الخميس، 6 يونيو 2024

الحزام والطريق... أحلام صينية بعيون مصرية

 

 

الحزام والطريق... أحلام صينية بعيون مصرية

 

بإعلان وثيقة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين مصر والصين في ٢٣ديسمبر ٢٠١٤، بقاعة الشعب الكبري ببكين،تتوج العلاقات المصرية-الصينية التي بدأت رسمياً ١٩٥٦بتعيين حسن رجب أول سفير مصري في بلاد الشمس المشرقة،المعروفة في العالم باسم الصين نسبة لمملكة تشين،التي قامت بتوحيد الأراضي الصينية وأنشأت فيها إمبراطورية كبري،ليصبح حسن رجب شاهداً علي المظاهرات العارمة في ميدان السلام السماوي"تيان آن من"المؤيدة لحق مصر في قناة السويس،فهتف أهل اليانجستي دعماً لسكان وادي النيل ضد القوي الاستعمارية الكبري وعدوانها الثلاثي،وعقب ذلك زار رئيس الوزراءالتاريخي للصين" شواين لاي"مصر عام ١٩٦٣والتقي بقوتها الناعمة متمثلة في أبطال فيلم الناصر صلاح الدين بعد مشاهدته،واحتفظت لنا عدسة الكاميرا بصورته وهو يضحك مع بطلي الفيلم صلاح ذو الفقار ونادية لطفي في سلام دافئ وودود،في لقطة ذابت فيها فروق اللغة والثقافة والعرق،كأن الفن حين يلامس القلوب الإنسانية يطهرها ويوحدها في بوتقة من السعادة والانسجام،واجتمع بعد ذلك بسنوات مع صحفي القرن محمد حسنين هيكل،في أحاديث مطولة بمكتبه ببكين،سأله هيكل خلالها"كيف تري المتغيرات الرئيسية في العالم اليوم؟"فيجيب بحكمة لخصا تاريخ الصراعات البشرية،منذ نشأة المجتمعات في الزمان الأول،حتي يومنا الحالي،وأظن أن ماقاله ينطبق علي الدوام في العصور المقبلة"انقسامات جديدة... تحالفات جديدة... ثم فوضي في كل مكان"ويعلق هيكل بخبرته الصحفية والسياسية الاستثنائية"وأعترف إنني لم أسمع وصفاً لحالة العالم المتغيرة الآن أدق من الوصف الذي سمعته من شواين لاي".

وقبل العلاقات الرسمية التي مر عليها ٦٨عاماً،وجدت علاقات ثقافية وإنسانية جمعت بين مصر والصين،وكيف لا وهما من أقدم الحضارات علي وجه الأرض،فالإسكندرية هي أول مدينة في القارة الإفريقية يرد ذكرها في السجلات التاريخية الصينية،كما ربط طريق الحرير البري القديم وطريق البخور البحري بينهما منذ القدم،وامتزجا روحاً وعقلاً وثقافة قبل الدخول في معاهدات تجارية وعمليات تبادلية،فكانت ملابس الملكة المصرية الشهيرة كليوباترا تصنع من حرير نسجته أنامل صينية،وفي الزمن الروماني استخدمت معامل النسيج في الإسكندرية الحرير الصيني،وثاني صادرات الصين لمصر الخزف الصيني،أحد علامات العبقرية الفنية الصينية وبلغ جودته وتأثيره أن أصبح مرادفاً لبلاد الصين في العقل الجمعي فسميت تلك المصنوعات الخزفية"الصيني".

وظلت علاقة الصين مع مصر في غاية المتانة والقوة،فحتي أثناء الثورة الثقافية في الصين١٩٦٦ وماتبعها من اضطرابات وتغييرات جذرية في الداخل الصيني،سحبت الصين سفرائخا في المنطقة كلها،عدا سفيرها في الأراضي المصرية،كدلالة واضحة علي المكانة التي تحتلها بلاد النيل في السياسة الخارجية للصين،وفي الهزيمة والنصر لم تتخل الصين عن مصر،ولم ترتخي أيدي الصداقة التي تشدهما لبعضهما في رباط صلب،فحين تعرض مصنع أبي زعبل للاعتداء ١٩٧٠أرسلت الصين برقية تعرب عن موقفها الثابت تجاه قضايا الأمة العربية،ومايزال كما هو لم يتغير"إن الشعب الصيني سيظل صديقاً مخلصاً لشعب الجمهورية العربية المتحدة،والشعب الفلسطيني والشعوب العربية في النضال المشترك ضد الإمبريالية"،وبعد 5أيام من حرب أكتوبر،والمعارك مشتعلة في سيناء لاسترداد الحق المصري،قرر" شواين لاي"،توفير مساعدات مالية وغذائية لمصر،ووسط رياح التغيير العاتية التي هبت من كل ناحية علي القطر المصري٢٠١١،ورغم عدم الاستقرار وقتها والمخاوف من انهيار اقتصادي،لم تقلص الصين استثماراتها في مصر،بل علي العكس زادت وتم افتتاح المشاريع الصينية في مواعيدها المتفق عليها،وفي ختام ذلك العام أصبح لمصر مكتبها الثقافي في الصين.

تلك اللمحات السابقة توضح عمق العلاقات بين مصر والصين منذ قرون طويلة مضت،وتبلورت بشكل قوي منذ الخمسينيات من القرن العشرين،ومع حلول القرن الواحد والعشرين،تنبأ علماء المستقبليات بأنه سيكون قرن التنين الصيني،طبقاً لمعدلات النمو والصعود الإعجازي لدولة الصين الشعبية تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني،وخططه الطموحة لرخاء الشعوب،ولن يكتمل ذلك الطموح بدون إمكانيات مصر ومركزية موقعها الجغرافي وثقلها التاريخي،ومكانتها المعترف من الجميع،واعتبارها بوابة لإفريقيا وأوروبا.

ظهرت مبادرة الحزام والطريق التي طرحتها القيادة الصينية٢٠١٣،بهدف التعددية القطبية والتنوع الثقافي والتكامل الدولي،كتطبيق للمرحلة النهائية للنظرية الدبلوماسية الصينية،المتدرجة من التعايش السلمي،للتكافل العلمي،حتي تحقيق التكافل المتناغم مع شعوب العالم،مستلهمة المفاهيم الأربعة للروح الآسيوية كما عرضها الرئيس الصيني السابق"هو جين تاو":روح النضال العنيد،وروح الابتكار الرائد،وروح التعلم المتفتح والمتسامح،وروح الوحدة والتضامن في مواجهة الأزمات،ومع تلك المبادرة تعمقت الصداقة المصرية الصينية أكثر من أي وقت مضي،وبدأ الجانبان يجنيان ثمار تعاونهما فازدهرت منطقة تيدا الصينية للتطوير الصناعي بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس،وهي أول منطقة صناعية صينية في إفريقيا،وفي عام ٢٠١٤بدأ التشغيل الكامل لخط إنتاج شركة"جوشي مصر"للفايبر جلاس وهي الآن أكبر خط إنتاج للفايبر جلاس خارج الصين،وبالنسبة لمجال الطاقة تستقبل المنطقة الصناعية بقناة السويس شركة تشاينا أنيرجي لإنتاج الوقود الأخضر،علي مساحة ٥٠٠ألف متر مربع وتهدف الشركة لإنتاج الأمونيا الخضراء،والهيدروجين الأخضر،وفي عالم الإنشاء والتعمير والنقل،تم تنفيذ مشروع منطقة الأعمال المركزية والبرج الأيقوني من خلال فرع الشركة الصينية العامة للهندسة المعمارية بالإضافة لمشروع القطار الخفيف، وفي الإجمالي تضم الأراضي المصرية أكثر من ٢٨٠٠شركة صينية،وشهد عام ٢٠٢٣توقيع مذكرة تفاهم أول برنامج من نوعه لمبادلة الديون مع الصين،والأولي من نوعها التي توقعها الصين مع الدول الأخري،واستطاعت مصر في نفس العام إصدار سندات دولية"باندا"مستدامة بسوق المال الصيني،ويعتبر ذلك الإصدار اتجاه نحو باب جديد من أبواب التعاون بين الشعبين.

الحزام والطريق مشروع فريد من نوعه من شأنه تغيير العالم، خطط له الرئيس الصيني"شي جين بينغ"علي نمط1+٢+٣،بمعني أن التعاون في مجال الطاقة قاعدة أساسية للانطلاق(١)والبنية التحتية وتسهيل التجارة كجناحين(٢)وتجسد الطاقة النووية والأقمار الصناعية والطاقة الجديدة(٣)نقاط اختراق(٣).

من الطبيعي إذن بعد كل ذلك أن تجذب الثقافة الصينية اهتمام الشعب المصري،فالمركز الثقافي الصيني عامر بالفعاليات واللقاءات علي مدار العام،ومشروع بيت الحكمة الذي يمثل جسراً بين العرب والصينين،يمتد تأثيره بمرور الوقت،ويخطو خطوات ثابتة لتقريب الصين من الدول العربية والعكس،وعدد الراغبين في دراسة الصينية باعتبارها لغة المستقبل يزداد كل عام أكثر من سابقه... وأحلم في العقود المقبلة بشراكة كاملة في المجالات العلمية والثقافية والفنية،فتستفيد مصر من تجربة الصين في الارتقاء بالمدارس والجامعات،بالاستعانة بخبرات وكوادر صينية لتأسيس نظام تعليمي حقيقي،وأن تتردد علي الألسنة العربية أسماء الفلاسفة الصينيين ككونفوشيوس ولاوتسي،وأدباء كمو يان،ويو هوا،ومخرجين للفن السابع كزانج ييمو وونوج كار واي،وأن تعرف العيون المصرية وجوه السينما الصينية كجونج لي وزانج زيي،وأن يكون الحزام والطريق رحلة متكاملة وصداقة أبدية تمتد بين مصر والصين وترثها الأجيال كراية للمحبة والسلام واحترام الآخر والانسجام معه دون محاولة للهيمنة أو وفرض الشخصية،وأن يستعيد الشرق دوره الريادي وتشرق شمسه التي أضاءت للعالم آلاف السنين ومزقت أستار الجهل والغفلة... إنها خطوة لطريق طويل يحتاج للعمل والصبر والتفاهم،وقد علمنا لاوتسي في فلسفة الطاو،التي أمدتني بعيون جديدة أتأمل من خلالها جريان تيار الحياة أن"طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة"...لتكن خطوة مباركة بين شعبين عريقين في سبيل التقدم والرخاء المشترك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق