الأربعاء، 3 يونيو 2020

ثلاثة وجوه تضحك


أصبح صوت باب المحل وهو يغلق إعلان عن حد فاصل بين حياتين,الأولي ممتلئة بالصخب والثرثرة والوساوس حول الوباء المستشري في الدنيا المعروف باسم كورونا,تحاك فيها القصص والنظريات حول الجاري في أنحاء الأرض والثانية هادئة صامتة يقضيها أحمد في منزله,ما زال يعيش مع أبيه وأمه وقد جاوز الثلاثين ولا عيب فيه يمنع من الزواج,المحيطون به يتعجبون من عزوفه عن الزواج,يستعجلون ليلة العرس والملابس الجديدة و"مبروك" والطعام في الفرح تعقبه ألوان من الحلوي والمشروبات,ثم انتظار الحمل ورؤية الأبناء,مما يعمق شعوره بالنفور من فكرة الزواج كلها,ألم يعد في القضية حب وتوافق وانسجام أين الثقة التي تجعله يأتمن امرأة علي نفسه وأن تأتمنه علي ذاتها, علي ما يذكر كان في الاقتران عواطف أسمي من فرش المنازل وتجهيزها.
في الأيام السابقة كان معظم وقته يتبعثر في المحل محتملاً جدال الزبائن وفصالهم,وغير مرة صبر علي صلفهم و قلة ذوقهم,في البداية كان يحزن علي حاله ومع الوقت تأقلم,وحينها عرف أنه هُزم وسيظل هكذا بين جدران الدكان يحلق علي المال كما كانت أمه تحلق علي الدجاج في العشة فوق سطح الدار,وكلما عاودته أحلامه القديمة في تغيير العالم والشرب حتي الموت من بحار العلم في الدول الأوروبية تعويضاً عن الجفاف القاحل في مجتمعه الذي أفسد حال بلاده وجعل حالها مائلاً,يسخر من نفسه ويصعب عليه ذاته,يتسرب تحت جلده الألم دون شفقة,يقبض علي قلبه لا يتركه قبل أن يبكي.
بين إغلاق المحلات وإعلان حظر التجول ثلاث ساعات,قبل المرواح يعرج علي كورنيش ترعة المحمودية,هناك تنقسم دمنهور إلي برين البر الرئيسي الذي يحيا فيه والبر الثاني الذي لم يزره في حياته سوي مرة أو مرتين,في تلك الساعة صعب العثور علي مقعد فارغ,الكل جاء لنفس هدفه,إطالة وقت مكوثه في الخارج قليلاً.
رصيف الكورنيش كله مزدحم,سار باتجاه كوبري إفلاقة حتي وجد دكة,فألقي عليها جسده بإنهاك,ينظر إلي زحام السيارات في الشارع,لم يشهد في حياته زحام في المدينة يفوق زحام هذه الساعة,علي مد البصر المرور متوقف,أخرج سيجارة وأشعلها متوجساً حذر أناس من التدخين لأنه يضعف مقاومة الرئة أمام غزو الفيروس,لكنه عاد وتذكر أن أناس آخرين مدحوا قدرتها علي تعزيز الدفاعات في مواجهته,وهو يخرج أول نفس ابتسم وكادت تفلت منه ضحكة عالية,لهذا الحد تبلبل كل ما يعرفه الإنسان واضطرب حاله,إذن كيف كان يتحدث عن الألفية الثالثة وماذا عن الذكاء الصناعي وإطالة الحياة وهندسة الجينات,كلها تهاوت أمام أصغر المخلوقات,بتر ضحكته شاعراً بالرثاء للجنس البشري كله ألسنة طويلة وأسلحة فتاكة في مواجهة بعضهم وعند الخطر الحقيقي لا حيلة لهم,ولم يجدوا سوي التباعد الاجتماعي ومنع المصافحة وأغراق الكفوف بالكحول!
علي مقربة سمع صياح ولدان وبنت,الولد الكبير أطلق طائرته الورقية فحلقت في السماء,بينما الأصغر طائرته معوجة عاجزة عن الطيران,البنت اقتربت من صاحب الطائرة العالية وبدأت تلعب معه,تمسك الخيط مرة وهو مرة,الصغير حائر,يرجع بظهره بسرعة عكس اتجاه الرياح لعل الطائرة ترتفع لكنه يصطدك بامرأة سمينة فيقع أرضاً والمرأة تصب عليه اللعنات,يتعثر في مشيه من ألم السقطة لكنه يحاول من جديد فيصطدم بأحمد ويقع عند قدميه,يساعده علي النهوض مبتسماً,يمد يده ويحمل الطائرة,يتأملها ويعود بذاكرته لزمن فات كان فيه مثل هذا الولد ليس له هم سوي طائرة ورقية في ذيلها خيط,فكر أن يسأل الولد هل يخاف من الكورونا أو سمع بها لكنه بدلاً من ذلك قال:
-لن يمكن لها أن تطير...الحل الوحيد أن تحل كلها ثم يعاد سبكها من جديد لتتوازن وسط الرياح القوية.
قفز الولد ناحيته وقف بجواره وقال في ضراعة وأمل:
-هل تستطيع إصلاحها؟
أحس نحو بشفقة عارمة,ربت علي رأسه وقال في حماس طفولي:
-لنحاول معاً.
حل الخيط واستبدل العيدان الخشبية بأخري وجدها في طائرة ملقاة بجوار المياه غارقة في الطين,وثب فوق السور وأحضرها,في ربع ساعة كانت جاهزة للإقلاع.
قام من مكانه ممسكاً بطرف الخيط,الطائرة تعلو نحو السماء وكلما علت دوت ضحكات الولد,فيحس أحمد بالامتنان وتعاوده الرغبة في تغيير العالم وهمس لنفسه"لابد أن يتغير" التفت للشرفة المواجهة للكورنيش تقف فيها فتاة بعيون عسلية كانت ترقب الموقف منذ بدايته,فوجدها مبتسمة في سعادة وهي تنظر للسماء,التقت نظراتهما فبادلها الابتسام الصافي,ثلاث وجوه تضحك علي الأرض وفي السماء يسمو ما كان يضطرب في السقوط,جرت البنت نحو الولد الصغير تبعها الولد الكبير وبدأوا يصخبون كلهم في وقت واحد.
شفق المغيب المنعكس علي السحب اليضاء وجمال الفتاة جعلاه يغمض عينيه لحظة ليثبت المشهد في ذاكرته,وعندما حل الليل,مضي في الظلام ترقبه عيون الفتاة حتي ابتلعته الشوارع المظلمة,دخلت ذات العيون العسلية من الشرفة وأغلقتها بإحكام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق