الخميس، 17 مارس 2022

الوتد بين السرد الأدبي والنسيج الدرامي

 

الوتد بين السرد الأدبي والنسيج الدرامي

فاطمة تعلبة هي بطلة الجزء الأول من رباعية"الوتد"لخيري شلبي,تحتل قصتها الصفحات الأولي,وتمتاز بالتكثيف السردي الذي يركز علي مواطن محورية من حياة أسرة كاملة,يرويها طفل صغير بعيون بريئة زادت السرد تألقاً وإبداعاً,حيث يستعرض الكاتب حياة أسرة تعيش علي النظام الأمومي,الرجال علي اختلاف وظائفهم بين الفلاح في الأرض والتاجر في السوق والراعي بين الغنم والجمال مع أحماله,والنساء علي اختلاف طبائعهن ومرتباتهن في بيت الحاجة تعلبة كلهم يحيون تحت جناح الأم الكبري,كحال المجتمعات القديمة في حضارات الشرق التي عاشت تحت عناية ربات اختلفت أسماؤهن باختلاف مركزهن الجغرافي,فهي إيزيس في مصر وإنانا وعشتار في بلاد الرافدين,وتلك الفترة من تاريخ البشرية التي بدأت مع سيادة الأنثي,كانت فترة نماء وخير وترابط كحال أسرة فاطمة تعلبة في مجتمعها الماترياركي,عكس المجتمع الذكوري القائم علي الحروب والسلب والاستيلاء كما عرفته تاريخ البشرية منذ سقوط حضارة الأنثي واستعلان حكم الرجال المتسم بالعنف والحرب,ففاطمة تعلبة في تصريحها الأخير أمام أبنائها تعلن حصاد كفاحها الطويل,لم تحك لهم كم معركة فازت بها,ولا كم أرض خربتها بل تكشف حسابها أمام أبنائها وأمام ضميرها وقد شارفت علي الموت..."ولكنكم الآن تملكون عشرين فداناً كلها من حسن تدبيري وشطارتي...وفوق هذا تملكون جماعتكم,تملكون كنزاَ كبيراً هو كونكم جماعة يغلق عليكم باب واحد ويرعاكم قلب واحد مثلما الرب واحد...وطالما أنتم هكذا تكفيكم اللقمة ولو كانت كسرة,والهدمة ولو كانت واحدة...غير أنكم لاتفهون هذا لأن هبل العكايشة متأصل فيكم ومن الصعب إقناعكم...وخير ن فيكم هو درويش,لأنه ابني بحق,لكأنه أنا مضاف إليه جدكم...لقد ورث طيبة قلب العكايشة وورث الباقي مني...إن جدكم ظل إلي وقت طويل غير راض لكنه أخيراً خضع وابتسم...وفي كل ليلة أقيم فيها فرح في هذه الدار حضرها ورأيته يشارك فيها مبتسماً فرحاً راضياً...ولم لا يرضي وهو يري داره قد عمرت بحق؟"

من تلك القماشة الأدبية نسج خيري شلبي 25حلقة درامية تعتبر من درة الإنتاج التليفزيوني المصري منذ عرض مسلسل الوتد عام 1996,ومازالت حتي اليوم شخصية فاطمة تعلبة كما ظهرت في المسلسل الذي كتب له خيري شلبي السيناريو والحوار عن قصته أحد أه الشخصيات في تاريخ الدراما المصرية,تأثر بها وتابعها كل الطبقات التي تحلقت حول تلك الأم الفلاحة الأصيلة التي تذكر وعيهم الجمعي بالزمن الأمومي الأول,فهي الحاكمة المطلقة علي 7أبناء وابنتين غير زوجاتهم وأبنائهم يعيشون في قرية شباس عمير في أربعينيات القرن الماضي,ومن خلالهم ينقل خيري شلبي صورة نابضة للريف المصري في تلك الفترة,بدراية هائلة وفرتها له خبرته العريضة في الحياة كما سجلها في رواياته وقصصه المتعددة,فهو متمكن من عالم المهن ومصطلحاتها-وقد تنقل هو شخصياً فيها مكافحاً في سبيل الرزق-من الزراعة في الحقل للتجارة في السوق إلي الخياطة في الدكاكين وحتي طرق الطهي وتقاليد الزواج وطقوسه,وتجهيز عش الزوجية,وهي أنماط معيشية انقرضت من الريف المصري لكن عرض المسلسل يبعثها حية ن جديد تذكرنا بما كان عليه الأجداد في زمن ولي,بين كل ذلك يربط العام بالخاص,الحرب والسياسة الخارجية للدولة,بالحرب والسياسة الداخلية لفاطمة تعلبة بإدارتها لبيت العكايشة,تحت ستار ذكوري يمثله ابنها دوريش كسلطة تنفيذية,بعدما توراي الأب من الوهن والشيخوخة.

تدور حوارات درامية غاية في المتعة والحرفية,فالدراما التليفزيونية عمادها الحوار بين الشخصيات,والمعمل المتجدد مهما مر الزمن يحافظ علي استمراريته من رشاقة الحوار واللاءمة اللغوية للشخصيات التي تنطق بمكنون ذاتها بناء علي تكوينها الدرامي وتتسق أفكارها مع تركيبها النفسي والاجتماعي,وخيري شلبي شحن لسان الشخصيات بحوار بليغ يستمد روافده من العامية المصرية المشبعة بتراث هائل من المفردات والتشبيهات والاستعارات العبقرية التي جعلتها لغة في حد ذاتها لها قواعدها وظزاجتها الفريدة علي الألسن,وكل شخصية لها طابعها الخاص في الحوار,ففاطمة تعلبة تختلف عن مريم ومريم لها خصوصية تتمايز عن بهية وبهية غير بسيمة,وفي عالم الرجال نبرة دوريش وألفاظه بعيدة عن عبد العزيز ومخالفة لعيسي,وعيسي وعبد العزيز غير طاهر وهكذا...تختلف كل جملة عن الأخري في مشاهد المسلسل مما أعطاه الحيوية الآسرة التي كانت تسيطر علي الدراما في العصر الذهبي للتليفزيون المصري,وهو مانفقتده الآن وسط ذلك الزخم من الأعمال المفتقدة للهدف الشعوري والرؤية الفنية.

فاطمة تعلبة تنطق بالحكم في ثوب بديع من لغتنا المصرية زادتها رونقاً الأداء المخضرم لهدي سلطان,كالعبارات المحملة بالمعاني التي قالتها لابنتيها بهية وبسيمة وهن يبحثن في موضوع زواج عيسي"حاكم البني آدم مننا يا ولاد عشان تعرفوا حقيقته لازم تتحكوا فيه,إذا كان داهن نفسه بوهية هايعوصك,إذا كان علي لونه الأصلي هايبان...أصل البوهية اللي البني آدم بيدهن نفسه بيها عمرها ماتنشف أبداً,بتفضل طرية علي طول,حتي لو نشفت لو اتحك في غيره أو مشي في الشمس يتقشر وتنها نازلة ويبقي منظره مقيح"كلام يفهه الكبير والصغير,نابع من قلب اعترك مع الحياة وفهم غوامضها,يحمل قمية دلالية تخص آلية الحكم علي البش-إذا كان من حقهم أصلاً أن يحكموا علي بعضهم-فالمظاهر التي نجري ورائها ونستميت للحصول عليها ليست سوي"بوهية"ستزول عاجلاً أو آجلاً والإنسان لا يمكن معرفته سوي بإزالة ذلك الطلاء,لأنها ستنهار علي ي حال وعندها سيبدو الجوهر الحقيقي إما مجيداً أو"مقيح".

نعيش مع ذلك المجتمع الهيراركي الصغير حيث الأم علي قمة السلطة والأب علي الهامش,والابن الأكبر درويش يتصرف تحت سطوة أمه,يصف خيري شلبي في الرباعية حاله عند إحساسه بقرب رحيل أمه"وانزوي عمي درويش في ركن بجوار البوابة يفكر وقد بدا عليه الهزل مرة واحدة,حتي أننا جميعاً كباراً وصغاراً فوجئنا به علي هذه الحالة فانزعجنا,إذ بدا أن ثيابه قد اتسعت عليه وأصبح بداخلها كعود الحطب,متهدل اللامح شاحب الوجه ناشف الريق متشقق الشفتين,وكان الزوار قد بدأوا يتوافدون علي دارنا بلا انقطاع فيجلسون ويقولون لعمي درويش:"مالك ياراجل موهم كده ليه...هي الدنيا انهدت ولا إليه...الناس كلها بتموت واحتا كلنا مصيرنا الموت"فلا يرد ثم يودعهم ويستقبل غيرهم ولا يتكلم كثيراً,وكل ساعة أو أكثر يدخل علي أمه فيقلبها ويحاول محادثتها.ثم يعود أكثر شحوباً وقد فقد الكثير من هيبته وبدت عصاه كبيرة عليه غير متناسقة معه..."درويش يحيا علي حس أمه حرفياً,لذلك يموت قبلها فعلياً بمجرد شعوره بدنو أجلها كأن سبب وجوده في الحياة انعدم.

درويش كإخوته يدركون جميعهم قيمة أمهم بجانب الحب البنوي الذي يكنونه لها يعرفون أنها وتد البيت وراعية القيم الأسرية من ترابط وحبة وحنان وتكافل بين أفراد البيت الواحد,والأم لها قيمة عظيمة في كافة الثقافات والديانات وفي الأمور الروحانية يعرف الإنسان باسم أمه فهو فلان ابن فلانة,فصلة الرحم هي الرابط بين الأسر والعائلات فالأنثي هي الأساس الجامع للبشرية,مثلما أدركت كل الحضارات والجنسيات واشتركت بتقديسها للأمومة واجتمعت علي اسم واحد لها"ماما"كما نطقها نادي السومريون الربة ننخرساج,وبقيت القبائل في شبه الجزيرة العربية تحمل أسماء إناث فيجتمع الرجال تحت راية الأنثي في تمثيل واضح للحال في الحضارات القديمة التي دبت علي الأرض في فجرها الأول.

يقدم خيري شلبي تفاصيل عالم فاطمة تعلبة في تأن وتمكن درامي,فكل حلقة لها موضوع واسم خاص,يتشكف من خلالها ذلك العالم الصغير الكائن في شباس عمير تحت سقف الحاجة تعلبة التي تثور ثورة عارمة لأت الحدأة سرقت ثلاث كتاكيت,فتستخرج البندقية ولا تهدأ حتي تنتقم منها!ليست حاكمة وراعية فحسب بل محاربة إذا اقتضي الأمر,لذلك تحمي بيتها من الغريب والقريب بكل ما تملك,كما حدث أثناء حريق إحدي القري المجاورة فتستخرج البندقية من جديد دفاعاً عنهم وفي قضية عيسي أمام المحاكم تلجأ للمحامي,وفي مرض بسيمة تسخر قدراتها العلاجية التي جعلتها قبلة أهل قريتها والقري المجاورة في سبيل شفائها.

نتأمل بعين سارد له باع طويل في عالم الأدب المكتوب تنامي حركة مجتمع القرية بتحفيز من فاطمة تعلبة,المرأة القوية صاحبة النفوذ الهائل علي أهل القرية من أصغر فرد فيه إلي المأمور والعمدة ونائب البرلمان,فنري طبيعة الحياة الانتخابية والدور التنموي لتلك الأسرة في محيطها ببناء المستشفي لخدمة الفلاحين المقطوع عنهم العناية الطبية الحقيقية,وشراء ماكينة الري وتجفيف البرك والمستنقعات وحل النزاعات العائلية,القصة الأصلية ليست حافلة بالتفاصيل كما عرضها خيري شلبي في عمله الدرامي,لقد فهم جيداً طبيعة الوسيط المختلف عن الأدب,فأضاف شخصيات وأحداث وخطوط درامية كاملة,فأبرز شخصية عيسي الابن المتمرد وبني علي قصته الخاصة عالم درامي كامل له أبعاد واتجاهات أوسع مد لها ثنايا وتفريعات ليسبك الخلطة الدرامية جيداً,وابتكر شخصيات العمدة وابنه والنائب وشيخ الخفر والمقاول وغيرهم ليلقي الضوء علي الحياة الخارجية والداخلية للأشخاص والقرية ذاتها,بما يعتريها من صراعات ومواقف تثير الحزن الكئيب كالخط الدرامي الخاص بسكينة المحرومة من الزواج بعيسي لكن النصيب والإرادة يجتمعان علي تزويجهما بعد زمن وتجارب قاسية لكليهما,أو الابتسامات التي تفجرها الحوارات الضاحكة سريعة البديهة بين أهل الدار,في عالم القرية الخارجي فاطمة تعلبة هي أيضاً الوتد فالكل يدرك قيمتها,بل الأبناء ينسبون أنفسهم لها بفخر كعلامة علي توغل السلطة الأمومية فيهم كقول عبد العزيز"ده أنا عبد العزيز عكاشة أخويا الحاج درويش وأمي فاطمة تعلبة"نشهد السريان الزمني يتدفق بنقلات بارعة دون الحاجة للتطويل والتفصيل الممل كحرفي ماهر يدرك متي يحكي ومتي يترك خيال الجمهور يسد النقص,ودون الحاجة إلي اختراع شخصيات تفرض لي الأحداث وتتناسق الحبكة الرئيسية مع الخطوط الثانوية بمنطق فني درامي,لتخلص لنا لوحة"كرونوتوبية"بحسب نظرية الناقد الروسي ميخائيل باختين,فيها يجتمع الزمان والمكان ليشكلا مصائر الأفراد مع تدقيق في مظاهر الحياة الاجتماعية والبيئية كالعادات والتقاليد واللغة,وخيري شلبي ينمي القصة ويعمقها بالامتداد المدروس لا بالتشعب العشوائي,فلا نتوه وسط الأحداث علي غير هدي,ولا يتشتت ذهن المشاهد لحساب حشو يسبب الترهل الفني والانسداد الفكري,ولو كان قيض لخيري شلبي أن يستمر في كتابة الدراما ويداوم عليها لكان أبدع حتي لو تشعبت الأحداث وازدادت عدد القصص ,فذلك الشكل الدرامي له جماله والكثير من الأعمال الأجنبية التي استمتع بها المشاهد العربي كانت متمردة علي قواعد أرسطو, فساحت بالمشاهد بين عدة أزمنة وحشد من الشخصيات من عوالم مختلفة وزارت أماكن متعدد لكنها علي حافظت علي إيقاع موحد يضمن تماسك الأحداث وبناء درامي واضح حتي ولو بدت الحبكة معقدة بعض الشئ.

تلك الشخصية الرئيسية في"الوتد"عصارة حضارة طويلة ممتدة,وعيها موروث من جينات قديمة الأزل ومكتسب من الخبرة الحياتية,لها سياسة حكيمة تواجه بها ما يعتري أسرتها,ولها فلسفة في تنظيم حياتهم,فمثلاً عندما يقرر الأبناء مساعدة بعضهم البعض في أعمالهم يرفض الحاج دوريش تربية فاطمة تعلبة هذا القرار الأهوج ويعبر بلسان أمه التي يُنسب إليها بين الناس"تبقي فوضي,لما كل واحد يشتغل شغلانة مش بتاعته تبقي فوضي...وبعدين أني عارف انتوا بتعملوا كده ليه فركوا يعني بتساعدوا أمكم لا أنتوا كده بتقتلوها...أني هافهمكوا ازاي انتوا عارفين أحسن حاجة عملتها أمكم فيكم؟هي النظام إن كل واحد يبقي له شغلة يشتغلها,ويبقي مسئول عنها من طلعة النهار لحد الليل,يعني انت ياصادق لما تقف تزرع وتقلع طول النهار لحد الليل يبقي مش هانلبس هدمة جديدة؛لأن انت اللي بتجيب لنا القماش عشان نفصله,بتجيب لنا الحاجات الحلوة اللي ما عندناش فكرة عنها من البندر نقوم نتمدن وهكذا كل واحد فيكم...ونصيحة مني يا أولاد كل واحد فيكم بيشتغل شغلانة يرقد فوقيها مايسيبهاش أبداً وإلا هي اللي هاتسيبه وتتخلي عنه,ومايبقاش له لازمة ويبقي عالة علي نفسه"وتستمر فاطمة تعلبة في تجذير الوعي بنظام العمل العام في نفس الحاج دوريش برفضها ترشيح نفسه للعمودية,بتحليل نفسي واجتماعي وسياسي للحاكم والمحكوم"انت عمدة من غير الحكومة,الناس بتيجي تشتكي لك من العمدة واللي انت عايزه بتعمله,كلمتك ماشية عالكبير قبل الصغير,لكن لما تبقي عمدة الهيبة اللي انت فيها العمودية هاتحرمك من حلاوتها...الناس بتسمع لكلمتك وتمشيها لأنها مقدراك لكن بما تتبقي عمدة رسمي الناس اللي مقدراك هايخافوا منك,واللي كانوا بيأمنوك علي سرهم عشان انت منهم عمرهم ما هايأمنوك علي حاجة عشان انت خلاص بقيت من الحكومة...تحب يادرويش الخلق يحترموك بأمر الحكومة؟...حضرة المأمور بيحترمك لأنك الحاج دوريش عكاشة,يكلمك بأدب ولما ينده عليك ينده لك بأدب لكن ساعتها بقي لما تبقي موظف عنده ورقبتك تحت سكينته الأمر مايسلمش,يمكن يشخط فيك قدام اللي يسوي واللي مايسواش...هي دي الحقيقة يادرويش وعليك انك بقي تختار"

يفرد خيري شلبي حلقة خاصة لوباء الكوليرا الذي اجتاح القطرالمصري نهاية الأربعينيات,فيرسم صورة لفرط صدقها ودقتها في تصوير الأحداث استعدناها في الفترة الأخيرة لشبهها بحال الناس أثناء وباء الكورونا,وبدت فاطمة تعلبة الوتد الصامد القادر علي صد نكبات الزمن وحلها كما تحل الأزمات الشخصية لأبنائها من زواج وطلاق,فوقفت حاسمة تعلن الحجر الصحي لأفراد الأسرة كاملة من الكبير للصغير,بوعي صادر من موهبتها الكبري في علاج العيون والآذان كما وصفها المؤلف في قصته وظهرت في الحلقات الأولي,تقف وسط الدار تلقي توجيهاتها الصحية كالسلطة العليا للجميع,وتتمكن من العبور بهم وسط طوفان الوباء وظروفه النفسية والاجتماعية البشعة التي عشنا مثيلها منذ 2020,وفي خضم تلك المعمعة الضارية والموت الجارف حاصد الأرواح,تأبي الحياة إلا أن تبزغ فتتطور الدار بلمسة مدنية بثتها فيها عزيزة زوجة عبد الباقي العضور الجديد في دار العكايشة,فتظهر ألوان جديدة من الملابس والسلوك جاءت بها من حياتها خارج القرية,وعلي غير العادة تسمح فاطمة تعلبة لتيار التغيير خفيف الروح أن يسري في ملكوتها مادام لا يمس القواعد الأساسية التي يستقر علها المنزل,ومنها عدم زيارة أهل الزوجة لابنتهم بعد الصباحية,ورغم ما يبدو في الظاهر من قسوة ذلك الفرمان التعلبي إلا أنها تضع يدها بفطنة علي أهم ما يمس استقرار الحياة الزوحية,بتدخل الأهل في معيشة ابنتهم مع الأخذ في الاعتبار أنها في دار كرم وأصل فتمنع المشاكل من بابها,لقد حلل كاتب السيناريو والحوار في عمله هذا علاقة الرجل بشريكة حياته,ومسائل الزواج والطلاق بحكايات مأخوذة من المواقع المعاش, رغم أن خيري شلبي صرح من قبل أنه يكتب عن عالم ينتهي مع تيار الحداثة والتغيير والتكنولوجيا,بقيت مشكلات الزواج واحدة في كل عصر وما عرضه في علاقات أبناء فاطمة تعلبة مع زوجاتهم يؤرق الأسر المصرية حتي الساعة وسيظل لأمد طويل لأنه ناقش مشكلات جوهرية لا تنقضي بمدة محددة أوينحصر وجودها في مكان بعينه.

الحلقة الأخيرة تستدر الدموع بالوداع المهيب المؤثر للأم والابن,النهاية المحتومة لابن آدم,الكارثة لا يدفعها دافع ولا يمنعها مانع انهد الجدار القوي للدار كما تراءي لبهية في حلمها, رحلت تعلبة وسبقها درويش حزناً علي فراقها الوشيك...أدار حكايتنا الدرامية المخرج أحمد النحاس وجسدها نجوم أبدعوا في أدوارهم المكتوبة بصدق عال وإحساس حقيقي كحال الشخصيات المصنوعة من لحم ودم دون اصطناع أو تزييف, علي رأسهم هدي سلطان ويوسف شعبان مروراً بجيل الوسط كفادية عبد الغني وعبد الله محمود ونهاية بالوجوه الجديدة وقتها كحنان ترك وانتصار,أسبغوا الشعور الحي علي النص الدرامي وحولوا الدار والجرن والسطح والزريبة وبيت فاطمة تعلبة ككل إلي علامة خالدة من علامات الدراما المصرية,هزوا مشاعر المشاهد مع قرب الختام لحياة فاطمة تعلبة ممثلاً فيها عصر كامل وزمن لن يعود بعدما أرست قيماً ومبادئ كان مجرد التشكيك فيها والتمرد عليها إيذاناً بانقضاء دورها في الحياة,واستقبل المجتمع ككل حياة جديدة مع بدء الخمسينيات ومازال يتبدل ويتحول ولن يستقر لأن الحياة لا تعرف التوقف والجمود,ومع المشهد الأخير بصوت الطفل الراوي شوشة بعد العويل واللطم علي رحيل الحاج دوريش"وبعد ما أبويا الحاج درويش مات مفيش بعدها بأسبوع حصلته ست الحاجة فاطمة تعلبة وسابونا في الدار وكأننا مش عايشين مع بعض محدش بيكلم حد ماحدش بيسأل عن حد...لأن ست الحاجة فاطمة تعلبة دي كانت أحسن أم...الله يرحمها...حد فيكم سمع حكايتها في البر كله؟!"ندرك قدرة الدراما والفن علي التأثير في المشاعر والأفكار,وكيف لحكاية بسيطة عن أم في الريف المصري تتحول إلي عمل فني فريد وضع أسسه خيري شلبي ككاتب للسيناريو والحوار وسار عليها فريق عمل مشرف استطاع بإمكانيات بسيطة صناعة دارما حقيقية أمتعتنا وعلمتنا كمشاهدين أو هواة كتابة درامية شربنا درس بليغ من كاتب حقيقي عاش ليحكي عن مئات الشخصيات وواجبنا الآن أن نحكي عنه.

 

محمود قدري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق