الأحد، 27 أبريل 2025

رمضان بالصوت والصورة

 رمضان بالصوت والصورة


لهلال هذا الشهر هيئة مختلفة، إنه يبزغ في السماء كعلامة علي بداية أجواء جديدة، تقطع التسلسل العادي للحياة، وتدب في القري والمدن روح جديدة غير معهوده، إنه الزائر السنوي الذي يمد يده بالرحمة والبركات والبهجة، وسرعان ما يحمل عصاه ويرحل علي وعد بزيارة قادمة بعد ١٢ شهر بالتمام والكمال.

تتسامي الروح في ذلك الشهر الكريم ويبدو باب السماء قريباً للغاية من العالم الأرضي، ربما لأننا ننسي الدنيا إلي حد ما وننهمك في العبادات، فتمتلأ المساجد بالكبار والصغار، وتكثر الصدقات ويهنئ الكل بعضهم بحلول رمضان، وتبدأ تجربة بصرية-سمعية في غاية السرور والإمتاع، تشحن ساعات النهار أغنيات رمضان المعتقة بروح الماضي والفن الأصيل،وكلما بعد بها الزمن نكتشف كم هي رائعة، ومن المستحيل مجاراتها في إمكانياتها الإبداعية أو بما تثيره من شجون وذكريات، فأغنية"رمضان جانا" من ألحان محمود الشريف وكلمات الشاعر الغنائي حسين الطنطاوي وغناء محمد عبد المطلب المذاعة في عام ١٩٤٣،بمثابة البيان الشعبي لاستطلاع هلال رمضان وإشارة البدء بطقوس رمضان بمقدمتها الموسيقية العبقرية، والأداء الغنائي المتمكن، وكلماتها السهلة الممتنعة، فحين تسمع في البيوت والدروب، فالوقت قد حان لتعليق الزينة وشراء اللازم من خزين رمضان وحلوياته، وتستنير الشوارع بالأشرطة الملونة والأضواء، ويدعو الجو الكرنفالي الحميع للسعادة، وتكتمل المرحلة الغنائية بـ"وحوي يا وحوي" للمطرب أحمد عبد القادر، المقتبسة من التراث المصري القديم، وكما يتم استقبال رمضان بالغناء نودعه أيضاً بالغناء، عندما تعلن شريفة فاضل اقتراب عيد الفطر حين تشدو "تم البدر بدري والأيام بتجري" ثم تؤكد علي مفارقة يختص بها شهر رمضان ألا وهي كونه"هالل بفرحة ومفارق بفرحة" ولا أعرف شهر سواه يهب الفرحة في  عند قبوله وإدباره إلا رمضان.

ونفس الشوارع التي كان يعمها الضجيج وتمتلأ بالزحام في النهار، تكاد تخلو مع أذان المغرب من الحركة، فالناس في بيوتهم يتهيأون لصلاة المغرب وتناول إفطارهم الذي يكون عادة دسماً يحوي من نعم الله الكثير، ومن لا يتسني له الإفطار في منزله وسط أهله لظروف عمل أو سفر، يحاول المحيطون به مساعدته وإكرامه، وبعد وهلة يعود الزحام وربما أكثر، فتمتلئ المتاجر والمقاهي، ويمرح الأطفال خارج البيوت حتي وقت متأخر من الليل لاطمئنان الأهالي ببركة رمضان وونسه، ومع لحظات الفجر الندية يسعي المصلون للمساجد بين الصحو واليقظة، يرجون رحمة ربهم لاجئين لحماه، ويملأون بيوته التي تبقي رحبة رغم امتلاء الناس بها، تختلط الأنفاس بالدعوات بالهمهمات، بصوت قراء القرآن كلاً منهم علي نغمة وآية مختلفة، كأن الشهوات خمدت وصفت الصدور والقلوب.

ويمتاز رمضان بموسم فني زاخر وفاخر، وتظل الأعمال القديمة في الإذاعة والتلفزيون لها رونقها ومتعتها التي لا تضاهي، رغم التطور التكنولوجي الفائق في صناعة الصوت والصورة، مازالت الأذن والعين تحن للأصوات المعبرة و الوجوه الأليفة القريبة من القلب لفنانين مصر الحقيقيين، الأذن ترقص طرباً حين تسمع ملكة الميكروفون زوزو نبيل وهي تهمس" بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد...." هنا نعيش بالوجدان في عالم من الخيال الجميل المستوحي من قصص ألف ليلة وليلة، كتبه للإذاعة طاهر أبوفاشا وأخرجه محمد محمود شعبان عام ١٩٥٥،مع أن ألف ليلة وليلة قدمت للدراما التليفزيونية مراراً إلا أن الأصل الإذاعي يمتاز ببصمة سحرية علي الوجدان لا تمحي، ويحتل مكان الصداراة في الأعمال المقتبسة عن ألف ليلة وليلة، فنحن نركب علي بصوت فناني ذلك الزمن علي بساط علاء الدين، ونطير بين الممالك والقصور نشارك أبطال القصص مغامراتهم، ولما ينطلق سيد مكاوي في "المسحراتي" يلهج بكلمات فؤاد حداد المقطرة بحب مصر والإنسانية والحياة، فالسحور قد حان وضوء الفجر يبحث عن طريقه، ومع الإقبال علي طعام السحور تتشبع قلوبنا بالأشعار والغناء مع اثنين من أجمل أبناء مصر ارتبطا بالشهر الكريم، يدعوان كل ليلة ليقظة الضمير والهمة كما يدعو مسحراتي الشارع ليقظة العيون" وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال، حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال، وكل شبر حتة من بلدي حتة من كبدي حتة من موال"، وسيد آخر هو سيد الملاح مع المبدعة سهير البابلي  كونا ثنائياُ إذاعياً في منتصف السبعينيات ارتبط برمضان  عن طريق مسلسل"سيد مع حرمه في رمضان" يقدمانه بأسمائهما الحقيقية، ويغنيان في بدايته أغنية في منتهي الظرف، ومن مشكلات سيد وحرمه لمشكلات أخري يواجهها" موهوب وسلامة" كما قدمهما فؤاد المهندس وعبد المنعم إبراهيم، ومع كل أمسية نستمع لرجاء موهوب بمنحه فرصة أخري ليبين قدراته التي يؤمن بها وحده، وهو يردد" ده أنا موهوب والله العظيم موهوب" فننتظر للغد لسماع موقف مضحك جديد، ومع صوت قراء القرآن الكريم نحلق في سماوات الله العلي القدير ونسمع كلماته بحناجر ازدانت بآيات كتاب الله، ونسمع بخشوع وطرب عمالقة مدرسة التلاوة المصرية وبخاصة الحصري والمنشاوي وعبد الباسط عبد الصمد ومصطفي إسماعيل، وكيف ينقلون معاني الكلمات بأدائهم الصوتي وإحساسهم العميق بالقرآن الكريم، ومع الابتهالات نخشع وندعو الله بقلوب رقت من فرط حلاوة الأصوات وصدقها، مستقبلين أيام الرحمات بابتهال النقشبندي"رمضان أهلاً مرحباً رمضان، الذكر فيك يطيب والقرآن" .... إن أثير الإذاعة سري في أيام وليالي رمضان، لينشر فيها ذكريات عصية علي السقوط في بحر النسيان.

 ولم يختلف الأمر بالنسبة للتلفزيون بفوازير رمضان التي قدمها صلاح جاهين وفهمي عبد الحميد، فملآ الدنيا وشغلا الناس، وعلي الشاشة تألقت نيللي وشريهان بتلك النوعية من الأعمال، بينما اكتسح المواسم الرمضانية" ليالي الحلمية" بأجزائه الخمس  من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج إسماعيل عبد الحافظ ، فتابعهما الجمهور بشغف وتعلق وهما يرويان مع ما يقرب من ٣٠٠فنان حكاية مصر الحديثة، مجسدة في الصراع بين الباشا سليم البدري والعمدة سليمان غانم، علي مدار عشرات الحلقات دمجت المتعة بالتفكير، وبأسلوب طريف وراقي حاور فنان الكاريكاتير رمسيس زخاري نجوم مصر في الثمانينيات والتسعينيات خلال برنامج"يا تليفزيون يا" فاقتربنا من مبدعي مصر بشياكة وخفة علي القلب، وحين نتذكر هذا البرنامج وأمثاله نرثي لحالة الزعيق والكلام بـ"العين والحاجب" في البرامج الثرثارة المتسابقة نحو افتعال الجدال التافه، وحين يتربع الشعراوي علي كرسيه نجلس أمام لسان لبق يفسر الآيات القرآنية بأسلوب مبسط جعلته قريباً من رجل الشارع.

رمضان في مصر له خصوصية لا تجدها في أي مدينة في العالم، فذلك الشهر طوفان من المشاعر يتم التعبير عنها بطرق شتي، سواء في الروحانيات أو فرحة الاستقبال أو تزجية أوقات الصيام بمتابعة الأعمال الفنية، ولكل طريقة صوتها وصورتها، فيبدو رمضان كعالم خاص وجميل، ولكن ياللخسارة فهو كلل شئ بهيج يتلاشي سريعاً ويذوب في تتابع الليل والنهار، ولا يبقي منه سوي الذكري تؤنسنا حتي يعود من جديد.... وهكذا تمضي الأعوام.