الخميس، 25 يناير 2018

الخلاص من الوشم!


يُحيل عنوان رواية"الوشم"لرشا عدلي,لمدلول ظاهري واضح,يغدو علامة علي صاحبه,ومع غلاف الرواية الذي تتجاور فيه الأضداد(الصليب المعقوف ونجمة داوود)علي جسد فتاة يحيط بها هالة من دمار الحرب,يغدو المعني جلياً ويُعرف الكتاب من عنوانه,مع الصفحات نكتشف أن لا شئ في الدنيا يمكن تعريفه من وجهه الظاهري,فكل الشخصيات التي تظن البطلة اليهودية إيفا ضحية التعذيب النازي أنها تعرفها يتضح لها بمرور الزمن أنها لا تري إلا سطحها الظاهر الخادع.
يصعب تلخيص هذه الرواية لأحداث؛لأن مضمونها عاطفي خالص,فتاة مصرية تدين باليهودية ترحل مع أبيها الذي يداعبه أمل الثراء نحو فرنسا,بينما هي وأمها استوطنت فيهما مصر ويهجران منزل العائلة كأنهما تنتزعان جزءً من حياتهما وأحلامهما,بينما الأب والأخ لا يريان سوي وهم الثراء والغني,ثم يحدث في ألمانيا ما حدث ويسطع نجم هتلر وفلسفته النازية المقيتة الغاشمة,لتتحول حياة الأنثي الصغيرة إلي جحيم في بين رجاله ونساؤه المتوحشين الشاذين القساة,وتتحول لهيكل آدمي منزوع الحياة,يكتب لها النجاة وتعود لمصر لتجد لدي جارتهم القديمة ديدمونة-أو ديدو كما تحب منادتها- ملجأً وحناناً يحتويانها بروح صاحبتها الطيبة,علي عكس ما تبدو عليه من غلظة وجفاء,تنضم لمنظمة سرية تقاوم ضد الزحف النازي بقيادة روميل,وعن طريق علاقة عاطفية مع الضابط الألماني كلاوس فون ستافنبرج,الشخصية المحورية في عملية فالكيري التي هدفت لاغتيال هتلر المعروفة تاريخيا بـ"مؤامرة 20يوليو 1944",والذي جسد شخصيته سينمائياً توم كروز في فيلم"فالكيري"عام 2008.
هذا الضابط الألماني يبدو لإيفا في البداية أحد وحوش هتلر النازية التي ربيت لافتراس اللأبرياء وتسخر من وصفه بأنه"رجل أربعيني من عائلة ارستقراطية,درس الفلسفة والتاريخ واللغة اللاتينية كما أنه يعد كاثوليكياً متديناً,ولا يعتبره الكثيرون عسكرياً تقليدياً وذلك لاقتناعه بمبادئ الأديب الألماني جوته التي تدعو لدولة ألمانية قائمة علي المثل والقيلم الأخلاقية تقود العالم بمثل تلك القيم والأخلاقيات",تنجح إيفا في مهمتها لكنها تقع في عشق هذا الضابط الذي خالته عدوها,حيث أنه يعلن كراهيته لهتلر وسياسته وقام بتنفيذ محاولة الاغتيال الشهيرة,للإبقاء علي حياة من لا ذنب لهم إلا أن هتلر يكرههم,ولتخليص ألمانيا من هذا الطاغية القاسي...طوال الرواية تستند رشا عدلي لخلفية تاريخية بحثية,تنهض عليها شخصياتها الروائية,التي تصرخ ضد الحروب والقهر في كل أنحاء العالم.
تأخذ إيفا علي عاتقها الدفاع عن حقوق الإنسان وتطارد مجرمي الحرب بكل قواها النفسية التي صمدت أمام الأهوال,وبوجهها الجميل وجسدها الأنثوي ورأسها الصلعاء من أثر التعذيب!في لوحة تشكيلية تزيد إيماننا بالإنسان ولا تنسي إبراز ندوب الحرب.
في الرواية ملمح يشير إلي الحاضنة الرؤوم,أم الجميع,الحانية علي كل مواطنيها,مصر التي كان فيها الملاذ والحمي,مصر التي لملمت فيها آدميتها في بيت جارتها المصرية اليهودية ديدمونة التي نراها من داخلها حين تسرد قصتها المحزنة,في الوقت الذي كان فيه يهود العالم يئنون تحت وطأة التعذيب والقتل كان يهود مصر أصحاب ثروات ونجوم سينما,ومواطنين عاديين يروضون أيامهم في حارتهم,وتروضهم الأيام كما تروض جميع البشر!
في حمي سعيها لاسترداد حقها كيهودية عانت الويلات,تقام دولة إسرائيل,فتتحول إيفا اليهودية المتحمسة لعدوة لهذه الدولة التي فاقت بأفعالها الشريرة كل ما فعله هتلر ونيرون وستالين  وكاليجولا وكل الطغاة مجتمعين,حيث نصبت هولوكست أقبح وأبشع مما صدعت بها دماغ العالم لعقود وعقود استدراراً للعطف...والأهم للمال والتعويضات!إيفا هنا خرجت من دائرة التصنيف,فهي ليست امرأة وليست مصرية وليست يهودية وليست ضحية...هي إنسانة تري بقلبها وعقلها فتناصره وتشعر بالظلم غليظ الحذاء يدوسها فتصرخ لنفسها ولباقي البشر.
في حالات كثيرة أري مثل"فاقد الشئ لا يعطيه"مثلاً أحمق لا محل له من الحقيقة,كحالة إيفا,فالمطاردة المنبوذة المشردة,عادت من جديد لتمنح المأوي والاستقرار والتأهيل والأمان لكل ضحايا الحرب العالمية,بكل ما فعله قساة القلوب بأطفال بالكاد بدأو المشي وفتيات تحولت حياتهن من غنوة جميلة لكابوس فظيع,وأمهات انهدمت حياتهم وعانوا أبشع ميتة,ورجال وجدوا أنفسهم كالجرذان وسط مخالب لا تعرف الرأفة!
قدرة رشا عدلي علي نقل هذه الرسالة الإنسانية,نضجت إلي حد الإبداع فكانت رواية الوشم,إحدي الأعمال في حديقة الأدب المصري الذي يعاني من المتطفلين والتجار والأدعياء الذين يغطون ببريق الشهرة الكاذب علي أعمال حقيقية,تستحق اسم "رواية",رواية تثير الكثير من الشجن والتفكير وإعادة بناء مفاهيم,مع متعة سردية جذابة,لا تجعل من فعل القراءة عملاً مملاً ولا تجعل منه مجرد قتل للوقت...في الوقت الذي نحتاج فيه كل لحظة,لتأسيس جديد للثقافة المصرية,بعد أن تسلعت وتشيئت وتصدر واجهتها باعة الهراء,بطريقة إعلانية لامعة!
رواية الوشم فرصة للدعوة للخلاص من الوشوم,والنظر بتأن وبلا أحكام مسبقة عموماً,تحت الجلود فيتكشف العدو تحت قناعصديق ويتكشف الصديق تحت عباءة عدو!


هناك تعليق واحد: