السبت، 2 مارس 2024

عودة الضوء

 

عودة الضوء

 

جلس علي المقعد الجليدي في زاوية من الطابق العلوي للكافيه، يرقب من خلف الواجهة الزجاجية الغيوم وهي تتشابك سوياً منذرة بعاصفة، وعندما شحب ضوء الشمس وتواري خلف الغيوم السوداء المعتمة، شعر بحاجة ماسة للضوء، بل إن الضوء أهم من الأكسجين،وصرخ في أعماقه"الضوء يا ناس":

-يا منال!

نادي النادلة الشابة، فهرعت منال علي السلم:

-نعم يا أستاذ ياسر.

-هل النور مايزال مقطوعاً؟

-أجل.

رجع برأسه إلي الخلف وأغمض عينيه لثوان، وحين فتحهما كانت منال اختفت، واحتل الطاولة التي أمامه رجل أصلع بدبن وامرأة في الثلاثينات قصت شعرها بطريقة غلامية، الرجل يضع علي رأسه سماعات هيدفون عملاقة ويفتح اللابتوب ثم يكلم شخصاً ما، أما المرأة فقد انشغلت بالموبايل وهي تضع ساقاً فوق الأخري وتدخن سيجارة، ملأت خيوط دخانها المكان، والسحب ماتزال أمامه حبلي بالمطر، والكافيه يزداد ظلاماً.

-يا منال!

لو سمع ماتهمس به منال لنفسها لحظتها، لذعر من كمية الشتائم والسباب التي تجري علي لسان فتاة صغيرة ورقيقة مثلها، وهي تلعن نفسها وتلعنه وتلعن كل مايمت لحياتها بصلة، ظهرت منال بابتسامة لطيفة تخفي تحتها فيضان الضجر، وسألها:

-هل عندكم بن محوج؟

ولأول مرة يلحظ أن النبتة الموضوعة في الأصيص مصنوعة من البلاستيك.

-لقد نفد للأسف.

-حسناً... هاتِ لي... نسكافيه...أجل النسكافيه سيكون جيد.

أومأت منال وكتبت طلبه في نوتة صغيرة، أخرجتها من حيب مريلتها السوداء، ثم استدارت ناحية الزبونين الآخرين، طلبت المرأة سحلباً، وعندها شعر ياسر إنه كان عليه أن يطلب سحلب هو الآخر في جو بارد كهذا الصباح، لكنه خجل أن يلغي طلبه، أما الرجل فأشار لها بيده بالانتظار.

بعد دقائق صعدت منال السلم تحمل الصينية ببطء، والظلام يتوحش ليبتلع كل الموجودات أمامه، تأملها ياسر في صمت، فتاة صغيرة تسهي علي أكل عيشها، كم تتعرض لمضايقات بصورة يومية، ومعاناة في عمل كهذا، كافيه مفتوح لكل من هب ودب مادام يملك ثمناً لما يشرب، وكل قول أو فعل عليها أن ترد عليه بابتسامة من باب المجاملة، وليس علي الإنسان أن يبتسم طوال الوقت، يجب أن يصرخ ويعقد حاجبيه ويعلن اشمئزازه" ربما أكون أنا أحد عوامل معاناتها في الحياة" اعترف ياسر لنفسه بأسي" ولكن هذه هي الدنيا، أليس كل إنسان يسبب الألم والعذاب لغيره بطريقة ما، ولو حتي عن غير قصد، أليس كل إنسان يحمل في لسانه وقلبه سماً كسم الحية يبخه علي صاحب النصيب... الأباثيا الرواقية هاه هاه، محض هراء، إن الألم بتلقيه والتسبب فيه هو مايجعلنا بشراً نحيا علي سطح الأرض، أما الحكماء الأصفياء فليصعدوا إلي قمم الجبال وليجلسوا عليها ناظرين نحو الأرض كعجزة لا يقدرون علي تغيير طبيعة ساكنيها".

فجأة صاح الرجل البدين بحماس:

-ودخلت إلي عيد ميلادي ومعها هدية ضخمة بهذا الحجم.

ومد ذراعيه علي اتساعها، فخبط الصينية، فسقطت من منال، وامتزج السحلب بالنسكافيه بشظايا الزجاج المكسور، وقام الرجل مرتبكاً متأسفاً، وقالت المرأة:

-حصل خير.

ركعت منال لتلملم أشلاء الصينية، علي ضوء كشاف موبايل المرأة، بينما انسل ياسر من خلفها وهبط علي السلم، فاستوقفته:

-سأحضر لك كوباً غيره.

-لا... لا يهم.

خرج إلي الشارع، متلقياً لطمات الرياح وهبات الصقيع، وحانت منه نظرة جانبية فسمع امرأة تعنف ابنتها الصغيرة، والبنت تبكي بحرقة، وتقدم صوب البحر فشاهد جولة من جولات الصراع السيزيفي الأبدي للموج مع الرمال والصخور، وفكر من جديد في منال"هل ستدفع هي ثمن الأكواب المنكسرة، هل سيعنفها صاحب المقهي كما عنفت المرأة ابنتها، وفجأة انسكب علي جسده المطر من أبواب السماء المفتوحة... وحينها أشرقت الشمس وغمر الضوء كل مكان.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق