الاثنين، 21 أكتوبر 2019

جراح المرآة


جراح المرآة
مازالت الدماء الساخنة تسيل من جسد الكاهن حور وسط صحراء سيناء الملتهبة,توقف للحظة متكئاً علي عصاه الأبنوسية ذات المقبض الذهبي المصاغ علي شكل تحوت,استجمع فيها روحه المبعثرة,ومضي في طريقه وسط بحر الرمال الممتد أمامه,لم ينته صراعه مع الثعبان ذو الرأس الحجرية إلا بعد استنفاد قواه,وسقطته القوية علي أعشاب شعر سخمت الحادة كشفرات موسي.
مع ظهور البدر مضيئاً كحلقة من لجين فضي تسبح في السماء المظلمة,استلقي يرمق الفضاء حوله بعيون سوداء تدور في محجرين متورمين من السهد والعذاب,رآها منعكسة علي البدر تنظر له في رجاء عنيف,أغمض عينيه مسترجعاً,وقفته بجوار الملك أحمس في طيبة منتصراً حولهم الشعب يهتف بحياة مصر وباسم ملكها الظافر,عودته للمنزل مشتاقاً لزوجته ميريت بعد نضال طويل وجهود خارقة,كرسها في سبيل استرداد بلاد النيل من الهكسوس المحتلين,دفع الباب ونادي ببهجة لا حد لها:
-ميريت أين أنتِ,عدت و معي النصر...مهرك الجديد!
طالعه قط أسود مخيف,له طابع قاسي,وتحدث بصوت يعرفه جيداً:
-إذن يكفيك النصر أيها الكاهن حور.
جفل حور واتسعت حدقتاه من المفاجأة:
-أين زوجتي أيها الملعون خيان؟ألم أقتلك في الميدان؟أي خدعة هذه؟
قفز القط علي الطاولة:
-كنت أظنك أذكي من ذلك يا كاهن آمون وحبيب أوزوريس,المطعون بسيفك رجل من أتباعي صورته علي شاكلتي...يبدو أن مشقة القتال أنستك حدسك السحري.
صاح حور أحمر الوجه من الغضب:
-اللعنة عليك وعلي قومك أجمعين!أين ميريت أيها الهكسوسي الحقير.
-أنت تعرف أين تجدها,تعال وخذها...بالمناسبة لديها ثديان رائعان حقاً.
قهقه الصوت وقفز القط من النافذة,هب حور مسرعاً,وفي كل طريق يلاقي أفخاخ خيان, آخرها الثعبان,قبل أن يصل سيناء بالقرب من معبد ست المهجور,حيث يقبع خيان ككاهن أكبر لست المهيمن علي الصحراء,وفي سيناء سيجد قلبه ومستقبله.
فتح حور عينه ودمعة تنساب علي خديه شاعراً بملوحتها علي شفتيه,مسح شفتيه وقد أدرك أن راحته في اللقاء لا في المكوث والنوم,قاوم شلل الإرهاق وسار يحدوه صوتها الرقيق تغني غنائها الجميل"هناك في الأعالي عند أقدام حابي يتوجه حبيبي يقطف من المنابع,برغم كل حاسد زهوراً جميلة,سيأتيني في المساء يحمل خبزاً وماء أنا في انتظارك حبيبي"طالما سمعها منها قبل الحرب الكبري لتحرير البلاد,بعدها تقبل عليه بوجهها البرئ مداعبة:
-سأرد لك مهرك,كنت حمقاء وصغيرة.لن أقبل الآن بأقل من طيبة حرة ومطهرة من الهكسوس.
قدماه تؤلمانه حقاً...لكنها في انتظاره.
دارت به عتبات معبد ست وخيل له رؤية ثلاثة أبواب بدلاً من واحد,ركز حواسه كله واستطاع رؤية ما خلف الأبواب,كلها مسدودة ولا واحد منها,مد يده نحو الجدار ,اخترقته كهلام لزج,عالج من الداخل المفتاح داعياً باسم الإله الواحد الموجد نفسه بنفسه صاحب النور والحكمة,فظهر الباب الحقيقي واختفي الزيف كله عرف مساره فتقدم,يعرف جيداً قوة خيان ومهارته,جمعتهما معارك عديدة أثناء الحرب,استعرضا فيها قواهما في المعرفة وقوة الإدراك ومهارة الحركة والنفاذ لأسرار الكون المقدسة أو ما يسميه الناس بالسحر,أقواها محاولة ملكه أبوفيس خطف الملك أحمس مستعيناً بقواه في الجذب,وتحويل عربته خارج سرب الجيش,وقف الجنود عاجزين بمواجهة هذه القوة العجيبة,وهم يرون العربة تجري بلا جواد,لولا صلابة أعصاب أحمس وظهور أفراد لهم قوي سحرية عاونوه في قطع حبال الجذب الموصولة بخيان,لأصيب مصر بنكبة قاصمة,وهي في ذروة انتصارتها,بوثبة هائلة طار في السماء وحل في العربة الملكية,قابضاً علي عصاه يحركها بذراع قوية وقد تدلي جسده علي جانب العربة,ثبتها في الأرض,فهدأت العربة حتي وقفت,قال أحمس لاهثاً:
-يبدو أنهم لا يقنعون بالسيوف والعجلات الحربية...حروب جديدة! باركك الرب أيها الجندي...
انحني حور بين يدي الملك:
-اسمي حور يا مولاي وأنا كاهن.
شد أحمس علي يديه مبتسماً:
-هذه الأيام كلنا جنود,أيها الجندي حور!
سيكون الباب الفاتحة لألغاز لا تنتهي,في الداخل اكتست الجدران والممرات بالمرايا,صانعة متاهات,أكثر من مرة يرتطم بواحدة منها,وعندما يصطدم بصورته يشعر بالسخرية من الإنسان الذي دوماً تضيعه نفسه وتلهيه عن الحقيقة,ترك لحواسه الخمس الطبيعية وقلبه مهمة هدايته,لن يستخدم السحر,لو ضيعته نفسه فلن يقدر علي إيجاد أي شئ,واجهها مراراً,أصابه الغثيان والدوار, تحسس نفسه ليعرف من هو بين هؤلاء.سمع بكائها الحزين,صرخ باسمها يجاوبه صداه.
 بقي ممر واحد,آخر مرآة,رأي نفسه فيها تذوب وتظهر ميريت محبوسة فيها,تبكي وتنادي,لا تسمعه ولا تراه,غلظت عروقه من الغضب,نزع عباءته الممزقة وتوجه نحو باب الحجرة المقدسة وجد خيان متربعاً في يده حبل يلعب به ببرود مستفز,اصطنع المفاجئة من رؤيته:
-من صديقي حور هنا؟...قاتل أخي سيان ومفتت كبدي عليه؟
عند أسوار طيبة برز سيان دون علم أخيه,تياهاً بغرور الشباب يود إيقاف الزحف المصري,جاهل باستحالة اصطياد النسور المنقضة علي فرائسها المتوحشة,أطلق عليهم طوفان من ماء,فحول حور نفسه لسد عالِ حجب عن الجيش الغرق,أطلق سهام من حمم الشمس,فجعل نفسه جبل من جليد,حلق سيان بصورة وطواط عظيم فأصبح حور زهرة لوتس عملاقة واعتصره بين أوراقه,سقط سيان مقتولاً,واستعر الجنون في قلب أخيه وصمم علي إحراق قلبه,خرج من قصر أبوفيس غير عابئ بنداءاته,الحقد في عينيه يستعلن والرغبة في الانتقام تسيطر عليه,لم يحب في الدنيا أحد كأخيه,يعتبره ولده وصديقه,فقدانه ضربة سببت له اضطراب عصبي اتضح لحور وهو ينزل فوق كرسيه علي وجهه ابتسامة مريضة,يجر خلفه الحبل علي الأرض,تراجع حور خطوة:
-أخيك حكم عليه القدر.
هوي خيان بالحبل الذي أصبح حيات تصرخ في حنق علي وجه حور:
-بل حكمك.
تلاشي حور وبدا خلف خيان:
-للحرب ضحايا كثر,من يشارك عليه توقع الموت,أنت قضيت علي المئات.
استدار خيان وهوي من جديد:
-وستكون أنت وزوجتك بينهم.
اختفي من جديد,هذه المرة خرج من العدم علي صدر خيان وتدحرج فوقه,خرج من فمه شعاع نقر رأسه فانفجر,قام فعاجلته ضربه أوقعته أرضاً.
-صورة جديدة أيها المصري.
التفت حور فوجد عشرات كلهم خيان,احتار مقلباً النظر فيهم,أغمض عينيه وترك حدسه يدله"البصر فخ فاحذره,واستسلم لبصيرة القلب الصادق,الساعي للحق والعدالة"تذكر كلمات أبيه هابو التي تلقاها منه صبياً.
ابتسم للذكري ودون أن ينظر,فتح فمه من جديد وسدد...
لم يبق في الحجرة غير واحد منطرح علي ظهره ينزف الدم من أحشاؤه,انتصب حور فوقه وقال بنبرة هادئة:
-لم يكن لي رغبة غير العلم والسلام...لكنكم بدأتم كل ذلك.
-وأنتم أنهيتموه.
وخرجت روحه مع كلماته.
رجع لميريت,دار حولها مرات عدة,غرز في المرآة عصا تحوت,في الداخل عرفتها ميريت,تشبثت بيها,وانتزعت نفسها من سجن المرآة وهي تبكي من الألم,انفطر قلب حور,وهو يري جسدها يدمي كأنها تنزع عن نفسها جلدها,خرجت مجروحة فداوها أحضانه,حملها ومضي نحو الباب.
أمام المعبد رأي أسرة مصرية تمر بالجمال,هرعوا لهما وقادوهما نحو الخيام,غاب حور عن الوعي مستسلما للرقاد,أفاق بعد أيام فطالعه وجهها,لف ذراعه حول خصرها,فكتمت صرخة ألم من جراح المرآة,جذب يده بعيدا:
-عدت ومعي النصر.
ردت بصوت مفعم بالأمل:
-والجراج ستشفي.
وطرق سمعهما صوت الأطفال يلعبون في مرح,تحت أشعة الشمس الذهبية.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق