الأحد، 17 نوفمبر 2019

تلبس أيدولوجي


"الفن السائد في أي مجتمع، هو انعكاسٌ لفكر الطبقة الحاكمة له" 
تحمل العبارة أصداء تلامذة ماركس في فهمهم للعلاقة بين الفن والمجتمع,مع أن ماركس نفسه كانت نظرته للفن أكثر رحابة,هو الذي بدأ حياته أديباً يحاول خلق الشعر وسرد الرواية,قبل أن يخسر العالم أديبا عادياً ويربح مفكراً استثنائي قلبت فلسفاته المفاهيم وزلزلت العروش المتأصلة في ضمير الأمم,وقد لاحظ بروحه الشاعرة أن جون ميلتون أنتج ملحمة الفردوس المفقود,لنفس السبب الذي أنتجت به دودة القز الحرير,أي أنه مارس نشاطاً نابعاً من طبيعته الفطرية.لم يصدر عنه مفهوم الانعكاس ولا عن إنجلز,وإنما جاءت عبارته بنصها"في كل العصور تغدو أفكار الطبقة الحاكمة هي المهيمنة", أما عبارتنا عن الفن والانعكاس,تكشف بصمات جرامشي,بليخانوف,لينين,لوكاش...وغيرهم من شراح الماركسية,بل هي الاختصار لفكرة ماوتسي تونج الذي ربط بين الآداب والفنون والطبقة الاجتماعية,مؤكداً علي أن كل الفنون تتبع طبقة معينة أو أيدولوجية سياسية محددة,وينكر مفهوم الفن للفن,ولا يعترف بأدب فوق الفوارق الطبقية والمصالح الحزبية,فلا وجود لإبداع منفصل عن السياسة والسلطة,إنما هو في ممزوج بالسياسة حين ينحاز لمصالح طبقة معينة بحسب خطابه في ندوة الفن والأدب.
نظرية الانعكاس تفيد بأن كل إدراك للعالم الخارجي يقوم علي انعكاس هذا العالم في الوعي الإنساني,وإذا كان الفن عاكساً للمجتمع فإنه علي حد قول بيير ماشري"يكون مرآة وضعت بزاوية معينة تجاه الواقع"
تنظر الماركسية للمجتمع علي أنه مكون من بنية تحتية أساسها الاقتصاد وعلاقات الإنتاج،تنعكس علي البنية الفوقية ومن ضمنها الفن الذي يصبح انعكاساً للطبقة الحاكمة لأدوات الإنتاج,المفكر الإيطالي جيامبا فاسكو يعتبر من أوائل من قدموا محاولة منظمة لربط الأدب بالواقع الاجتماعي في كتابه"مبادئ العلم الجديد"1725متناولاً فيه علاقة الأدب بالمجتع العشائري الذي كان قائماً,رابطاً بين ظهور الدراما ونشأة المدنية والدولة,وبين ظهور الرواية واختراع المطبعة.
رغم أن الفن بأسراره العليا يستعصي علي الإدارك,إلا أن صبغته الأيدولوجية التي يتشربها يمكن ملاحظتها علي الفور,كما لاحظ هنري ماتيس أحد رموز المدرسة الوحشية في الرسم,أن "كل فن يحمل بصمة حقبته التاريخية",في عملية من التلبس الإيدولوجي يتسلل إلي بنيان الفنون,فتغدو انعكاساً للإيدولوجية الطبقة الحاكمة سواء بالسلب أو بالإيجاب,كما يري بيير ماشري أن"العمل الأدبي لا يرتبط بالإيدولوجيات عن طريق ما يقوله,بل عن طريق ما لا يقوله,فنحن لا نشعر بوجود الأيدولوجيا في النص الأدبي إلا من خلال جوانبه الصامتة"وكما اعتقد بليخانوف"لا يوجد عمل أدبي يخلو من الأيدولوجيا",هنا النظرة إلي الفن باعبتاره معادل اجتماعي للتطورات التاريخية,متأثر بقوانين من خارجه تفرض عليه جماليات خاصة,بمنظور مادي ديالكتيكي وليس بنظرة مثالية صوفية تسبق فيها الأفكار والأحاسيس الواقع المعاش,مما جعل خروشوف يصرح"إن قوة الأدب والفن السوفييتي,تكمن فيما ينطوي عليه من ذوق فني,وإيدولوجية عالية".
وفي السينما المصرية نماذج دالة علي انعكاس أفكار الطبقة الحاكمة علي الفن,من أين جاءت كل هذه النوستاليجيا والحنين للزمن الملكي وهذه الصورة الوردية عن زمن شهد أزمات طاحنة وسخط من أهله وتراكم الثروات الطائلة في أيدي طبقة صغيرة بنوا بيها فخامتهم وأناقتهم ,في وقت لم يجد فيه الفلاحين حذاء يلبسونه وللكرباج الكلمة الأولي معهم؟كانت للسينما اليد الطولي في هذه الرؤية,كما ستكون له أيادي في كل الأزمنة,وكل زمان له ميزاته المبهرة وعيوبه الخطيرة,هنا برز دور السينما في تشكيل وعينا التاريخي بالقرن العشرين.
كانت السينما في مهدها لكنهم وعوا لها وأدركوا ما قيل من قبل عن فن الرسم"إنه أخطر من أن يترك للرسامين وحدهم",لذلك منعت الرقابة أولي محاولات السينمائي الرائد محمد بيومي 1924بسبب مشهد للأسرة تأكل فيه ملوخية علي الطبلية!لن نفهم هذا الانعكاس السلبي إلا أن مصر كانت تعتمد في دعاياتها علي السياحة وعلي المشاهد التي نراها الآن بهية وجميلة حقاً,وتفوق الدول الأوروبية في الجمال والذوق,لكن خلف هذه المشاهد يكمن بؤس عارم,كتمته السينما,وربما كانت هذه الواقعة في ذهن المخرج محمد كريم أثناء تصويره فيلم"زينب",وهو يغسل الأبقار والشوارع والأشجار بالماء لتبدو براقة تليق لعيون الطبقة الحاكمة.
وفي الفترة الناصرية وهي أيضاً لها مميزات وعيوب,كانت السمة السائدة علي السينما,مواضيع تتسم بالجدية وتشجيع العلم والعمل والصناعة والاهتمام بقضايا العمال والفلاحين,لأن الخطاب السياسي كان موجه لطبقات الشعب العاملة,وظهر شعار"الاتحاد والنظام والعمل"في السينما معلناً عن توجه الطبقة الجديدة.
أما السبعينيات فقد تحللت السينما أو كادت من الأيدولوجيا إلا ماكان هجوماً علي زمن عبد الناصر,وغرقت السينما في أفلام تافهة لا تمت للفن بصلة,تلعب علي غريزة العنف والجنس,فقد أرادت الطبقة الجديدة توجيه دفة القيم الجمالية ن العمل والإنتاج,إلي تبرير وتمجيد قيم الفهلوة والثلاث ورقات والكسب السريع,بالحصول علي شنطة المال والفتاة الجميلة وتنزل تترات النهاية وسط سعادة تعم الجميع!!!في مثال عملي لمقولة الناقدة والأديبة الفرنسيةجرمين دو ستايل المعروفة بمدام دو ستايل"كل مجتع يحصل علي الأدب الذي يستحق"؟
صاحب هذه العبارة تيار فكري هادر غزا العالم ذهنياً في وقت ما من القرن العشرين,كانت نظرته للفن مرهونة بالمصلحة الاجتماعية وبصراع الطبقات الأيدولوجي المحموم,والمقصود بها أن لا فكاك لأي فكرة نظرية أو تطبيقية من أسر الإيدولوجيا الحاكمة التي تضع مسببات اجتماعية,ينتج عنها انعكاسات في كل مجالات الحياة ومن ضمنها الفن الذي هو في واحد من وجوهه,نشاط اجتماعي ينتجه فرد أو مجموعة من الأفراد للعرض أمام جهور,هذا الجمهور لديه احتياجات نابعة من ذاته يريد إشباعها,وفي نفس الوقت تفرض عليه رؤي جمالية تصاغ في قوالب بنيوية,تشكل معاني سياسية وفكرية عن طريق الوعي أو اللاوعي,تود الطبقة الحاكمة أن تعلن بها عن أفكارها التي تتبناها في سبيل تطوير المسار التاريخي لهذا المجتمع,وفي النهاية لابد أن يشار أن نظرية ماركس الخام قبل أن تبدأ صفوة العقول المفكرة في تحليلها وشرحها,تشكلت في ظل الأزمة الاجتماعية الأوروبية المزرية,وماركس في نهاية حياته تنبه إلي نمط جديد للإنتاج"النمط الآسيوي للإنتاج"باعتباره نمطاً مغايراً لتاريخ الإنتاج الأوروبي,ومع ذلك تبقي نظرية الانعكاس يمكن تطبيقها علي مجتمعات الشرق والغرب علي السواء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق