السبت، 22 فبراير 2020

كوبري علي النيل


في أمان الله يسير الحمار يجر الكارو,عليها جوال من الدقيق,وفي مؤخرتها يقبع طفل له من العمر ثمان سنوات مبقع الثياب حليق الرأس له نظرة,مُهولة تبالغ في كل شئ,لا يمكن بالضبط التأكد إذا ما كانت رغبة في الاندماج مع العالم من حوله أم مجرد ألاعيب طفولية,وفي الأمام ممسكاً باللجام يتقر الأب خلف الحمار,معتمراً لفة غريبة علي رأسه,بل هي لفائف من قطع قماشية ربطها بصورة عشوائية,متقياً من البرد بجاكت محشو بثياب مهلهلة,سترها عن الأعين برقع عديدة في قلب الجاكت,بين الثلاثة الأب وابنه والحمار وبين النيل مرمي حجر,شب الطفل فرحاً لمرأي النيل"البحر...البحر!"وأخذ يفرك جسده علي سطح العربة فرحاً بالمياه الجارية أمامه,لكنه شعر بخبطة آلمته,وفي لحظة لم يجد الجوال أمامه,وسمع الأب يصيح بالحمار وهو يسب ويلعن.
كان الجوال ساقطاً علي الأرض وقد انفكت العجلة اليمني من مكانها,نزل الأب وأشار لابنه بالنزول,ووقف أمام الجوال جائراً لا يدري ما يفعل,أما الولد فقد نطر نظرة المتفاجئ للمرة الثانية,ووضع اصبعه في فمه,ثم تراجع برأسه للوراء في دهشه,كأنه يفكر في بناء رياضي معقد أو يدون سيمفونية ملحمية,كان شكله لذيذاً هكذا يبعث علي الضحك,لكن الأب لم يلمحه,ركع بجوار الجوال وتلفت للشارع العامر بالضجة حوله وهمس لابنه"لن يساعدنا أحد",وأخذ يعبئ فيه ما انفرط,وهو يقول في مذلة"وما ذنبي يا حاج حسنين,جوالك وقع من العربة غصباً عني,والله تركت العجلة تطير أمامي بعيدا وهرولت للمّ بضاعتك من علي الأرض"ثم صمت برهة وكأنه يستمع للحاج حسنين في رأسه,أو يتخيل الحوار"سامحك الله يا حاج أجل أنا نظري ضعيف والعملية تحتاج لجوال مثل جوالك ممتلئ بالجنيهات,والحال كما تري,ما العمل يا حاج,أمنع عن بطني اللقمة وأوفرها للولد والحمار"ثم نظر إلي الحمار بينما الولد يبتعد ناحية النهر"إنك حبيبي وغالي عليّ,ولا أستخسر فيك شيئاً أبداً,لا يساعدني في هذه الدنيا غيرك"ثم عاد ونظر حوله من جديد للشارع المكتظ بالحركة والناس,وقال في أسي بصوت واضح استمد جرأته من الضوضاء حوله التي لا بد ستمحوه من الأسماع"يا ناس فليساعدني أحد",وطرأت علي ذهنه فكرة - لم يجد ألفاظاً للتعبيرعنها مع الحمار- أن كل واحد في هذه البلد يتعالي عليه ويشعر أنه أفضل منه,الكل يحتقر من هو دونه وقمة الاحتقار محاولتهم اخفاء هذا الشعور بطريقة فجة,تعلن أنه يقلل منك لكن أخلاقه العالية تمنعه من إيصال هذا الشعور لك,لكن نظرات الأعين ونبرات الصوت ونفاذ الصبر عند تبادل الحديث,تقوم بالواجب وأكثر,كل فئات المجتمع تحتقر بعضها ويستعلون علي من دونهم لحساب ذات وهمية يستمدونها من بناء اجتماعي معوج, وهكذا نطلب من الآخرين الاحترام ونحن لا نحترم أنفسنا,فكيف سنتحول لأمة تطالب بوجود كيان لها وسط العراك الدول المستعر.وليس تحته غير الحمار لكنه لا يقدر علي التعالي عليه,أليس أفضل من كثير من البشر,بل أنه أصبح يتعلم منه,الصبر والوداعة والرضا ومسايرة الأمور والرضوخ حتي تسير المركب.
رفع أحماله علي سطح العربة وجري نحو العجلة,أعاد تركيبها كيفما اتفق,ونظر للصخرة التي اصطدم بها بغيظ شديد,لكنه سرعان ما حوقل وحمد الله علي كل شئ,وعاتب الحمار في مودة الأصدقاء"طيب أنا لم أرها بعيني الكليلة,أما أنت كيف فاتتك بعينك السلمية؟!"
نادي علي ابنه المستغرق في استمتاع بمشاهدة أمواج النيل تجري من تحته,تتلألأ في عنينه الصافيتان,شاعراً أنه يسرق من الشقاء لحظات مبهجة,تفرج علي المراكب والصيادين ولوح لأحدهم بفرحة غامرة,وقهقه من فرط السرور لما رفع يده له,أجلسه مع الجوال علي الطرف الآخر من العربة ليحفظ التوازن قدر الإمكان,نخر وتقدم الحمار في سيره ناظراً للأرض يومئ برأسه لليمين واليسار في ملل وعبر الثلاثة الكوبري وتحتهم النيل بجريانه المستمر الخالد من آلاف السنين.
عندما وصلوا للحاج حسنين لم يلحظ أن الجوال قد انفك ووقع,همّ الرجل أن يحكي له ما جري,وسرعان ما تجاهله الحاج لما دخل أحد التجار الكبار,فقام مسرعاً لملاقاته,وقف الرجل طوال دقائق بجوارهما,ولما بدأ حديث الأموال,التفت له الحاج بنفاذ صبر:
-ما الذي يوقفك هنا هكذا؟
-ولا حاجة يا حاج إنني فقط أريد أن أخبرك بأن....
قاطعه الحاج بغلظة:
-بعدين بعدين اذهب لحال سبيلك.
خرج الأب ليجد الولد يلعب بالكرة مع ابن الحاج في الخارج,سحبه من كفه ورفعه علي العربة,محاذراً أن يراه أحد وهو يلعب مع ابن الحاج,وعادوا يعبرون الكوبري لحمولة جديدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق