاسحة بل هي للصمت والتعمية أقرب للإعلان والإخبار"كانت أمي أمية".

تلك المعاني التلقائية ولدت لغتها الفنية الخاصة,وانبعث منها الشعور الحار الخالي من الافتعال,والافتعال هو الداء الوبيل في الكثير من الإنتاج الأدبي عوماً في حياتنا العقلية المعاصرة,كأن الحداثة هي نقيض العاطفة الخالصة والإحساس بالنبض الطبيعي للقلب البشري,وبتلك اللغة البسيطة تستعرض القصيدة حياتين في جسد واحد,حياة الشاعر مع أمه وحياته مع صاحبته,فنكتشف أن كلتيهما تعانينان من نوع من الأمية,الأم لا تستطيع قراءة الحروف والصديقة تعجز عن قراءة الروح مع سعة علمها وتجاربها الحياتية,المعني الذي تقوم عليه حياة القصيدة يمر عبر مراحل ثلاث هي أساس العمل الدرامي الكلاسيكي منذ فجر المسرح:البداية والوسط والنهاية,يتفاقم فيهم الصراع النفسي والتمزق الروحي بين امرأتين واحدة هي الغربة والأخري الوطن,واحدة من زمن مضي والأخري ابنة اليوم,وبين اليوم والأمس تغيرت المفاهيم,وتاهت الروح,والروح ملك لمن يستطيع فتح مغاليقها,وليس كالأم أحد يقدر علي التوغل واكتشاف المجاهل,بسر أمومتها أحد التجليات الإلهية في الطبيعة الكونية.

بتلك القصيدة يفض مبارك بعضاً من صناديق النفس البشرية في أزمتها الروحية,التي نبذت الفطرة والحس الصادق والفهم الصريح وانحازت إلي الصرامة العلمية الجافة,في تناولها لما يعتريها من مشكلات,وبناء عليه,يمكن تأويل الأم في أفقها المفتوح علي أنها الفطرة والخير, والعيش بالروح لا بالعقل فحسب,كالطاو الصيني الذي ينساب مع الماء دون تشنج ولا حسابات مقعدة,حر التفكير دون قيود منهجية:

الخير الأسمي يشبه الماء

الماء يسقي ألوف الحيوانات بلا جهد

يرافقها في أماكن لا يرغب أحد في ارتيادها

وهو في ذلك يشبه التاو

في السكن,ما يهم هو الحيز الذي يسد حاجتك

في صفات العقل,ما يهم هو العمق

في صلات الصداقة,ما يهم هو المودة

في الكلام.ما يهم هو الصدق[3]

صورة الأم تتماس مع المفهوم الطاوي للروح الكبري في الكون:

روح الوادي لا تحول

يدعونها بالأنثي الغامضة

البوابة إليها تدعي منشأ السماء والأرض

خفية وغامضة

والنضح لا ينضب معينها[4]

من القادر علي فهم لغة التواصل بين الأمومة العليا والابن في تلك القصيدة؟!لا أحد ولا حتي الشاعر نفسه,لأنه لم يقدم لصاحبته إجابة ملموسة,إنها حقاً"خفية وغامضة,والنضج لا ينضب معينها"وهكذا تغدو الصديقة هي العالم المادي,دنيا البورصة والحسابات وداراسات الجدوي,والاضطراب النفسي,فأي رأس تعشق لهيب السشوار؟!إلا رأس تسعي للتخلص من شئ ما ولديها ميول مازوخية.

بتلك القصة القصيدة يفتح أحمد مبارك عشرات التأويلات للازدواجية التي شقت روح الإنسان لنصفين,نصف ينظر للوراء محاولاً العودة ولا يستطيع ,والآخر يود لو تقدم للأمام لكنه لا يقدر علي شئ,حائر بيم الحضارة بكل سلوكياتها المعقدة وأدرانها,والفطرة التي بالرغم من سذاجتها مريحة للقلب,بين الماضي والمستقبل...بين مئات الثنائيات والأقطاب بين التي تتخطفه يومياً علي مدار عمره.


 

 



[1] مجلة إبداع,مايو,1988

[2] الإلياذة,هوميروس,ص119,المشروع القومي للترجمة,2008

[3] لاوتسو,كتاب التاو,ص42,دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة,1998

[4] لاوتسو,كتاب التاو,ص40,دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة,1998

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق