الخميس، 9 أغسطس 2018

فيزياء الصوت بين البيروني وابن سينا


بنية السؤال في  حد ذاتها تتشعب في اتجاهات عدة يمكن حصرها في عدة نقاط:
1-الإجابة  علي سؤال يبدأ بهل لا تحتمل إلا نقيضين(نعم أو لا)أما في هذه الحالة فنعم أو لا تستدعي اسئلة أخري تبدأ بهل ولماذا وكيف.
2-الحكم علي نتيجة ما في تاريخ العلم لا يمكن بدون إثباتها عبر التجريب والملاحظة, وكثيراً ما سادت نظريات دنيا البشر ثم ظهر بطلانها, أو حوربت نظريات ثم أثبتت صحتها في تاريخ العالم.ما كان بالأمس حقيقة مطلقة لا تقبل الجدل يخضع اليوم-ككل ما تحت الشمس-لمبدأ عدم اليقين,فالعلم يتطور كل لحظة ويتغير بصورة لا يمكن اللحاق بها, ويظهر لكل زمن براديجم علمي ما يلبث أن يتغير  أو ينسف تماماً  ثم يحل محله براديجم جديد بقوانين ومعارف جديد, فرغم جهود البيروني وبحوثه الثرية في كتاب القانون السعودي أو كتاب الصيدنة ,إلا أن الزمن طواه ولم يعد له ذات القيمة العلمية التي كانت في عصره,والمثال الشهير علي ذلك فيزياء نيوتن وفيزياء أينشتاين,فالأولي  كانت هي القانون المريح الذي ظن الناس أنه خاتمة العلم ولا يمكن الأتيان بجديد و دوماً يظن الناس أن ليس في الإمكان أبدع مما كان,ثم جاء أينشتاين ليدوخ العقول في متاهاته العلمية المثيرة,وكذلك بطليموس وجاليليو,قصص الخلق المباشر البسيطة ,عبقرية داروين فاتحة الآفاق,هندسة إقليدس وريمان.....
3- أوافق. لكن هل هو حقاً  البيروني من قال هذه العبارة أم ابن سينا؟
"إن الجهد  المبذول لفهم الكون هو أحد الأشياء القليلة التي ترفع حياة الإنسان قليلاً فوق مستوي المهزلة,وتعطيها بعضاً من جمال التراجيديا"
والبيروني وابن سينا كلاهما ممن تنطبق عليهم بالضبط كلمات عالم الفيزياء ستيفن واينبرج,وإني كلما اقتربت من عبقرية العلماء العرب أحذر آثارها الجانبية  المتمثلة في التخدير,فنحن أشبه بشخص مترهل مستلق علي دكة,بجفون ثقيلة ونظرة ميتة,كلما  طرق سمعه اسم عالم ينتمي لجنس العرب,صاح بكل قوته"كنا وكنا وكنا,وعندنا وعندنا وعندنا"ولا تمضي لحظة عليه إلا وينام في رضا أحمق وطمأنينة مستفزة,في مشهد كاريكاتوري محزن,ورغم الإعجاب الجارف لكل صناع الحضارة العربية,لا يمكن السباق بهم في مضمار العلوم والمعارف في عصر إيلون ماسك ومارك روكزبرج,حيث أعلي درجة  لتوظيف  العلم والمعرفة,ولو عادوا من جديد لتاهوا وسط وادي السليكون ووكالة ناسا!! بينما نحن...علي مانري,ويا ليتنا كنا عمياناً حتي لا نري هول المصيبة!
في الأيام الأخيرة أعلنت شركة فيرجن جالاكتيك عن خطوة جديدة في السباق التكنولوجي العلمي,حول تسيير رحلات سياحية للفضاء,جربت طائرتها  الجديدة التي تطير بسرعة أكبر مرتين  ونصف من سرعة الصوت ووصلت لأول مرة إلي طبقة الميزوسفير,وشركة إسرائيلية طورت نظارة جوجل بحيث يمكنها تلقي أوامر صوتية دون الحاجة إلي استخدام اليدين(المشغولتين في العمل)
كان البيروني وابن سينا من درر علماء القرن الحادي عشر الميلادي,وثالثهم ابن الهيثم,وما بينهما من مراسلات تكشف العقلية المتفردة التي يتمتعان بها,وتلقي الضوء علي زمن وصل فيه المنهج العلمي لمحاولة معرفة دقائق الأمور بأبسط الأدوات,وعلي الجانب الآخر كانت أوروبا غارقة في  مجادلات حول  السحرة والشياطين وحرق المفكرين وطرد الأرواح وحماية الجنين من العفاريت التي يمكن أن تغير  نوعه  في رحم...الحال انقلبت بصورة درامية...دنيا عجيبة!
ألف البيروني في الفلك,الاصطرلاب,التنجيم,المواقيت,قياس الزمن,الجغرافيا,الجيوديسيا,الحساب,الهندسة,الميكانيكا,حساب المثلثات,الأرصاد,الصيدلة,التاريخ,النبات,المعادن,الدين,الفلسفة.
نستطيع تفهم تبحر البيروني في علوم ومعارف عصره,حتي كاد أن يُسمي زمنه بعصر البيروني,حين نسمع حكاية الولواجي:
"دخلت علي أبي الريحان,وهو يجود بنفسِه,وقد تحشرج نفسَه,وضاق به,فقال لي في تلك الحال:
كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدة(مسألة في علم المواريث),فقلت له إشفاقاً عليه:
أفي هذه الحالة,فقال لي:
يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة,ألا يكون خيراً من أن أخليها وأناجاهل بها
فأعدت عليه ذلك وحفظ,وعلمني ما وعد,وقد خرجت من عنده,وأنا في الطريق فسمعت الصراخ"
وقوف الموت علي بابه لم يشغله عن البحث والدراسة, وتلك هي نار الشغف العلمي المتوقدة في رأس  كل عالم,تنسيه نفسه,وتحلق به فوق عالم البشر,هوكينج  فوق كرسيه المتحرك يدور حول الثقوب السوداء,تسلا  تحت ضغط الفقر والنبذ يصنع القرن  العشرين,في كل عصر نجد أمثال هذه النماذج  الفذة في طلب العلم؛لذلك لا يملكك العجب حين يرفض هدية السلطان مسعود من بابه العالي ويصرح أنه  يطلب العلم للعلم.
بهذه الروح خاض البيروني في شتي علوم عصره...
الصبر والمداومة والإخلاص والدأب علي المعرفة لأجل المعرفة دون انتظار مقابل,بالإضافة إلي الموضوعية المنهجية وتقبل مختلف الثقافات  والاتجاهات من العناصر التي جعلت المستشرق الألماني"سخاو"يصفه بأنه أعظم عبقرية شهدها التاريخ.
من الطبيعي أن يساهم البيروني في علم الصوت مع:ابن جني,الجاحظ,سيبويه,إخوان الصفا,ابن رشد,الفارابي,ابن سينا,عبد اللطيف البغدادي.
توصل البيروني إلي أن سرعة الصوت أقل من سرعة الضوء ذاكراً في كتاب"الآثار الباقية عن القرون الخالية":"واختلف أيضاً في حركة الشعاع فبعض قال:إنها بزمان سريع لكنه ليس شئ أسرع منها فيحس السرعة به"ويواصل في عبارة لافتة لما نحن بصدده"كما أن حركة القرع الصوتي في الهواء كانت أثقل من حركة شعاع الشمس فقيس إليه وعرف به زمانه",وفي كتاب الجماهر في معرفة الجواهر يذكر "السمع  محسوسة الأصوات والهواء حاملها إليه"وفي نهاية عمره يشكو من هوان حواسه"الأذن لا تأذن لغير مقارع الأصوات  في تمييز اللغات"كما ورد في كتاب الصيدنة.
لكن...ولكن هذه تويست درامي مثير علي الدوام!
هذه العبارة تحديداً التي ذكرها البيروني"لايحدث صوت إلا عن قلع أو قرع"تقودنا إلي الشيخ الرئيس ابن سينا عبقري آخر,صاغ للدنيا مفاهيم جديدة وعاش حياة الاضطراب والقلق كقدرالمفكرين الأبدين لسان حالهم المتنبي:"علي قلق كأن الريح تحتي".
الضلع الثاني في مثلث القرن الثاني عشر,امتاز بالموسوعية والإحاطة بالعلوم,يملك ذات شغف البيروني-وشغف موازي باللذة والحياة-له مؤلفات في:الطب,الفلسفة,الدين,الزهد,التصوف,الكيمياء,العشق,الفلك,تدبير الجند,خراج الممالك,الموسيقي,اللغة والنحو ,القصص,الشعر.
ذكر ابن سينا أن الصوت  لا يحدث إلا عن  قلع أو قرع في كتاب"أسباب حدوث الحروف"جمع فيه بين علوم اللغة والفيزياء الصوتية والتشريح,ومن غير سجين  فردقان يركز هذه المشاعل الثلاثة لفحص موضوع واحد لامس فيه الحقائق الفيزيائية التي أثبتتها الدراسات الحديثة.
الفرد العادي منا يؤمن إلي أبعد حد ببيت عمرو بن يعد يكرب:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه       وجاوزه إلي ما تستطيع
ومن قال أن ابن سينا فرد عادي؟!
جاء هذا العمل بعد أن تفرغ لدراسة اللغة ثلاث  سنوات,حين لمزه أبي منصور بن الجبان بين يدي الأمير علاء الدولة وسط نقاش لغوي"إنك فيلسوف وحكيم,ولكن لم تقرأ من اللغة ما يرضي كلامك فيها",فيؤلف كتباً ورسائل في اللغة تشكل علي  ابن الجبان نفسه!
يقول الشيخ الرئيس"أظن أن الصوت سببه القريب تموج الهواء دفعة بسرعة وقوة من أي سبب كان.والذي يشترط فيه من أمر القرع عساه ألا يكون سبباً كلياً للصوت,بل كأنه سبب أكثري,ثم إن كان  سبباً كلياً فهو سبب بعيد,ليس السبب الملاصق لوجود الصوت.
والدليل  علي أن القرع ليس سبباً كلياً للصوت أن الصوت  قد يحدث أيضاً عن مقابل القرع وهو القلع.وذلك أن القرع  هو تقريب جرم ما إلي جرم مقاوم له لمزاحمته  تقريباً تتبعه مماسة عنيفة لسرعة حركة التقريب وقوتها.ومقابل هذا تبعيد جرم ما عن جرم آخر مماس له منطبق أحدهما علي الآخر.ومقابل هذا  تبعيد  جرم ما عن جرم آخر مماس له,منطبق أحدهما علي الآخر,تبعيداً ينقلع عن مماسته انقلاعاً عنيفاً لسرعة حركة التبعيد,وهذا يتبعه صوت من غير أن يكون هناك قرع.
ولكن يلزم في كلا الأمرين  شئ واحد  هو تموج سريع عنيف في الهواء.أما في القرع فلاضطرار القارع الهواء إلي أن ينضغط  وينفلت من  المسافة التي يملكها القارع إلي جنبتيها بعنف وقوة وشدة وسرعة,وأما في القلع  فلاضطرار القالع الهواء  إلي أن يندفع إلي المكان الذي أخلاه المقلوع منهما دفعة بعنف وشدة.
وفي الأمرين جميعاً يلزم المتباعد من الهواء أن ينقاد للشكل والموج الواقع هناك,وإن كان القرعي أشد انبساطاً من القلعي.ثم  ذلك الموج يتأدي إلي الهواء الراكض في الصماخ,فيموجه فتحس به العصبة المفروشة في سطحه.
إذن فالعلة القريبة-كما أظن-هي التموج؛وللتموج علتان:قرع وقلع."
يبين ابن سينا الخصائص الفيزيائية والسمعية اللأصوات:
1-التردد الفيزيائي
2-الشدة الفيزيائية
3-الشكل الموجي الفيزيائي
و في الصوت الموسيقي بعد أن عرف الصوت المنسجم المتفق بأنه ما ترتاح النفس لسماعه,والمتنافر بأنه ما لاترتاح له النفس,وصف "الهارموني"في الموسيقي الحديث بأن توافق الأصوات وتنافرها ترجع إلي درجة تفاوتها في قدرة امتزاج بعضهها ببعض,فكلما كان الامتزاج أقوي كان الاتفاق أعظم.
قبل أن نورد تعريف للصوت يترجم فيزيائياً بحث ابن سينا,أبدي إعجابي بافتتاحه النص بكلمة"أظن"وستتغير عقولاً كثيراً لو استخدمتها بدلاً من(قطعاً وبالتأكيد ولابد ولازم ولا مفر.....,......)وكل هذه الدوجماطيقية التي لا تري إلا وجه وحيد ,بينما من تغزوه الشكوك والظنون قابل للرؤية الحقة الصافية المنزه عن أي غرض.
الصوت حالة من الطاقة تنتج عندما يتذبذب للأمام والخلف بسرعة,إذا ضُربت طبلة سيهنز جلدها المشدود بسرعة شديدة إلي درجة إنه لا يمكن رؤيتها,مجبرة الهواء من حولها علي الاهتزاز بالمثل,وبما أن الهواء يتحرك فهو يمل الطاقة الخارجة من الطبلة في  كل الاتجاهات,في نهاية المطاف حتي الهواء في داخل الأذن سيبدأ في الاهنزاز؛وذلك حين تبدأ في ترجمة الاهتزازت لصوت,باختصار هناك وجهين للصوت:عملية فيزيائية تنتج طاقة الصوت تبدأ مع إرسالها في الهواء,وهناك عملية تحدث داخل الأذن والدماغ تحول طاقة الصوت المدخلة إلي رموز مفهومة.
يوتر الصوت الهواء المحيط وذلك بهزه إلي الأمام والخلف بسرعة في موجات تضاغطية ذات تأثير ميكانيكي,نتيجة لذلك الجزيئات في الهواء تصطدم كل واحدة بالأخري,جزئ يصطدم بالآخر...وهكذا.
أوافق علي هذا القول للبيروني وليس ابن سينا منه ببعيد!وعموماً "الحق حق في نفسه لا لقول الناس له"كقول ابن النفيس,مع التأكيد بانتفاء وجود أي  كلمة  نهائية في صاروخ العلوم المنطلق نحو المريخ في وقت قريب...
هذا عن الشق الفيزيائي المادي للصوت...
يمكنني الحديث عن أصوات تصدر من القلب ولا تعرف قلع أواقرع ولا تعرف المرور في الهواء ولها فلاسفة وعلماء متخصصين...
صوت مصر الصادح في جنبات المعابد والمجلدات وأعمال مفكريها وفنانينها ومثقفيها, سبب  حدوثه حضارة...حضارة...حضارة لا تعبرها بسرعة تأمل فيها حتي الممات!حضارة ...حضارة ...حضارة ووصفه"صوت بلادي بيدوي عبر الأجيال صوت حضارة من يومها جبارة ياما صنعت أبطال ورجال"هذه هي قناة مرورها بحسب الشاعر الغنائي حسين السيد, صوت الضمير والحقيقة  سبب حدوثه اليقظة والوعي وتمر عبر الصدق,صوت الحبيبة حين تتكلم  يشرحه صلاح جاهين:
"صوتك يابنت الإيه كأنه بدن
يرقص يزيح الهم يمحي الشجن
يا حلوتي وبدنك كأنه كلام
كلام فلاسفة سكروا نسيوا الزمن"
 صوت أم كلثوم وأديث بياف,ماجدة الرومي ولارا فابيان,موسيقي موتسارت وبيتهوفن,صوت نجوم السينما والإذاعة قوتنا الناعمة-المنهارة الآن- الصادرة من دنيا الخيال ,وسبب حدوثها الحب والفن ,وتمر عبر القلب والأعصاب والحاجة للسمو الإنساني,ويصعب التعبير عنه ووصفه.
صوت الشعب حين يهتف باسم مصر ويذكر كامل الشناوي وأم كلثوم وعبد الوهاب أن ما حدث:
"وصاح من الشعب صوت طليق
قوي,أبي,عريق عميق
يقول:أنا الشعب والمعجزة
أنا الشعب لاشئ  قد أعجزه
وكل الذي قاله أنجزه
وأصوات مصدرها الجحيم كصوت الحروب والإرهاب والصراخ والرعب,سبب حدوثها الاستعلاء والعنصرية وشهوة الإنسان الحيوانية للقتل والتخريب,وتعبر عبر أيادي ولحي ونصوص ومقولات مقززة تثير الغثيان.
صوت الضوضاء وقد ثار شوبنهور علي صوت فرقعة الكرباج في الشوارع وطالب بعقاب لمن يفعلها,فهو مجرم يقتل الأفكار في مهدها,فماذا يطالب من يحيا وسط الصخب والإزعاج وأغاني المهرجانات وكل الضجيج الذي يقتل القلوب والعقول وليس فقط الأفكار؟!
فالصوت يحدث في مواقف معينة عن طريق الحياة الداخلية,يحل فيها القلب محل  الأذن,ويستقبل موجات لا يستقبلها سواه,يذكرنا هذا بالأحجية الشهيرة عن شجرة وقعت في غابة نائية,ولم يكن هناك أي أذن لسمعها فهل تحدث صوتاً؟أعتقد أنها لا تحدث أي صوت مادام انعدم مستقبل لضربة وقوعها,أو الأصح إنها في حالة اللا صوت واللا صمت.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق