الجمعة، 25 سبتمبر 2020

العلاّمة والأندلسي

 

العلاّمة والأندلسي

1-العلاَمة

العلاقة بين الفن االروائي المتخيل,والتراث العربي المدون في كتبنا القديمة,تثير الشك وتجبرنا علي إعادة تمثل الشخصيات والأحداث بعيون جديدة,فكل روائي يقبض علي جزء معين,ويحكي من منظوره الفريد,فالتراث هو المنبع الفياض الذي نسعي له لا لتقليده أو لوضع الحافر علي الحافر كما يقول المثل,بل للاستفادة والكشف كما فعلت أوروبا إبان نهضتها الناشئة في إيطاليا,ألم يكن دانتي ودافنشي بترارك وغيرهما الكثير نباشين في تراث اليوناني ومسافرين عبر الزمن للتاريخ والتراث,كي يعودوا لبلدانهم بالآلئ التي بنت عليها أوروبا نهضتها؟نحن نريد إعادة اكتشاف للتراث مغلفة بإطار اللحظة الحاضرة,التي لللأسف الشديد تعاني من نفس المشكلات والأزمات التي ظل العرب يعانون منها منذ قرون خلت بعظمتها وسفاهتها,وعند الحديث عن الآداب واللغة فكلنا عرب نتحدث نفس اللسان ونفهم عن بعضنا ذات الكلمات,المشرق كالمغرب والجنوب كالشمال,وفي المغرب العربي يقبع روائي له باع وقدرة علي الحفر في الشخصيات التاريخية ليستخرج سرها المكنون ويسرد طبيعة عصرها وحياتها الداخلية المتناقضة مع عالمها الخارجي المضطرب,كتب لنا"العلامة"عن سيرة عبد الرحمن ابن خلدون,"هذا الأندلسي"عن الفيلسوف الصوفي ابن سبعين,وسبقهما بـ"مجنون الحكم"عن الحاكم بأمر الله...الأديب بنسالم حميش الذي ارتحل إلي الماضي في رواياته الثلاث وعاد إلينا وقد كبش ملأ قلمه معاني وتجليات شخصيات عربية أثرت في الثقافة والتاريخ.

في "العلامة" يتجسد ابن خلدون الذي سكت التاريخ عن الكثير من مراحل حياته ولم يفصلها بالقدر الكافي,وبل ولم يفصح عن نفسه عندما قام بالتعريف بنفسه ورحلته التي خاض فيها غمار ما يعرف اليوم بالسيرة الذاتية ولم تكن شائعة وقتئذ بين العلماء والفلاسفة,فقد كان شاغله هو العالم من حوله والاضطرابات التي تقع للدول والأمم كشاهد عليها ومشاركاً فيها,ابن خلدون كما صوره بنسالم حميش عجوز يعرف الحب من جديد علي يد أم البنين بعد أن فقد زوجته وأولاده غرقاً في البحر,وأم البنين هذه هي أرملة كاتبه حمو الحيحي وكليهما لا وجود لهما في سيرة ابن خلدون,لكن الفن يكشف لنا الحقيقة عندما يصوغ من الخيال إيقاعاً نسمع به لنبض التاريخ,ومعرفة ابن خلدون بالحيحي هي أول باب نطل منه علي شخصيته,فهو"العالم الأعظم والقاضي الأعدل"كما يصفه عندما يزوره ليقضي في مشكلة مع امرأته,وهي مشكلة غريبة نوعاً,فهذا الرجل الحيحي عمره أربعين عاماً مهاجراً إلي مصر من مدينة فاس منذ عامين مع زوجته أم البنين,وهي تتسمي أم البنين مع انها لم تنجب حتي هذه اللحظة"زوجتي تريدني في التنزه معها علي ضفاف النيل والساحات جنباً إلي جنب.أما أنا فيعسر عليّ طلبها يا سيدي ولا تطيقه قامتي,هذا فضلاً عن أن الدين لا يحبذ ذلك,ولا أظنه يتوعد رجلاً يأبي المشي مع زوجة تعلوه بذراعين.

يريد الحيحي أن يفاي القاضي في حكم امرأة تبغي التنزه مع زوجها القصير ترويحاً عن نفسها وتفريجاً عن وحدتها علي مذهب الإمام مالك,يحل ابن خلدون المشكلة بأن يوصي بها خادمه شعبان الذي تجاوز السبعين ليحميها من المعاكسات الخليعة,مقابل أن يصبح الزوج كاتبه الذي يملي عليه,ويجعل بنسالم حميش في روايته التراث ناقداً للتراث!

"هل يتسع عقلك يا حمو,أو حسك الطبيعي,لتصديق نزول الإسكندر في صندوق زجاجي إلي قعر البحر,وذلك بغية تصوير الدواب الشيطانية,التي تمنعه من تشييد مدينته,ثم وضع تماثيل لها تناط بها مهمة تخويفهما وتطريدهما؟"

تلك السمة الحقيقية التي يجب أن تميز أي عمل بحثي أو أدبي يشتبك مع التراث,تطويع الكلام للعقل والمحسوسات المنطقية,فإذا انفلتت الحكاية المسرودة عن نطاق الذهن وطبائع الأمور,لابد من ازاحتها عن بؤرة الوعي والتركيز واعتبارها مجرد طرفة أو زيادة من الكتبة,لحساب نصوص أخري تعلي من القيم العقلية والأخلاقية والعلمية,وليست حكايات ابن بطوطة الفنتازية التي ينقدها ابن خلدون هي ما تقوم عليه الذهنية المنطقية المندفعة نحو المعرفة والفهم الصحيح,بل هي نصوص أعلام الثقافة العربية أمثال البيروني وابن سينا وابن الهيثم وغيرهم عشرات الأسماء التي استفاد منها الغرب,بينما نحن نتعارك حول أسماء أخري أطلقت آراء جدلية ما تزال الدماء والحروب تسيل من عباراتها حتي اليوم,إننا لو كنا عشنا مع تراث ابن عربي والجاحظ وابن الطفيل والشيرازي وغيرهم من منارات الحكمة العربية ربع ما عشناه مع أسماء أخري التجأت للنقل وتنكرت لعقل وجنحت نحو التطرف لكان للعرب اليوم حياة أخري خالية من كل ما يحيط بهم من كوراث قضت علي شخصيتهم وهويتهم.

لكن للمثقف رأي آخر سواء المثقف القديم-المتجدد دوماً- ابن خلدون أو المعاصر بنسالم حميش!إنهم يغوصون إلي ما وراء النص ويوازنون بين المعقول واللامعقول,يعرفون جيداً الفارق بين الوهمي الضار والمنطقي المفيد وطبعاً ليس من كمال بشري أبداً, إن ابن خلدون يتعرض لسهام النقد الشديد لآراء في المسألة الصوفية التي أراد أن يحرق كتبها,وفي الديانات التي كانت تتعايش مع المسلمين لكن هذا شأنه شأن أي مشروع معرفي ضخم كالذي تبناه ابن خلدون,والمعلم الأول أرسطو وقع من قبل في أخطاء جسيمة,لكن في النهاية لا يعيب الإنسان الخطأ لكونه العماد الأساسي لأي تجربة إنسانية أو معرفية.

عند وفاة كاتبه يفيض قلب ابن خلدون بحبه لأرملته المبتلاة بالحرمان من الإنجاب,وبشقيق مخنث يثير المشكلات,وقد عاب عليه خصومه أنه كان"يتبسط بالسكن علي البحر ويكثر من سماع المطربات ومعاشرة الأحداث,وتزوج من امرأة لها أخ أمرد ينسب للتخليط...وأنه كان يكثر الازدراء بالناس,وأنه حسن العشرة إذا كان معزولاً فقط,فإذا ولي المنصب غلب عليه الجفاء والنزق,فلا يُعامل بل ينبغي ألا يُري".

وكأن مسلسل اضطهاد النوابغ في الثقافة العربية يعاد مع كل جيل,يسرد حميش الاضطهادات التي تعرض لها ابن خلدون من حبس وعزل من المناصب والجفاء الذي كان يلاقيه من السلطان المراهق فرج بن برقوق وهو"العلامة"كما سمي عن حق,وتظل واقعة لقاؤه بتيمور لنك أحرج موقف عرضه لسهام النقد حتي اليوم وصلت لاتهامه بالخيانة!

-العالم والحاكم

في الفصل المعنون"الرحلة إلي تيمور الأعرج,جائحة القرن"يبتدئ بابن خلدون يداعب طفلته من أم البنين التي أنجبها بعد فراق الأهل بالموت وأنجبتها بعد حرمان طويل من الأمومة,خيط أخير يربطهما بالحياة السعيدة المبنية علي آمال في مستقبل أسعد من الماي الأليم,يلعبان"الدغدغة ولعبة الحصان,وذات مرة وهو يهيئ ركوبها فوق ظهره,أدرك بوعي حاد أن أفدح مصيبة يمكن أن تنزل به هو أن تتعرض ابنته أو زوجته لشر ما"ولم يجد إلا الشر الأعظم المتجسد في تهديد تيمور لنك قائد التتار,عبقري التخطيط والاستراتيجية وعديم الرحمة والإنسانية,أحد دهاة الحرب والسياسية في التاريخ,الرجل الذي قاد جماعات التتار المتفرقة ليصنع منها جيشاً أرعب العالم,و أطار النوم من عين السلطان برقوق"برقوق لم يعد يستحق لقبه العروف,لما أصاب عينيه من انطفاء وغور وراء حاجبين كثيفين ولحية شاردة مهملة.علامات الشيخوخة المبكرة,البادية علي أطراف جسده الأخري.تشير للعارفين إلي تمكن الهم المغولي من دماغه وجوارحه,حتي بات هذا الهم يعبث بخلوده إلي الراحة أو النوم,ويبث في لياليه وساوس الأرق والسهاد"

لقد كان تيمور مرعباً بحق,إنه الجندي الذي قضي معظم حياته علي صهوة جواده يصول ويجول مواجهاً أحلك الظروف وأصعب الأيام,الجرئ الشرس القادر علي تدمير بلدان كاملة في وقت قياسي بجيوشه الجرارة وتشكيل أهرامات من الجماجم,الرجل الذي تملقه أمراء أوروبا خوفاً,وانهزمت أمامه قوات الترك بقيادة بايزيد,ونجح فيما أخفق فيه نابليون وهتلر,عندما تمكن من اختراق الجليد وغزو روسيا بخطة محكمة وتدابير عسكرية دقيقة,وجاء أجله أثناء مسيرته لتحطيم ور الصين العظيم والنفاذ إلي بلاد الصين الشاسعة!

هذه هي الشخصية التي قابلها ابن خلدون في دمشق,الاثنان من نوابغ عصرهما كل في مجاله,ابن خلدون مفكر جم المعرفة عزير العلم والدراية وتيور قائد من طراز نادر قلبه لم يعرف الرحمة لكنه يضطرم بالشجاعة والإقدام,لم يرتجف لأي قوة علي سطح الأرض.

اشتبك الجيش المصري مع الجيش التتري في موقعتين,وقد فكر تيمور لنك في العودة منسحباً,لكن مؤامرة جرت في مصر جعلت السلطان يسرع إليها,تاركاً دمشق عارية من وسائل الدفاع ولأن ابن خلدون خبير في الاجتماع والسياسة سابقاً لمكيافيلي في نظريته البرجماتية,وإن لم يعلنها بوضوح كما أعلنها الإيطالي الذي أراد توحيد بلاده المشتتة تحت حكم أمير واحد,فقد له نصائحه للتعامل مع الشعوب والأمراء,قرأ ابن خلدون الوقائع ووجد أنه من الأجدي محاولة أرواح البشر وصيانة المدينة,فتدلي بحبل من الحصن الدمشقي وسار إلي معسكر تيمور وحادثه عن طريق فقيه من أهل سمرقند يدعي عبد الجبار بن النعمان كان الترجمان بين الحاكم في عرينه والعالم الساعي إليه لعل قبضته تلين علي الدمشقيين.

يناجي ابن خلدون نفسه هامساً في راوية العلامة عندما دخل علي تيمور لنك"هو ذا إذن الكائن العجيب كما تصورته دائماً هو ذا بعينه الخرزاء,وشعره الرطب الكثيف ولحيته الشيطانية,وجبهته المتنطعة فوق أنفه الأفطس.من قسماته وهيئته تبرز حصته الوافرة من عنفوان الطبيعة وعنفها"لقاء بين العقل والسيف,الفكر والدروع,الثقافة والقوة,ولم يكن تيمور لنك عاطلاً عن المعرفة والفهم,فقد قدر ابن خلدون واستفسر منه عن بلاد المغرب"الجواني"كما سماها له ابن خلدون,طمعاً في صرفه عنها بالإشارة لوعورة مسالكها وشدة ساكنيها,لكن تيمور يأمره بكتابة وصف للبلاد ومعالمها,وفي أثناء انهماكه في تأتيه أخبار دك دمشق وإضرام النار في دورها وأسواقها,بعد أن نكث تيمور عهده وقد(ترجم)عنه ابن النعمان قوله لابن خلدون"إنه متألم لما حدث لدمشق وقلعتها من شدائد,وألمه أكبر للحريق الذي نال الجامع الأموي عرضاً.وكيف لا يتألم وهو الذي سجل في مذكراته:"لقد عملت علي الإمساك عن الابتزاز والقهر,لأن هذه الأفعال تحدث المجاعات وشتي الأهوال التي تحصد أجناساً كاملة"؟لكن ما حيلته إذا كانت أوامره إلي جنده بالتلطف واللين لا تطاع دائماً في حقول النهب والبطش"!!!يا لضيعة الكلمة وسط صيحات الحروب ويا لخراب محراب الخير في مواجهة آلات الشر العاتية,لم يستطع ابن خلدون أن يوقف آلة الزحف التترية الجرارة علي دمشق وأهلها.

وكما يموت كل الناس مات ابن خلدون,وقد عاش حياة متفردة,رأي وجرب وعرف وكتب الكثير فأصبح اسمه علماً علي التاريخ والاجتماع,وآليات صعوب وهبوط الأمم وانهيارها.

2-هذا الأندلسي

في رواية"هذا الأندلسي"وعبر 500صفحة ينقل لنا حميش بلسان ابن سبعين وقائع حياته المضطربة,مصوراً رؤاه وخيالاته المشبوبة بالعاطفة والوّله الصوفي العارم,والتصوف طالما كان هدفاً للفقهاء ورجال السياسة لينفوه من نسيج المجتمع,لأن الصوفي الحق لا حكم لأحد عليه,إنما هي الأنوار الشعشانية والمعاني الفلسفية هي ما تحدوه في حياته,لا يسير علي خط محدد سلفاً كما يريد فقهاء السوء,ولا تستميله الدنيا وأبهتها وهو ما يخيف رجال السياسة,فيصبح أمثال ابن سبعين والسهروردي والحلاج بمثابة خطر علي المجتمع من وجهة نظر فقهاء السلطة علي وجه العموم.

ابن خلدون لم يكن راضياً عن المتصوفة فنجده يقول"وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلة,وما يوجد من نسخها بأيدي الناس,مثل الفصوص والفتوحات المكية لابن العربي,وبد العارف لابن السبعين,وخلع النعلين لابن قسي,فالحكم في هذه الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها متي وجدت بالتحريق بالنار,والغسل بالماء,حتي يمحي أثر الكتابة,لما في ذلك من المصلحة العامة في الدين,بمحو العقائد المختلة,فيتعين علي ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعاً للمفسدة العامة,ويتعين علي من كانت عنده التمكين منها للإحراق."

تلك الرؤية التي اعتذر عنها ابن خلدون في رواية العلامة,هي الرأي العام السائد في كل عصر نحو الصوفية وأقطابها,المتصوف غريب مغترب,يقول ولا يهمه شئ يندفع مع الروحات الإلهية والرجوعات السماوية,غير عابئ بمن في الأرض,يقول ولا يراجع نفسه,يطلقها كيفما اتفق,مما يرعب وعاظ السلاطين ويرعب المتكسبين من الدين,فيفتون بقتلهم وتخليص العالم من هرطقتهم!أي شئ في قلب لا يكن للإنسان ذرة كراهية بل يراه فوق الأرض قريباً من السماء يناجي الذات الإلهية يمكن أن يضر؟!لكنها اللغة.اللغة البشرية قاصرة علي إتيان المعاني الجوانية من القلوب المشبوبة بنار المعرفة والشوق,فتسمع الآذان منهم شطحات ينكرها المواطن العادي ويعتقد أنهم أهل إلحاد ومروق,منها العبارة المنسوبة لابن سبعين"لقد حجر ابن آمنة واسعا حيث قال:لا نبي بعدي"وهي الذريعة الأساسية التي هُيج الناس بسببها        ضده,وفي الرواية بن حميش يقول إنها من تصحيف النساخ مرة ومرة يجعلها إحدي خطرات الأحلام,ولا حساب علي الأحلام.

لغة معتقة,لا أريد اقتباس أي شئ منها,لا بد أن تقراً في تسلسل واحد,تقارب الراوي مع الحس الصوفي ومن جبال اللغة العربية الشامخة نحت مقاطع سردية حول المرأة الواقع في هواها ابن سبعين مقاطع في غاية العذوبة والرقةأما أحلامه وتوهماته فقد جاءت كزيارة شبح الأمل السعيد للواقع المحطم والقلب التعيس.

تصادمات عاطفية وسياسية وروحية جعلت من ابن سبعين رجلاً ممن فارقوا الحياة الأرضية وهم فيها وتاهوا في سماوات المحبة بالعشق الصادق حتي ميتته الغامضة بين من قال قتيل ومن قال منتحر,يقضي بها أدبياً بنحميش باعتباره ضحية الظاهر بيبرس الناقم عليه بسبب قوله في الحج وطارده في مكة حتي اضطر إلي الالتجاء لمغارة تحت الأرض تخفيه عن العيون والجواسيس.

سيرة طويلة شهدت تزلزل عروش ملوك الأندلس وصعود القوة الأوروبية الجديدة التي سترث مشعل العلم والثقافة في العالم القديم,سيرة رجل أحب الله فأحب عباد الله,أحب بكل جوارحه زوجته فيحاء وتصادق بكل قلبه مع صوفي آخر هو أبو الحسن الششتري...هذا الأندلسي الضائعة مخطوطته فيتشوش حاضره ومستقبله...هذا الأندلسي رواية أخري تضاف إلي عقد الأدب المغربي الزاخر بصنوف الاتجاهات الفنية.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق