الاثنين، 10 أبريل 2023

نداء عند المنعطف

                        نداء عند المنعطف

 انتظرت نهال وأمها في الشارع المزدحم يرقبان المارة، حتي ظهرت امرأة في الخمسينيات من العمر تلهث من الحر، وعندها أكدت الأم علي ابنتها للمرة المائة منذ صباح ذلك اليوم: 

-كوني صبورة معها، إنها طيبة ولكنها ثرثارة!

 وعندما اقتربت المرأة رسمت نهال ابتسامة باهتة مقلدة الأم، التي ابتسمت بحرارة وهي تحتضن المرأة حتي نفدت رائحة عرقها إلي أنفها:

 -إننا نسبب لك المتاعب يا ست أماني... يعلم الله أنني أتمني لك الصحة والعافية وطول العمر. مدت نهال يدها بالسلام، فتلقتها أماني بين أصابعها ببرود، وسرعان ما كان الثلاثة يشقون زحام الشارع، حتي وصلوا لمحل أدوات منزلية علي درجة من الفخامة، قام صاحب المحل لملاقاتهم وفرجهم علي كل ما عنده، اختارت نهال وأمها طاقم كئوس، وجلس الرجل إلي مكتبه كي يكتب لهم فاتورة البيع، وجاء دور أماني في الفصال، تعنت الرجل في البداية، فصرفت نهال وأمها إلي آخر المحل، فوقفت كلاً منهما تحدق في الأرض منكسة الرأس في جمود، كأنها تلميذة خائبة لا تجرؤ علي النظر لزملائها، وقالت للرجل بلهجة لم تخل من فخر وتباهٍ: 

-إنني أشتري لتلك العروس الغلبانة بعضاً من جهازها، لقد كانوا أسرة من الأثرياء يعيشون في بحبوحة ورغد، لكن جار عليهم الزمان وجري عليهم تبديل الحال الذي لا يفلت منه حي في هذه الدنيا، فساعدها معي وستدعو لك. كان الرجل رقيق القلب يخشي تقلب الأحوال، ويري بعينيه حال الأسر الفقيرة بحكم مهنته التي تعرضه للعديد من القصص المشابهة، ولديه ابنة في مثل سن نهال، فهاودها إلي أقصي درجة، ولاحت منه نظرة لنهال وأمها، رأي البنت فارعة القوام جميلة الوجه نضرة البشرة ترتدي ثياباً أنيقة، فتشكك للحظة، فطنت أماني لما يدور في رأسه فقالت:

 -لا تجعل المظاهر تخدعك، إنها بقية من العز الغابر. كانت نهال وأمها تستمعان إلي كلام المرأة بقلب كسير، ولم يلحظ الرجل وهو يتأملها، أن البنت وجهها تضرج بحمرة منبعها الإحراج الشديد، والذل الذي تشعر به يسري في عروقها، في موقف تتعرض له لأول مرة، اعتادت في حياة والدها أن تشتري مسلتزماتها من أرقي المحال في المدينة، ولم يخطر لها علي بال أن تتحول إلي فرجة تقتحمها عيون الناس لتكتشف مدي فقرها وإن كانت تستحق الصدقة أم لا، أما الأم فكتمت أحزانها الملتاعة في قلبها ولم تفرج عنها بأي تعبير، بل ظلت في جمودها يظن من رآها أنها شاردة الذهن، فقد اعتادت ألا تبدي أوجاعها المرضية أو النفسية بأي شكل حتي لا تزيد من هموم ابنتها، وفي سرها تلعن الساعة التي وافقت فيها أماني علي عرضها بمساعدتها في جهاز ابنتها انتظاراً لعريس قد لا يجئ أبداً وهم أسرة تصارع الجوع ولم تعد تأمل سوي في لقمة العيش، ظنت أن الأمر سيتم دون حاجة لتعريتهما أمام رجل غريب. تمتم الرجل متنهداً في أسي وهو يدون نسبة الخصم في الفاتورة:

 -ربنا يسترها... إن دوام الحال من المحال. اخترقت تنهداته سمعها، ورأت أماني تدس يدها في حقيبتها وتخرج النقود، ونظرة الاستعلاء والرياء ترقص علي وجهها المتجعد، فصاحت نهال بصوت جاهدت لتتحكم فيه لكنها أخفقت، فخرج شرساً محشرجاً يملؤه الغضب والعنف:

 -لتوفري نقودك، ولتوفر بضاعتك لزبون أفضل لم يسقط من عز الثراء إلي مهانة الحاجة، إني لا أريد شيئاً من أحد. هرعت إلي الخارج عائدة للشارع المزدحم من جديد، ومضت في تيار السائرين وهي تمسح دمعة ساخنة انحدرت علي وجنتيها، وأسرعت في سيرها مهتاجة المشاعر حتي غابت عند المنعطف، دون أن تلتفت ولو مرة لنداء أمها المتواصل بصوتها المفطور من البكاء.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق