الاثنين، 10 فبراير 2020

الهروب للتعليم


الهروب للتعليم
"لامست قدمي أرض المطار لمسة خفيفة,سحقت فيها كل سنوات المرارة التي مرت بي,هنا في أوروبا وفي العام 2025سأبدأ حياتي الدراسية تاركاً جالوص الطين المحمول علي ظهري طيلة ثلاثون عاماً,من ارتشاف القذارة والعذاب النفسي داخل بؤر الجهل والأمراض النفسية التي علقت علي لافتاتها أسماء مدارس وجامعات.
مع ذلك كنت نادماً وحزيناً,ففي مصرعرف العالم نفسه,والآن تحتاج لغيرها لتعليم نفسها.لحست أعتاب المكاتب,من القاع إلي القمة دائخاً علي الأوراق والأختام,صارعت حقارة نفوس موظفي الحكومة وهوايتهم في تعطيل أعمال الخلق,كأني دانتي يخوض الجحيم مطعماً-في حالتي-بشهور الانتظار,والصبر علي الكلام البائخ,واحتمال رذالة من نوع صنع في مصري,بينما الدنيا تنجز بالتكنولوجيا في دقيقة,ما ننجزه نحن هناك في عام,وأخيراً حصلت علي هذه المنحة,وما رفاعة وطه وزويل,سوي عقول نيرة أتيح لها الرؤية في نور العلم الهادي من الظلمات إلي النور في بلاد أنا فيها اليوم.
أول شئ فعلته قبل الذهاب إلي سكن الطلاب,وضعت كل البهائم الذين حطموا عقلي وسلبوا مني الثقة في النفس,وتناوبوا علي امتهان كرامتي في زرائب التعليم المصري مسلسلين بجوار بعضهم,صففتهم علي الحائط وأطلقت عليهم النيران,مدفعي الرشاش كان يهتز بشدة مغتاظاً يشاركني الرغبة في القضاء عليهم بداخلي,لأكنس هذه القذارة ليحل محلهم الأساتذة بمعدنهم الصافي,المساهمين في بناء بلاد التقدم والتعليم.
ترددت في رأسي أصداء عبارات حملتها الذكريات"ربنا يدينا طول العمر,ونشوفك إنت فين واللي جنبك ده فين"قيلت لي بتهكم مسموم مقارنة مع تلميذ آخر,"لو ده فلح فده السبب ولو ده فشل فده السبب"أي نوع من البشر يوجه لطفل صغير هذا الكلام,أما في الزريبة الجامعية كان اسمي"الحمار"أطلقت علي معيدة لا تجيد الإملاء هذه الصفة,لأنها اكتشفت أني اكتشفت جهلها وبلادتها,وفي بلادي للأسف يحتل البلداء القمة,ويقبع النابهون في القاع,لا يزال صراخها المريض في وجهي كأنها رأت طاقة من نار جهنم يدوي في رأسي إلي اليوم,وغيرهم...وغيرهم!في بلاد النيل تنتشر هذه النماذج كما تنتشر الفئران والصراصير.
الآن أعيش حلمي القديم في التخلص من كل هذا لكن يبدو أن الذكري أقوي من نيران المدافع,علقت صور أبطالي من العلماء والمثقفين علي الحائط,ولما تجلي وجه العميد بنظارته السوداء,التي يرتديها علي بصريتهم ملايين من الناس,عادت لي ذكري صاحبة الصراخ المريض,عندما اقترحت تجهيز برنامج عنه,نظرتها المستهزئة بي وبه,وثقتها المستفزة التي لا تتأتي إلا لجاهل أو مجنون,وضحكات مشاريع البهائم القادمة ليحلوا مكانها يوماً ويستمر سلسال التخلف,كأني قلت نكتة أو قمت بحركات المهرج,يومها فاز صاحب اقتراح برنامج  عن المهرجانات الشعبية الاستحسان والإشادة,وبدأ يقود حركة العمل نحو مستقبل إعلامي واعد.
قررت دراسة الإعلام,أنتم هنا تقدرونها وتعرفون جيداً معناها,في بلدي أتعرض بسببها للسخرية من صديق لا يدري ما هو  الإعلام,ولم يقف يوماُ ليقرأ فيه كلمة,لكنه ككافة المصريين قادر علي الأحكام المطلقة بسهولة مطلقة,كان علي يقين أنها كلية تافهة لا شأن لها ولا قيمة,في نفس الوقت كليته سيدة الكليات,قالي لي يوم ذهابي لتأدية الخدمة العسكرية"إحنا اتعاملنا باحترام عشان طب وهندسة,أما إنت هاتشوف معاملة تانية"ارتبكت للعبارة,ولمعت في الأعين بريق الانتصار والشعور بالزهور والافتخار, في المجتمع الذي نشأت فيه,العنصرية ضاربة للجذور والعصب,كل الفئات تتنمر علي بعضها,كل الطبقات تحتك مع بعضها في تصادم,الكل يعوض وجوده في المستنقع المزري بأي قشة يظن أنها تميزه عن غيره,ثم يغضبون من صلف رجال الشرطة التي تمارس العنصرية كأي وحدة اجتماعية أخري!
رحت في سبات عميق,تراءت لي المكتبات ودور السينما ومعارض الفن التي تنتج الغث,وقد خرج منها خنازير وثعالب,يركضون حولي ويمنعونني من الدخول,تنبهت من نومي الذي يشبه فقد الوعي علي يد إيميليا الرقيقة-هي الآن زوجتي-فتحت عيني فوجدت وجهها طبقاً من الحلوي الأمريكية يطل علي,يسيل الشهد والكراميل من ابسامته الطفولية التي تبدو مع مع حركة حاجبيها مدعاة للضحك وسبباً للارتياح:
-هل أنت عبد الكريم الزميل المصري الجديد؟
قلبت العين ألفاُ فنسيت اسمي الأصلي!
-أجل أنا عبد الكريم.
-أعتذر...رأيت الباب مفتوحاً وأنت مستلق بملابسك فأردت الاطمئنان عليك...هل أنت بخير.
من هذه الحروف القليلة في ذلك الصباح الربيعي الحلو,عرفت معني الحب والحنان,ورأيت العطف ملاكاً يسب في قلبي رحمة وسعادة.
بعد ساعة وجدتها بجواري في الجامعة,انفرجت شفتيها عن بسمة لطيفة,ومع بدء المحاضرة,كان رأسي عامراً بالأفكار والمشاريع,وقلبي يهفو نحو الحب والأمل.
عام بعد آخر,بدأت آمالي تقوي,وزادت معارفي في مجالات عديدة جداً,فقد جبلت منذ طفولتي علي عشق القراء والتعلم,وكانت هذه لعنتي حين دفعت نحو نظام التعليم المدمر في مصر,الذي تذوي فيه العقول وتتضائل الطموحات,وتنصب الدرجات والشهادات صنماً يدور حوله الجميع في هيستيريا,ويحصل الكل علي ألقاب ومناصب ووظائف,وتتراكم أجيال الجهل والتفاهة,حتي تغدو رغبات أصحاب الوعي والتفكير تتلخص في الهروب من هناك إلي هنا.
بفضل تشجيع إيميليا وإيمانها بي زرعت في داخلي الجنوح نحو دنيا الأدب وصنعة الكتابة"كلامك جميل وتحليلاتك فريدة فلماذا لا تكتب؟"بدأت أتزحزح نحو الهدف الذي جئت من أجله,وأبحرت مع عالم الآداب العالمية,كانت إيميليا هي هيلين وبياتريس وجولييت وليلي,وتحولت علي يديها حياتي,الآن في 2040بسبب وقوفها بجواري واستنادي العاطفي عليها,أصبح اسمي لامعاً في عالم الفنون والآداب,التي استلهمت فيها روح مصر العظيمة...عظيمة رغم كل شئ.
في هذه الاحتفالية تكريماً لشخصي الفقير,هنا في برلين مدينة القوة والجمال,أتوجه لقبلة روحي الكامنة في وادي النيل,سلاماً أيتها البلاد التي أحلم بها تنهض من جديد,تنفض عن نفسها غبار القرون,وتتهيأ لاستقبال عالم جديد تنال فيه مكانتها الحقيقية بين الدول,أتخيلها في أحلام يقظتي وقد تجلت في صورة الأم إيزيس تسعي بين أبنائها,مهما بعدت بنا الليالي سنلتقي يوماً يا أمي يا أم الدنيا والكائنات"
عصف التصفيق في القاعة,هبط من المنصة,وخرج ممسكاً بيد حبيبته إيمليا واتجها نحو المنزل,وفي الصباح التالي أيقظته يدها الحانية,تعرف عليها قبل أن يفتح عينيه,وغمر قلبه شعور غريب بالامتنان للأيام السوداء التي حملته علي جناح يمامة بيضاء إلي مستقبل الحب والكرامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق