الأحد، 28 يونيو 2020

زانج ييمو


عندما ظهرت السينما في القرن التاسع عشر كانت تخيف الناس في عروضها الأولي,يرون القطار مسرعاً فيقفزون في هلع مستديرين نحو الأبواب,وقيل وقتها أن"السينما اختراع لا مستقبل له"!!وبعد مضي عقود أصبحت السينما أكثر من مجرد اختراع وجهاز ميكانيكي,تحولت إلي بساط سحري ينقل المشاهد إلي أي مكان وزمان,فأنت اليوم في الهند وغداً في أمريكا وبعده في روسيا وهكذا حتي تطوف بلاد الشرق والغرب مع فناني السينما خلاصة الفنون وحاوية المتعة اللامتناهية,بيت الأحلام والمشاعر الإنسانية الصادقة.
والصين تلك البلاد البعيدة عنا في الشرق الأقصي تبدو غامضة وغير مألوفة,حكي عنها ابن بطوطة وماركوبولو حكايات ظلت تأسر خيال العالم وتلهب رغبته في التعرف علي ساكني ضفاف نهر اليانجستي,وهاهي اليوم تريد إعادة أمجاد طريق الحرير من الصين للعالم ومن العالم للصين, تحوطني كل اليوم بمنتجاتها وصناعاتها التي جعلت الحياة أسهل وأيسر لغير القادرين علي تحمل تكلفة المنتجات الأوروبية,وفي كل مرة أري واحدة من تلك المنتجات يزداد إعجابي بإرادة وصلابة ذلك الشعب الذي عاش مآس مرة في القرن العشرين ضحي وجاع ونزف قبل أن يستيقظ التنين الكامن فيه,فيعود من جديد عملاقاً كما كان قبل آلاف السنين ينافس الغربيين فيما تربعوا علي عرشه لقرون طويلة خلت كان الشرق فيها مجرد مساحة واسعة للمواد الخام ولتصدير المنتجات,ومن بين ما نافسوا فيه وتفوقوا بجدارة فن صناعة الأفلام.
تتجلي عظمة السينما في التقريب بين الشعوب فيلم من هنا وهناك نكتشف أن كل البشر واحد وإن تعددت ألسنتهم وتفاوتت ملامحهم,كلهم يكافحون لأجل العيش,يحلمون أحلاماً متشابهة تشمل الأسرة والسعادة والوطن والنجاح,ويواجهون نفس الأزمات الفراق والفقدان والفشل والانهيار والمذلة,وقد سافرت للصين بعيني أو بالأصح سلمت عيني لصناع السينما الصينية وعلي رأسهم المخرج الكبير زانج ييمو صاحب العلامات الذهبية في ذهن كل عاشق للفن,من ينسي كريستيان بيل في دور متعهد دفن الموتي الأمريكي وزيارته للصين زمن الحرب الصينية اليابانية عام 1937وإنقاذه اثنتي عشر عذراء صينية من الاغتصاب والتعذيب وتضحية بائعات الهوي النبيلات بأرواحهن فداء لاثنتي عشر زهرة صنينية بريئة في فيلم"زهور الحرب",درس في الحب والتآخي والتضحية وكل ما أقرته الأديان والفلسفات من معان سامية بحثاً عن جوهر القلب الواحد والروح الواحدة المقسومة بين بني البشر.
تحفته"فترة حياة"المقتبسة عن رواية بنفس الاسم للأديب الصيني يو هوا,زرت في ذلك الفيلم صين الأربعينيات والخمسينيات والستينيات بصحبة زوجين هما بطلي هذا الفيلم جياشين(جونج لي)وفوجي(يو جي) جسدت جونج لي في هذا الفيلم جمال المرأة الصينية وصلابتها وقدرتها علي مشاركة زوجها أعباء الحياة مع وفاء نادر في السراء والضراء كل ماتتمناه أن تحيا حياة هادئة,والفيلم يدور حول ثلاثين عاماً من حياة أسرة فوجي المقامر اللاهي وخسارته أمواله ومنزله بسبب إدمان موروث من أبيه علي لعب النرد,تضطرب حياته الشخصية في خضم اضطراب كبير مرت به الصين ومع كل مرحلة تتغير حياة الأسرة تبعاً للظروف المحيطة بها,الفن العظيم لا يؤخذ إلا من مصدره كيف يمكن تلخيص ألف ليلة وليلة أو مائة عام من العزلة أو قصة لتشيكوف؟!لذلك لن أسرد الأحداث طالما يمكن مشاهدتها في الشريط السينمائي,أريد حكاية تجربتي مع الأفلام...
أمام السينما أقف مسحوراً مشدوداً للممثلين والقصة والكادرات,أنسي الدنيا والواقع مع الأفلام الحقيقية,الأفلام المصنوعة لتحيا لا لتجمع الأموال,تتلاشي الموجودات من حولي وتغدو الخيال واقعاً معاشاً,رحلت بكاميرا زانج ييمو وأداء جونج لي ويو جي من مصر للصين,أثرت في التقلبات التي مرا بها بكيت عندما فقدوا الابن والابنة,واطمئننت علي المستقبل بوجود الحفيد الذي سيركب يوماً الطائرات والقطارات,تأملت مرور السنوات وتبدل الأحوال,تغيرت المذاهب والاتجاهات الاجتماعية ولم يبق سوي الحب والألفة بين المحبين,خسرا ما لا يعوض علي مدار حياتهما وظلت إرادة الحياة مشتعلة في روحيهما ونقلاها للمشاهدين في كافة بقاع العالم ممن تأثروا بالفيلم ,وعرفوا تجربة صينية أصابت في أشياء وجانبها الصواب في أشياء أخري وفوق الكل ظلت الصين وسكانها يعيشون وينتظرون غد جديد أفضل من الأمس,بوابته الوحيدة عمل اليوم.أمدني بحكمة الصبر وعزيمة الإصرار رغم كل العوائق,وبينما الحياة تزمجر في حياتهما كان وجودهما مع بعضهما أكثر من كاف لمواجهة ما تقذف به الدنيا في وجوههم من فقر وعذاب واضطهاد وظلم وفقدان.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق