السبت، 10 مايو 2025

أوبنهايمر... برومثيوس أم فرانكشتاين؟

 


أوبنهايمر... برومثيوس أم فرانكشتاين؟ 

كل فيلم لكريستوفر نولان بمثابة بئر عميق للأفكار الفلسفية المثيرة للنقاش، وتحفيز العقل علي التأمل، منذ انطلاقته الأولي بفيلم Follwing  ذو الميزانية المنخفضة للغاية(٦٠٠٠دولار)1998،، حتي فيلم أوبنهايمر ٢٠٢٣ الذي تكلفت صناعته ١٠٠مليون دولار ومثلهم للتسويق والدعاية، إن رحلته السينمائية عبارة عن اسكتشاف للحياة والنفس، البحث عن نغمة الزمن الغامضة، في سيمفونية الكون العظمي.

في عام ٢٠٢٤فاز نولان لأول مرة بجائزة أوسكار أفضل مخرج عن فيلم أوبنهايمر، الذي توج بست جوائز إضافية من إجمالي ١٣جائزة رشح لها، نال منها جائزة أفضل فيلم وأفضل ممثل دور رئيسي لكيليان مورفي، عن أدائه لشخصية أوبنهايمر ليصبح أول أيرلندي يفوز بتلك الجائزة، وأفضل ممثل مساعد لروبرت داوني جونيور عن دور لويس شتراوس رئيس لجنة الطاقة الذرية الأمريكية بين عامي ١٩٥٣و١٩٥٨، وأيضاً أفضل مونتاج، أفضل تصوير سينمائي وأفضل موسيقي تصويرية.

قبل ذلك بأربع سنوات وتحديداً في شهر ديسمبر من عام ٢٠٢٠أعلنت شركة وارنر برذرز للإنتاج السينمائي، عن خطة لإصدار أفلامها في دور السينما وعلي منصة HBO بشكل متزامن، وكان نولان يتعاون مع تلك الشركة العريقة منذ فيلمه Insomina ٢٠٠٢،فانزعج بشدة من هذا القرار، لأنه من أكبر المدافعين عن السينما بشكلها التقليدي التاريخي، حيث يجلس المشاهد في دور العرض يكتنفه الظلام، وأمامه الشاشة العملاقة ليبدأ سفره الروحي في عالم الفن والأحلام، وأدي ذلك القرار لهجرته لشركة يونيفرسال لإنتاج وتوزيع الفيلم، بشروط خاصة فرضها نولان، فبالإضافة لبند الميزانية الضخم طلب عدم عرض أي فيلم جديد للشركة المنتجة لمدة ثلاث أسابيع قبل وبعد صدور الفيلم،وتم الموافقة علي كافة طلباته مما يعكس مدي أهمية نولان في صناعة السينما الأمريكية، بل أن بعض الممثلين الذين ظهروا في الفيلم خفضوا من أجورهم للعمل في الفيلم كروبرت داوني جونيور ومات ديمون وإيملي بلانت، فحصل كل منهم علي٤ملايين دولار، مقابل أجورهم المعهودة التي تترواح بين ١٠ و٢٠مليون دولار، والأغرب إن عملية اختيارهم كانت سرية للغاية، لدرجة أن منهم من لم يعرف أي دور سيؤديه بعدما وافقوا علي عقد الفيلم، لثقتهم الكاملة بمهارات وكفاءة كريستوفر نولان، الفنان القادر علي الانتصار لماهية السينما الحقيقية، في ظل مخاطر تكنولوجية رهيبة تقدم الزيف بدلاً من الصدق الفني، وآمن بالجمهور العاشق لذلك الفن، فلم يخذله وتوافد من كل أنحاء العالم علي قاعات العرض السينمائي مخصصاً جزء من يومه وروحه ووجدانه ليهبه للشاشة الفضية، لأن السينما كما يفهمها نولان وهو محق مائة بالمائة، تجربة سمعية وبصرية يتشربها وعي المشاهد ولا مكان لهذه التجربة سوي دور العرض وإمكانياتها المجهزة لذلك، وبعد وقت قصير أصبح أوبنهايمر جزء من الثقافة الشعبية في العالم

بدأ نولان كتابة الفيلم في بضعة أشهر، عقب انتهائه من العمل علي فيلمTenet ولم يكن ذلك الوقت القياسي مفاجئاً، فنولان يفكر في عمل فيلم عن أوبنهايمر منذ سنوات طويلة، فعندما كان في الحادية عشرة اندلعت احتجاجات ضد الأسلحة النووية، فعرف منذ طفولته خطورة السلاح النووي، وامتلأ قلبه بالخوف من احتمال نشوب حرب نووية تفني الجميع، وفي شبابه أصدر المغني البريطاني ستينغ أغنية عام ١٩٨٥تنتقد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ظلت كلماتها عالقة في ذهنه خاصة عبارة"كيف أنقذ ابني الصغير من لعبة أوبنهايمر المميتة؟!" ظلت تلك الأفكار تموج في طيات وعيه وبين تلافيف دماغه لعهد طويل من الزمن حتي ربطها بفيلمه الأخير، ويري نولان أن طببعة تتصورنا للسلاح النووي تغيرت مع مرور الوقت، لكن من المستحيل ألا نتوقف عن الخوف منها، واعتبر أن الغزو الروسي لأوكرانيا عام ٢٠٢٢جرس إنذار مخيف أعاد للبشرية الرعب من التهديدات النووية.

منذ المشاهد الأولي يجد المشاهد نفسه في خضم فوران حياة أوبنهايمر العاصفة، إنه يحاكم بطريقة ما وإن بدا الأمر غير ذلك، هو نفسه يحاكم نفسه كما تعبر عينا مورفي بعمق، يحاكم ذاته، ماضيه، علاقاته، ذنوبه، أو علي الأقل يبرر حياته كلها علي حد قول شتراوس، غريمه الذي أوقع به كي يتم سحب تصريحه الأمني بسبب ميوله الشيوعية، يشرح مونتاج رشيق ومباغت يعتمد علي تركيز المشاهد حياة أوبنهايمر، وبطريقة نولان في السرد غير الخطي الذي تميز بها، يستعرض عبر ٣ساعات ظروف مشروع مانهاتن الحاضن للقنبلة الذرية، وما جري بعده، بين وجهتي نظر أوبنهايمر-شتراوس،، الأمر الذي سيجعلنا نطرح أسئلة عديدة طوال الفيلم، كما يبتغي نولان بالضبط من أعماله"أنا لا أصنع أفلاماً لأبدي وجهة نظر، أصنعها لأطرح الأسئلة المثيرة وأقدم تجربة مشوقة للجمهور أتمني أن تبقي في ذاكراتهم" من تلك الأسئلة المطروحة وتاهت في خضم جدل جناية أوبنهايمر علي البشرية أو إنقاذها من مجازر قاسية كانت ستحدث لولا سلاحه الرادع، سؤال ماهي الحقيقة؟ إن شتراوس أبغض أوبنهايمر وسعي في النكاية به، لأنه" ظن"قيام أوبنهايمر بتأليب العلماء عليه، بدليل تجاهل أينشتاين له بعد لقاؤه بخصمه، وهو ما أثر في نفسيته بعمق، فشتراوس في المقام الأول مجرد موظف بيروقراطي يحيا بين ألمع عقول علم الفيزياء، وزاد من حقده غرور أوبنهايمر في حديثه معه، وسيتجلي في الختام أي وهم بني عليه شتراوس موقفه-ثنائية الخيال والحقيقة أحد عناصر فن نولان خاصة في فيلم prestige – فأينشتاين وأوبنهايمر أثناء وقفتهما بجانب البحيرة، لم يذكرا شتراوس قط، بل كان حديثهما حول الدمار والخراب المهيمن علي العالم بفعل السلاح الذري، ما جعل أينشتاين يغوص في أفكاره الداخلية، دون إحساس بوجود شتراوس، وقد ترك أوبنهايمر وحيداً حيراناً لا يدرك هو الآخر ماهي الحقيقة، هل ساهم في إنقاذ ملايين الأرواح أم رسم لها طريق الهلاك؟!

العلاقة بين أوبنهايمر وشتراوس استلهمها نولان، من علاقة موتسارت وسالييري كما صورها فيلم أماديوس للمخرج ميلوش فورمان ١٩٨٤، وتبين حقد الرجل المديوكر علي عملاق منحه الله موهبة لا تجاري، فيجد نفسه ازدادت صغراً ووضاعة، وتولدت فيها جراثيم الحقد والبغضاء، فتنسج  السوداوية الحيل والمكائد للنيل من الرجل العظيم، الذي صفع كبرياؤه كاشفاً له عن حجمه الحقيقي، وهو يلقي بظله الممتد علي روحه فتتسسمم للأبد، ويسعي للانتقام المدمر كي يرضي روحه المنكسىة دون قصد علي الإطلاق، إلا مواجهتها بالحقيقة المريرة، وأي الرجال في عالمنا يحتمل لذعة مرارة الحقيقة؟!

يبدو أوبنهايمر في ذلك العمل شبيهاً بالطبيب فيكتور فرانكشتاين، خالق الوحش الذي يطارده طوال الرواية التي ألفتها ماري شيلي في القرن التاسع عشر، ويناديه"أبي" ويوصف أوبنهايمر أيضاً بأبو القنبلة الذرية، التي أصبحت هي الأخري وحشاً يطارده نفسياً، منذ بداية انطلاقها في رؤي من وحي خياله، من ضمنها المشهد المخيف لفتاة ينسلخ وجهها وهي تصفق له، هذه الفتاة هي فلورا ابنة كريستوفر نولان، في تلك اللقطة تداخلت الحياة الشخصية لنولان برؤيته الفنية، كأنه يريد القول أن خطر السلاح النووي يتهدد أبنائنا وكل ماهو عزيز علي قلوبنا.

لقد ارتبطت قوة أوبنهايمر في الفيلم بمنحني صناعة القنبلة، كي تصل أمريكا لصناعة القنبلة النووية قبل ألمانيا النازية بزعامة هتلر، وعند اكتمال جاهزيتها، تتلاشي قوته بالتدريج، بعد أن كان قائداً تكفي إشارة منه، الأكثر من ذلك أنه يصبح محل شك من قبل السلطات، وغير مرحب به علي الإطلاق في أروقتها، لدرجة أن الرئيس الأمريكي هاري ترومان كما جسده جاري أولدمان في مشهد واحد مؤثر وحقيقي لأبعد مدي، يمنع دخوله لمكتبه مرة أخري ويطلق عليه"البكّاء" بعدما تحكمت فيه عقدة الذنب ورأي الدماء تلطخ يده... الوحش يعذبه ويطارده، ويبلغ ذروة رعبه حين يري في المشهد الأخير كابوس تعرض الأرض لخراب نووي شامل، انفجارات في كل مكان ووهج القنابل يخفي تحته نهاية العالم.

الرغبة في تجربة القنبلة التي دافع عنها أوبنهايمر، إحدي مواقفه المتهورة كما أوضح الفيلم طبيعة سلوكه، عندما حاول تسميم أحد أساتذته، أم رغبة في إثبات الذات، أم فعلاً محاولة لدفع شر أكبر كان ليحدث لولاه؟... الأكيد أن في تلك اللحظة ساطعة البياض أثناء تجريب القنبلة في لوس ألاموس، أدرك أوبنهايمر أن سلاحه الجديد  سيغير من شكل العالم للأبد، فكان أول ما طفي علي وعيه عبارة من كتاب الباهاغافاد غيتا الهندوسي"الآن أصبحت أنا الموت مدمر العوالم. لم يعرض نولان شخصية بطله بعين أحادية إما أبيض أو أسود بل فتح جراحه ليري مدي تعقد صراعه الداخلي، محاصراً بخيارات صعبة، ويتردد من جديد تساؤل شتراوس عن طبيعة أوبنهايمر كرجل وكعالم" العبقرية ليست ضماناً للحكمة، كيف يمكن لرجل عرف الكثير أن يكون أعمي لهذا الحد؟"، يعترف نولان"إن فكرت في أكثر الشخصيات غموضاً التي قدمتها، فبالتأكيد أوبنهايمر هو الأكثر غموضاً وازدواجية، ومع الأخذ في الاعتبار إنني مخرج ثلاثية باتمان فهذا يعني الكثير".

الملمح البارز للفيلم تركيزه علي الوجه البشري، فنحن لا نري معظم الوقت سوي وجوه ترتسم عليها مشاعر، وشفاه يخرج منها حوارات تشكل الركيزة الأساسية للبناء الدرامي كله، مما يعيد للأذهان تحفة سينمائية أخري بنيت علي الحوار بعنوان  12 angry menيطالعنا دوماً الوجه للبشري في كل مشهد، علماء وعسكريون وسياسيون، يعلق علي ذلك مدير تصوير الفيلم هويت فان هويتما"منذ البداية أدركت أن ذلك الفيلم سيكون عبارة عن وجوه، وذلك تحد كبير بالنسبة لنا، في الأفلام الأخري كنا نعتمد علي اللقطات الكبيرة، أما هذا الفيلم فهو يغوص للداخل حول المشاعر والتعبيرات والوجوه والذاتية" من بين تلك الوجوه والتعبيرات تتشكل مرحلة مصيرية من تاريخ البشرية، استغلها نولان جاعلاً من كل مشهد ذروة في حد ذاته، عن صراعات نفسية وعلمية وسياسية وأخلاقية صهرت مواقف ومصير أوبنهايمر.

سواء كان سليل برومثيوس سارق النار من الآلهة ليهبها لبني البشر كي تقوم عليها حضارتهم الجديدة وعاني من انتقامهم حيث وكل به نسر يأكل كبده، ثم ينبت له كبد جديد وهكذا، كما في الأسطورة اليونانية، ومعني اسمه"الفكر المتقدم" كما أشار الفيلم لذلك، أو فيكتور فرانكشتاين الهارب من وحش صنعه، يظل فيلم نولان عملاً إبداعياً يستحق التتويج بالجوائز، وأغلب الظن إنه سيصبح عتبة لهوليوود كي تقدم سير العلماء وما في حياتهم من دراما بطريقة مبتكرة، بعدما رأينا في فيلم أوبنهايمر ساحق النجاح حشد ضخم من علماء الفيزياء جذبوا جمهور السينما يتصدرهم أوبنهايمر ولعبته المميتة. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق