البحث عن الطريق الأخضر
للتقدم الصناعي وجوه سلبية متعددة أثرت علي النظام البيئي،و أوجبت علي المجتمع البشري المعاصر التفكير في سبل تفاديها قدر الإمكان، كي يقدر علي الاستمتاع بالرفاهية والراحة اللتين تقدمهما له الآلة، وفي نفس الوقت ليحافظ علي بيئته من الفساد. بعد الثورة الصناعية في بلاد الإنجليز في القرن الثامن عشر طنّت الماكينات في كل مكان، وذابت الأيدي العاملة وسط ذلك الطنين، مما أدي لظهور تحولات علمية وتقنية، وبدأت البيئة تتشكي من التلوث وإهدار مواردها وصمّ الإنسان أذنه عن شكواها، حتي جأرت بها عقب الحرب العالمية الثانية، ومع ازدياد المشكلات البيئية، التي واكبت سعي الإنسان لبناء الحضارة الحديثة، أصبحت أمراضها لا غني عن معالجتها بعدما شعر العالم في ثمانينيات القرن الماضي، يشعر بوجود خطر مصيري يتهدده لم تعرفه الأجيال السابقة، عندئذ ظهر مفهوم"التنمية المستدامة" لأول مرة في تقرير اللجنة العالمية للبيئة والتنمية برئاسة رئيسة الوزراء النرويجية في ذلك الحين جرو هارلم برونتلاند وقد حمل هذا التقرير المنشور عام ١٩٨٧ عنوان"مستقبلنا المشترك"، لتصبح التنمية مدرسة للتفكير والإدارة خاصة مع عقد قمة الأرض في البرازيل عام ١٩٩٢ بمشاركة ١٧٢دولة وحوالي ٢٤٠٠شخص يمثل منظمات غير حكومية.
مفهوم التنمية المستدامة وليد علمان هما الاقتصاد economy والبيئة ecology ، العلمان مشتقان من نفس الأصل في اللغة اليونانية حيث يبدأ كلاً منهما بـeco أي البيت فالـ economy يعني إدارة مكونات البيت أما الـ ecology دراسة مكونات البيت، وفي لغتنا العربية (استدام) من جذر (دوم) ومعناه طلب الدوام والتأني فيه مع المواظبة عليه انتظاراً لما يكون منه، ذلك المعني اللغوي مرتبط بالمعني الاصطلاحي، لأن عملية التنمية تحتاج لاستمرارية وديمومة مع الدأب والصبر كي تتجلي نتائجها البراقة.
للتنمية المستدامة عشرات التعريفات أبرزها ما أوردته اللجنة العالمية للبيئة والتنمية عام ١٩٨٧بأنها"التنمية التي تلبي حاجات الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال المقبلة في تلبية احتياجاتهم" وعرفها قاموس وبيستر علي أنها"التنمية التي تستخدم الموارد الطبيعية دون أن تسمح باستنزافها أو تدميرها جزئياً أو كلياً" أما وليام رولكز هاوس مدير حماية البيئة الأمريكية قال عنها" العملية التي تقر بضرورة تحقيق نمو اقتصادي يتلاءم مع قدرات البيئة".
يمكن إجمال أهداف التنمية المستدامة في النقاط التالية:
1-تحقيق حياة أفضل لسكان دول العالم.
٢-احترام الطبيعة كحاضنة لكافة أشكال الحياة.
٣-رفع وعي الجماهير بالمشكلات البيئية المعاصرة وتقديم المعلومات الكافية له.
٤-الاستغلال العقلاني للموارد، دون إفراط أو تفريط.
5-استخدام ما أفرزه عالم التكنولوجيا لحماية البيئة وتحقيق أهداف المجتمع، وقد تنبه لتلك الإمكانيات التكنولوجية الحالية الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بتأكيده أن الذكاء الاصطناعي يمثل فرصة تاريخية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، معلناً أن الأبحاث أثبتت أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في تسريع تحقيق ما يقرب من 8٠٪منها.
رغم أن التنمية المستدامة حلم لكل شعوب العالم، إلا أن الدول الكبري تسعي لتحقيق حاجيات شعبها علي حساب الشعوب النامية ما يخل بالتوازن العالمي، فالبيئة تجمع كل البشر لكن الأرض والحدود تفرقهم، فمع ازدياد الرقي والتقدم التكنولوجي المهول الذي دفع الإنسان لحلم السكن في الفضاء، ومحاولات تحقيق الخلود بالشباب الدائم والقفزة التاريخية لإمكانيات الذكاء الاصطناعي، مايزال عليه محاربة الجوع والاستغلال المريع والظلم الفاحش الواقع علي الضعفاء، وهكذا تغدو التنمية المستدامة ضرورة وسلاحاً في مواجهة نقص الموارد وتعميم الفائدة والخير علي كافة أهل الأرض.
للتنمية المستدامة ثلاث ركائز أساسية تمثل جوهر الحياة الفردية والاجتماعية هي الماء، الغذاء، الطاقة، أوجه الترابط بين تلك الركائز الثلاثة متداخلة وديناميكية، المياه والطاقة مدخلات أساسية لإنتاج الغذاء، ومن ناحية أخري يمكن استخدام المياه لإنتاج الطاقة الكهرومغناطيسية كما تعد الطاقة ضرورة لضخ المياه ومعالجتها، والغذاء ما يمد الجسد البشري بالقوة لاستخراج الطاقة، أي أن كل ركيزة منهما تعتمد علي الأخري.
تم صياغة مصطلح ترابط المياه والطاقة والغذاء من قبل منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة(الفاو)، في إطار ما أثير من جدل حول التنمية المستدامة التي تعترف بتضارب الأهداف والمصالح بين الجماهير والبيئة، وتسعي لتحقيق حل متوازن يساعد الإنسانية لتحقيق مراميها وفي نفس الوقت لا يخل بالتزاماتها حول البيئة.
كان لمصر سبق الريادة في مشاريع التنمية المستدامة في المنطقة، بالإعلان عن برنامج لمشروعات الترابط بين الماء والغذاء والطاقة(نوفي) عندما استضافت مصر مؤتمر المناخ co27 عام ٢٠٢٢، بمدينة شرم الشيخ لمواجهة التغيرات المناخية وما تتسبب فيه من عواقب وخيمة، يهدف البرنامج لتحسين مرونة الإنتاج الزراعي بتحديث الممارسات الزراعية ونظم الري، ونقل التجربة المصرية للدول النامية وتسهيل المشروعات والاستشارات الفنية، بالإضافة لما تتخذه مصر من إجراءات حثيثة في مجال التنمية المستدامة منذ سنوات،وفي منطقتنا أيضاً مشروعات كبري كمشروع نور للطاقة الشمسية في المغرب، أحد أكبر المحطات للطاقة الشمسية في العالم بعد المحطات الأمريكية الخمس ومحطة سولابين الأسبانية، حيث يساهم في إنتاج الكهرباء النظيفة والتقليل من الاعتماد علي الوقود الأحفوري، وذلك ضمن مشروع مجمع ورزازات للطاقة الشمسية المتجددة الذي يهدف أن يكون حديقة للطاقة الشمسية تنتج ٥٠٠ميجاوات،ومشروع نيوم في السعودية الذي يعد نموذجاً للمدن المستدامة فهو يعتمد بالكامل علي الطاقة المتجددة، ويقوم علي خمس محاور:التقنية، الطبيعة، المجتمع، الاستدامة، العيش الرغيد، تلك المشاريع تتضح أهميتها البالغة بالعلم أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعتبر من أكثر المناطق التي تعاني من الشح المائي في العالم، 5٠مليون شخص في البلاد العربية محرومون من إمدادات الطاقة، وحوالي ٧٣٣مليون شخص في العالم واجهوا الجوع عام ٢٠٢٤.
الأرقام والإحصائيات المحزنة عن مدي البؤس الذي يقبع فيه ملايين البشر حول العالم، يجعل التنمية المستدامة ضرورة لا غني عنها للأجيال الحالية والمقبلة، فهي الطريق الأخطر الذي سينقذ الملايين مما يعانوه من فقر وجفاف وشح في الماء وندرة في الغذاء، عن طريق تدبير حكيم لبيتنا الكبير الذي نسكن فيه جميعاً أياً كان موقعنا علي الخريطة أو لون جلودنا أو لغات ألسنتنا، فما يحدث في أي مكان علي كوكبنا يتردد صداه في كل النواحي، وبالتنمية المستدامة ننهض سوياً لنلامس حياة أرقي وأكثر عدلاً وإنتاجية، وتتزايد المشروعات المبدعة المفيدة في كافة المجالات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق