السبت، 9 نوفمبر 2019

عشر دقائق أخري


عشر دقائق أخري
ألقت ظهرها علي الكرسي في إعياء,وهي تهز رأسها في يأس.
ظلت تحدق في اللوحة علي الجدار فترة طويلة,امتزجت الألوان في رأسها إلا أنها استطاعت تمييز امرأة تحتضن ذراع رجل وتريح رأسها علي كتفه في طمأنينة كاملة,هذه اللوحة تفتح في متاهة ذاكرتها المظلمة سرداب مجهول لا تكتشفه الحواس,ناضلت مع عقلها لتجد ما يجتذبها لتلك اللوحة برباط قوي لكنها لم تفلح.
انفتح الباب وأطل تجاوز الخمسين برأسه يرمقها بأسي,ثم داخل راسماً علي وجهه ابتسامة مرغمة,حاول أن تكون طبيعية لكن أدي ذلك لزيادة اضطرابه,التفتت ناحيته ووجهها خال من التعبير,بينما باطن الرجل يلهج"ياربي...لتتذكرني هذه المرة,بدونها أنا وحيد وضائع",أغمضت عينيها لثانيتين وفتحتهما وقد تجلت فيهما لمعة خاطفة,مدت يدها ناحيته تجاهد مع النطق,تهلل وجهه,علي الأقل لم تفزع,قفز وقبض علي يدها متمتماً:
-م...م..د..
صرخت في فرح:
-ممدوح!
-نسرين...زوجتي...حياتي!
قامت تحتضنه في شوق:
-ماذا يحدث لي؟!
كلما تعود ذاكرتها من زنزانة الألزهايمر,تسأله ذات السؤال,تكون إجابته الوحيد ضمها بقوة,فتفهم كل شئ.
تعرف الآن,هذه حجرتهما,وهذا زوجها,تسأل علي حال الأبناء فيخبرها"أمجد سيرزق بولد... ستصبحين جدة,وسلوي في طريقها للسفر كي تدرس بالخارج تعليماً حقيقياً يشبع ذكائها مما حُرم منه هنا",تقترب من اللوحة وتشير في سعادة طفولية:
-لوحتي...ما رسمته في شبابي!
يداعبها:
-ماذا شبابك؟!مازلتي زهرة الشابات.
-آه يا حبيبي...عقلي...عقلي مخرف كأني عشت مئات الأعوام.
يتأمل وجهها الجميل في شغف,من كان يتصور أن الفنانة التشكيلية نسرين كريم,سيأكلها الألزهايمر في أوج نجاحها وشهرتها,كان خبراً صاعقاً علي عارفي قدرها من فنانين ونقاد,ومعجبيها كامرأة فاتنة,طالما تعجبوا من ارتباطها بممدوح هذا,وأصحاب المناصب العليا يهيمون بها ويركعون تحت قدميها لو طلبت,لكنها تتزوج بممدوح حسان الأديب الخامل,الذي عجز عن تحقيق أي نجاح,وبقي في ظل زوجته.
"لوحتي"
أول مرة يراها كانا في مركز الإبداع وأول كلمة يسمعها منها"لوحتي"كان شاباً تملؤه الأحلام,يتعبد في محراب الثقافة,يتابع الأحداث الفنية,ويطارد الندوات واللقاءات الثقافية في مدينة الأسكندرية وبها بقايا من سحر قديم,خلطه الأقدمون من كل الجنسيات ليزينوا عروس البحور.
لوي عنقه ناحيتها,ونهل نظره من الجمال الصافي مستعلناً في كبرياء,أكثر ما أثر فيه,ورد الوجنتان الطبيعي والشفتين النديتين بسلسبيل الرضاب جعلهما لامعتين,وفكر في غواية هاروت وماروت.
-منذ ساعة وأنت تقف أمامها علي تعجبك إلي هذا الحد؟
-إن الطمأنينة في هذه الصورة إما أن تكون واقعية عايشتيها أو حلم تصبين إليه.
التقت نظراتهما في نفس اللحظة...
طوال زاوجهما كانت مفكرته الحية,فهو كثير النسيان والشرود,من النوع دائم الارتباك,الحائر علي الدوام,كان حزمها وحسن تخطيطها العامل الأساسي لنجاح الأسرة,مع عثراته الكثيرة كانت ملجأه,عندما خانه أحد الأصدقاء واستولي علي أفكار حدثه عنها واثقاً,سعيداً لما توصل إليه وسيكتبه,ثم اشتهر بعدها ونال إشادة قوية,لم يكتف بذلك بل أخذ يكيل له السخرية والازدراء في كل مكان,ففقد إيمانه بنفسه جعلته هذه الحادثة يحجم عن ممارسة شغفه بالكتابة,التي أخلص لها ولم تهبها نفسها كأنها الدنيا قررت كفاية نسرين عليه ولم تسمح بالمزيد,قاطع الدنيا وعكف علي آلامه,تنهد وقال لها:
-يبدو أني رجل بلا أي مواهب.
انفرجت شفتاها عن ابتسام طالما بددت ظلمات لياليه,واندست تحت ذراعيه تطوقه في حنان:
-إنك رجل تعرف كيف تحب بإخلاص...ليس له كثيل!
الآن تنقلب الأدوار,يغدو منذ ثلاث سنوات صديقها وهداها في تيهها بأرض النسيان.
بعد فترة صمت بدت في عينيها نظرة غريبة:
-أين سلمي...أريد مكالمتها؟
ضغطت علي أزرار ريموت التليفزيون ووضعته علي أذنها,اختلج وجهه ضغط بيده المرتعشة علي يدها:
-سلمي ماتت منذ عشرة أعوام.
انهارت تبكي علي أختها في حرقة كأنها ماتت اليوم,تماسك وتوجه إلي النافذة يفتحها,بعد دقيقة ستصرخ مهتاجة,ستذرف الدمع وهي تسأل من هو وما الذي أتي به هنا!تجلد في صمت وهو ينظر للسماء يزحف عليها ليل سبتمبر ورائحة هواء الخريف تزيده وحشة,في هذا الوقت يشعر بالضيق,ويتبلبل الزمن داخله,كأن النهار يراوغ ففي هذه الصورة يولد ويموت!
من محل أسفل المنزل انبعث صوت عبد الحليم"الموج الأزرق في عينيك,يناديني نحو الأعمق,وأنا ماعندي تجربة في الحب,ولا عندي زورق",صمت النشيج,الأغنية جلت الصدأ عن عقلها,وعاد لها صوت ممدوح يغني هذه الكلمات,ليالي صفائهما,وهما ممدان علي السرير يشعر بجسدها الدافئ بجواره,وقد ارتويا من رحيق العشق"إني أتنفس تحت الماء",يهجم عليها من جديد دافناً وجهه في صدرها يردد وسط ضحكاتها"إني أغرق أغرق أغرق أغرق",ناقوس بعيد يدق في ماضيها يشير إلي الرجل الواقف أمامها,حبها وحياتها التي سلبها منها سرطان الروح,المتسلل إلي الذكري ليمحوها,ليقاومه الحب وتدحره الذكريات العاطفية المحفورة في بدقات القلب ونبضات العروق.
اقتربت منه بينما ينتظر العاصفة,وقفت إلي جواره في طمأنينة احتضنت ذراعه وأراحت رأسها علي كفتيه,ترسم بحاضرها ذكرياتها في لوحة حية,جاءت شبيهة بلوحة أخري مضي عليها ربع قرن.
قبل رأسها وسمعها تقول في مزيج من الأمل والخوف:
-أعتقد أن بإمكاني البقاء معك لعشر دقائق أخري.
ومن النافذة شاهدا الحياة تصطخب,الضوضاء والأضواء تزيد,يتحرك الكون ومن فيه بسرعة,متلهفين علي المستقبل,متعجلين يسابقون الزمن,بينما هما متجمدين يصارعان الوقت,في عيونهما ضراعة تطلب منه المكوث قليلا هاهنا أو إبعادهما عن هذا العالم,لعالم آخر خال من الألزهايمر,لا يموت فيه الإنسان قبل خروج الروح بسنوات,بخروج عقله من رأسه,والتحليق بعيداً...حيث لا أحد هناك!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق