السبت، 13 سبتمبر 2025

دماء علي الوردة الصغيرة


دماء علي الوردة الصغيرة
مست أشعة الشمس الحانية وجه الجنرال ويكوب، في صباح يوم الثلاثاء ٣١مارس ١٨٠٧،لقد بدأت بشائر الربيع تهل وصفا الجو وسري النسيم محملاً بروائح الزهور، ركب جواده بصحبة العميد ميد ليلقي نظرة أخيرة من فوق تل أبو مندور علي مدينة رشيد النائمة في حضن النيل المتدفق في نعومة، تأملها وملأ صدره بالهواء وتنهد قائلاً لميد:
-يا لها من مدينة جميلة إنها حقاً روزيتا...وردة صغيرة.
ابتسم ميد:
-بعد ساعات قليلة ستكون تلك الوردة في عروة سترتك سيدي القائد، تزين بها تاريخك العسكري المجيد.
أعجبت كلمات المديح تلك ويكوب، فضحك ليداري قلقاً اعتمل في نفسه وهو علي التل ينظر للمدينة:
-لكن ألا تري إنها هادئة... هادئة أكثر من اللازم؟
بعد دقائق تقدم الجنرال صوب البوابة الغربية للمدينة، مرتدياً سترته العسكرية الحمراء وسرواله الرمادي، وجواده يصهل بتحد كأنه يعرف من هو فارسه، يحيط بع قواده وجنوده وعلي يساره النقيب بروس ينتفش غروراً، ففي سن صغيره تطأ أقدامه أرض مصر، وربما يعين قائداً للقوات الإنجليزية في يوم ما ومن يدري ليس بعيداً أن يدرس التلامذة في لندن سيرته الحربية في كتبهم المدرسية، ويتقدم الجميع جندياً أشقر الشعر قوي البنية يحمل بين يديه علم بريطانيا، وسار الموكب يقطع شارع دهليز الملك، وكلما تقدم في سيره يزداد الجنرال ويكوب قلقاً، وهو ينظر للقصور العملاقة والمنازل الضخمة ترتفع عالياً في شموخ، هنا يسكن علي بك السلانكلي حاكم المدينة وعثمان أغا قائد الحامية التركية مع أهالي المدينة، لم يكن ويكوب ببصيرته العسكرية يراها منازل سكنية، بل قلاع حربية ترتفع نحو السماء منذرة ومتوعدة، أبوابها مصنوعة من خشب سميك قوي، صهرت بداخله قطع من الحديد الصلب يزيدها مناعة واستحكام، ونوافذ الطوابق الأرضية مسيجة بأسياخ حديدية، أما النوافذ العليا فضيقة يستحيل اقتحامها من الخارج، وتلك المشربيات الجميلة المزينة بقطع الأرابيسك متقنة الصنع، في أسفلها فتحات تكشف من تحتها وتجعله هدفاً سهلاً... ومن جديد يلتفت فيري وجه بروس المغرور، وملامح بتروتشي القنصل الإنجليزي المتعالية، فوقف وأمر باستبقاء ٢٠٠جندي في عند مدخل المدينة، ولم يتحرك إلا عندما تأكد أنهم أخذوا مواقعهم، ورفع الجندي جون رأسه للنوافذ لعله يري امرأة حسناء تطل منها.
كلما توغل في المدينة نشر عدداً من الجنود، وكاد يسأل عن موعد استيقاظ أهل المدينة القنصل اللاهي بحديث ضاحك مع أحد الضباط سمعه يقول فيه:
-ألا يشبه ذلك نزهه علي ظهور الخيال في يوم ربيعي دافئ، داخل مزارعنا في إنحلترا؟!
لكن سرعان ما جاءه الجواب وهو يري عدداً من السقائين يملأون قربهم من مياه النيل، كي يبدأوا بتوزيعها علي المنازل، رجال نحيفة أحسادهم تنوء كواهلهم بالقرب الثقيلة، لكن في وجوههم السمراء صلابة غريبة، صلابة من صهرته الدنيا في نارها الموقدة فخرج يحمل في ضلوعه لهباً محرقاً مكبوتاً بين جوانحه، يحملون أثقالهم ويتغنون بصوت أجش منهوك من التعب، فأعاد له ذلك الصوت الممتزج بزقزقة العصافير بعضاً من الطمأنينة، وقال:
-إنها ليست إلا بلدة وادعة... أليس كذلك أيها الجنرال ميد؟
ضحك ميد وأجاب:
-أجل يا سيدي القائد، ولابد أن حاميتها قد فرت، إنني من الآن أتخيل احتفالات المساء الصاخبة.
كان الموكب العسكري قد مر علي جامع زغلول وكنيسة مار مرقص ووضع عندهما جنوداً للمراقبة والحماية، لم يستثن ركناً من المدينة الصغيرة فداست الأقدام علي كل شبر، فانتشر الجنود المدججين بالسلاح في دور العبادة والبوابة والبساتين ومبني الشرطة وقصر الحاكم والذروب الضيقة والشوارع المتعرجة، وسرح ويكوب في تلك المدينة الجميلة، التي تزوج منها الجنرال مينو أحد قواد حملة نابليون الذي سبقه في احتلال مصر، واختار زبيدة البواب لتكون قرينته، فهل يمكن أن يتزوج مصرية، ولاحت علي شفتيه ابتسامة حين مر به ذلك الخاطر.
قضت أوامر الجنرال ماكينزي فريزر باحتلال رشيد لتدعيم مركزه في الأسكندرية، ولضمان موارد الغذاء لسد أفواه الجند المفتوحة، ففصل ١٤٠٠جندياً عن قوة الحملة الكلية التي تفوق ٦٠٠٠آلاف احتلوا الأسكندرية دون قتال، بعد مفاوضات صورية مع حاكمها أمين أغا، بينما محمد علي والي مصر مشغول في الصعيد بمطاردة المماليك.
مع مرور الوقت وارتفاع الشمس في السماء، استنام الجند للراحة وتلهي البعض في الاستمتاع بجمال البساتين، ودون إنذار شق الصمت صوت قادم من مسجد زغلول ينادي" الله أكبر" فجفل الجنود وتأهبوا وارتجف بتروتشي، فهو يعرف أن ذلك ليس وقت صلاة، ولا يخرج النداء من المسجد ألا لأمر خطير، وبعد لحظات بدأت طلقات النيران تنهمر من النوافذ والأسطح، وانفتحت أبواب المنازل الصامتة فخرج منها الأهالي علي رأسهم حاكم المدينة علي السلانكلي المشهور بشجاعته يدافعون عن أرضهم بأي سلاح متاح لهم، فثخنت أجساد الإنجليز بالسيوف والحجارة والشوم، وبدأت معركة الشوارع، ركض إسماعيل الجزار حاملاً ساطوره وانقض به علي ملازم فقطع رأسه، وظهر من خلفه الفلاح القراري عبد الصمد يقبض علي منجله باحترافية يمزق جندياً يصرخ من الألم، والسلانكلي وبجواره عثمان أغا يصوبون نيران بنادقهم علي الجنود المنتشرة في المدينة، ورأي الجنرال ويكوب المدهوش العجوز جرجس خادم الكنيسة يخرج منها ويهجم علي النقيب بروس الذي قطع خده وينزف بغزارة، فعاجله بطلقة من مسدسه ارتمي جرجس علي إثرها جثة لا حياة فيها، وعرفت طلقة طريقها نحو الجنرال ويكوب، فسقط علي فرسه وهو يهمس"روزيتا... وردتي الصغيرة"، وطارت خوذة العميد ميد، ورفع مسدسه صوب امرأة تصب الزيت المغلي علي الجنود فأصابها وسقط من سطح المنزل فتكسرت عظامها، ثم أصيب بطلقة فكانت آخر كلماته قبل أن يسلم روحه صراخه في الجنود:
-أسكتوا صوت الطلقات... اقتلوهم جميعاً!
وحصدت حامية رشيد عساكر الإنجليز، لم يعد أمامها إلا القتال بعد أن أبعد صاحب خطة الهجوم وقائدها علي بك السلانكلي المراكب من علي الضفة، كي لا يجدوا منفذاً للهروب، وظل السلانكلي لساعات يقاتل ويدافع عن المدينة يؤجج الحماسة ويوقد النفوس حماسة وغيرة علي الأرض والمال والعرض حتي تقهقرت الحملة عائدة للإسكندرية عن طريق أبي قير وقد خسرت ١٧٠قتيلاً و٢٥٠جريحاً وأسر منها ١٢٠.
عند الظهيرة لم يبق من أثر المعركة إلا أنات الجرحي وبكاء النسوة والصغار من الفزع والخوف، والدماء تجري في الدروب وعلي أعتاب الدور، وبجوار البوابة وقف السلانكلي تومض في ذاكرته أحداث الليلة السابقة... التجهيز للمعركة... الاتفاق مع السقائيين علي التمويه... التحصن في البيوت... مراقبة معسكر الإنجليز... عرس أبو اليزيد الذي تأجل وقبل دقائق شاهد جثة العريس الشاب غارقة في الدم تبكي عليها عروسه العذراء... الطفل محمود هرست جثته سنابك الخيول الإنجليزية، وفي الأمس تردد غناؤه البهيج" ياعمي علي يا حاكمنا، بكرة تخرج الإنجليز من حتتنا" غمره التأثر وكادت دمعة تفر من عينه، فكبحها وتوجه نحو البوابة فأغلقها من الجديد، مرة أخري وللأبد.

الخميس، 11 سبتمبر 2025

الباقي من الحساب

 الباقي من الحساب

لم يمض عليه في العمل إلا أسبوعاً واحداً، وأصبح يشك أن في إمكانه الاحتمال إسبوعاً آخر، تعلم كريم من خبرته الضئيلة في الحياة كشاب لم يتخط العشرين، أن الأماكن في حد ذاتها متساوية... جدران وأركان وأسقف لا يتمايز مكان عن غيره، أما ما يجعلها مريحة أو قاسية فهم ساكنوها، ابتسامة دافئة تذيب الأوجاع في كوخ حقير تجعلك سعيداً كملك، ونظرة حقد في قصر فخم تكسر قلبك كعبد تلهبه السياط، وأخدت رأسه تدور بعشرات الأفكار المضطربة، لم يشوش عليها الضجيج المتواصل طوال النهار، في الشارع الذي يقع فيه محل عمله كبائع في أحد الحوانيت المكتظة بكل ما يخص الاحتفال بسبوع المواليد، لكنه تنبه أخيراً علي صوت صاحب المحل الخشن صائحاً:

ـكريم... لأ... اصح لحالك أناديك وأنت في عالم آخر، هل جئت لتسرح في الملكوت أم لتجري علي أكل عيشك؟!

مد خطاه ناحيته وقال بلهجة اعتذار مبطنة بخضوع، أتقنها من كثرة تنقله بين الأعمال المختلفة، ورغبته في التشبث بها:

-سامحني يا أستاذ علي... أوامرك.

-هات لي علبة حمص مقشر من الرف الأعلي.

ـحاضر.

أدرك منذ زمن أن الجميع يحبون من يخضع لسلطتهم، وبما أنه ليس له سلطان علي أحد فعليه أداء دور الخاضع.

سحب السلم الخشبي الثقيل، وصعد بجسده النحيل، وناوله ما أراد، ثم قفز علي الأرض، وانشغلا بوزن الحمص علي الميزان، حتي مرت بهما امرأة مسنة يغطي العرق وجهها، وطلبت بصوت متهدج ولسان ثقيل السماح بجلوسها علي الرصيف أمامهما لإرهاقها من مشوار طويل، مست كلماتها قلب كريم، إنها خاضعة مثله تعتمد حياتها علي ما يجود به من حولها من عطف، تجاهلها علي ولم يرد عليها، لكن كريم تاملها فوجدها متعبة حقاً، تنتظر كلمة وبعدها ستستريح وتتأوه من آلام جسدها المتعددة، ووعي أن عليه أن يفعل شيئاً سيسير علي منواله في حياته للأبد، نظر لعي فوجده استدار بجسده كله وتشاغل في شئ ما، ووجد المرأة مازالت عينيها الغائرة من بين التجاعيد معلقة به، قال وهو يعلم جيداً ما ستترتب عليه كلماته:

-اجلسي يا حاجة فالرصيف ملكاً للجميع... حمداً لله لم يشتره أحد.

استطار الغضب من عين علي وبدت عينيه الخصراءـ التي يفتخر بهاـ مخيفة وقبل أن يتكلم، خلع كريم قميص المحل الأخضر، وارتدي قميصه، بينما المرأة تجلس كما تخيلها تماماً، هبطت بثقلها علي الرصيف وللحظة استرد أنفاسها المسروقة من صهد الحرارة واللهاث من أجل بضعة مئات من الجنيهات، ولسانها لا يتوقف عن الدعاء له، اقترب كريم منه في ثبات وقال بصوت واثق:

-حقي أجرة أسبوع.

مد علي يده في الدرج وأخرج له ٥٠٠جنيه، وزعق بشراسة:

-لن تفلح في أي مكان، ولو عدت مرة أخري هنا معتذراً، لن تدخل هذا المحل حتي ولو قبلت قدمي.

أولاه كريم ظهره وهو ينظر له بجرأة أخرسته عن الاسترسال، واتجه ناحية الباب، شاعراً أنه تخلص من عبء ثقيل تآكل تحته قلبه قبل كتفيه، وخرج للشارع المزدحم بعشرات المتعبين والمتعبات الساعين علي رزقهم بكل السبل المقبولة والمنفرة، وهو عازم أن يبدأ مشروعه الخاص وألا يعمل عند أياً كان بعد اليوم، وسرعان ما غاب عند أول معطف.


الخميس، 4 سبتمبر 2025

كتاب حتشبسوت المرأة الفرعون... التاريخ والأسطورة

 


كتاب حتشبسوت المرأة الفرعون... التاريخ والأسطورة



عنوان الكتاب: حتشبسوت المرأة الفرعون

اسم المؤلفة: فوزية أسعد

اسم المترجم: ماهر جويجاتي

سنة النشر: ٢٠٠٣

عدد الصفحات: ٢٥٧

فوزية أسعد إحدي الكاتبات اللواتي سبحن في عوالم لغات أخري ليكتبوا بمدادها، ومع ذلك لم يتخلين عن جذورهن الممتدة في أرض وادي النيل، فجاءت كتاباتهن مزيج من دقة المنهجية العلمية الغربية، والقضايا المصرية حول الذات والهوية، صديقتها الكاتبة هالة البدري تحدثنا عنها في مقالة بعنوان" عن فوزية أسعد أكتب؛ رحلة صداقة وحوار وفكر وقراءة" منشورة في مجلة"أفكار" الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية، عدد ٤٢٠،فتعطينا خلفية وافية عن تلك مؤلفة هذا الكتاب، فنعرف منها أن فوزية أسعد مصرية تفكر بالعربية وتكتب بالفرنسية، ولدت بمدينة القاهرة في شهر يوليو عام ١٩٢٩،لأسرة إقطاعية مسيحية وشغل جدها منصب رئيس الوزراء، درست الفلسفة في جامعة القاهرة، ثم سافرت عقب الحرب العالمية الثانية لتحصل علي الماجستير والدكتوراة من جامعة السوربون الفرنسية في الفلسفة الغربية، نشرت بالعربية كتاباً واحداً عن فيلسوف الوجودية كيرجارد، ترجمته هي بنفسها بعد ذلك إلي الفرنسية، واشتغلت علي أعمال نيتشه بعد ملاحظة ذكية، إذ رأت أن من يكتب عن ذلك الفيلسوف الألماني الكبير يفسر فلسفته بحسب مرجعياته الثقافية، فقرت أن تقيس فلسفة نيتشه بنفس الميزان، فماذا وجدت وجعلها تنتقل إلي دراسة علم المصريات؟ وجدت نيتشه الذي تأثر به فلاسفة القرن العشرين متأثر بفلسفة مصر القديمة.

وكتابنا الذي نحن بصدده نتاج لتجربة أدبية خاضتها المؤلفة، في رواية"بيت الأقصر الكبير" التي نشرها المركز القومي للترجمة عام ٢٠٠٤،فبطلتها سوسن"اسم عربي جميل سشن بلغة قدماء المصريين هذا اللوتس الذي يتفتح عند طلوع النهار، كما لو كان يشارك في ولادة الشمس" هي نسخة معاصرة لحتشبسوت، فأثناء بحثها الروائي عن شخصية الملكة حتشبسوت تراكمت المادة العلمية، إلي درجة دفعتها لاستغلالها في عمل كتاب عن تلك المرأة الشهيرة في تاريخ مصر.

الكتاب من ترجمة ماهر جويجاتي أحد المترجمين الذين نقلوا للسان العربية أعمالاً ممتعة ومفيدة عن تاريخ الحضارة المصرية القديمة، قدم له أديبان رائعان أحدهما مصري والآخر فرنسي، أما المصري هو بهاء طاهر، وقلمه ليس غريباً عن عالم مصر القديمة، فقصة "محاكمة الكاهن كاي" في مجموعة "أنا الملك جئت، تستعرض مرحلة إخناتون الملتبسة، وفي تلك المقدمة التي افتتح بها الكتاب وعداً ضمنياً بقراءة عملاً ممتعاً، وتحفيزاً للقارئ علي الاطلاع عليه، فيقدم لنا الكاتبة علي أنها روائية ذات موهبة، وأستاذة فلسفة لها باع في مجالها، ويصف الكتاب بأنه عصي علي التصنيف، ويطلق طاهر اسئلته الخاصة التي أثارها الكتاب، رابطاً بين حتشبسوت ونفرتيتي لاشتراكهما في نهاية غامضة، إذ يسقطان من قمة المجد للاختفاء المريب، ولا جواب علي كل التساؤلات سوي بالظن والتخمين، فلا يوجد إجابة قاطعة تقدمها أوراق البردي أو نقوش الجدران، تهمس لأسماع التاريخ عن حقيقة ما جري للملكة التي حكمت مصر لأكثر من ٢٠عاماً، ويتمني أن تقوم الدكتورة فوزية باستخدام منهجها في الكشف عن دراما نفرتيتي التي حدثت بعد حتشبسوت، وستنفذ ذلك فعلاً في كتابها"الفراعنة المارقون" وسينشره المركز القومي للترجمة علي يد ماهر جويجاتي مترجمنا الذي يثني عليه بهاء طاهر، في ختام مقدمته.

النص الاصلية بالفرنسية قدمه الأديل ميشيل بوتور، بعين علي الدقة التاريخية وأخري علي الروح الفنية، عندما يستعير لسان حتتشبسوت من العالم الآخر من خلال تماثيلها المكتشفة بعد رحلة طويلة، لمعرفة الشخص الغامض علي نقوش الجدران المشار إليه بأفعال وأسماء مؤنثة.

الكتاب مقسم لتسعة عشر فصلاً، تتعدد فيه مستويات الكتابة-وذلك سبب استعصائه علي التصنيف في خانة محددة-فأحياناً نقرأ عن الأساطير المصرية المؤسسة لوعي المصري القديم، وتبحث الكاتبة عن السيرة الأسطورية لحتشبسوت، كما سجلتها في معبد الدير البحري أو جسر جسرو(قدس الأقداس) وارتباط تلك السيرة الأسطورية التي رسمتها حتشبسوت لشعبها وللأجيال القادمة، بطبيعة العقيدة الدينية للمصريين القدماء، الذين آمنوا بقيم حاكمة وأحداث تفسر طبيعة العالم وسلوكيات الحكم، سعت حتشبسوت للاندماج فيها، فهي ابنة الإله آمون ذاته كما تسرد قصة ولادتها الإلهية بعد تتويجها، واضعة نصب عينيها الرموز التي تشكل رؤية المصري القديم للعالم، وصاغت لنفسها حياة أخري علوية تتآلف فيها مع عالم الآلهة، وخاصة الأسطورة المصرية الكبري بأبطالها إيزيس وأوزوريس وحورس، التي تمثلها كل حكام مصر، فهو يمثل حورس المنتصر علي ست الشرير ليتربع علي عرش البلاد، وبذكاء شديد استغلت حتشبسوت ذلك لتصيغ لنفسها صورة الحاكم الفرعون، بعيدة عن كونها امرأة.

وعلي مستوي آخر نجد أنفسنا نتابع حتشبسوت الإنسانة، المنتمية لأسرة الملك أحمس العظيم، محرر البلاد من الهكسوس، جدتها الكبري تيتي شيري والدة سقنن رع تاعا الثاني الملقب بالشجاع الجسور، وقد حكمت البلاد بعد وفاة سقنن رع وكاموس أثناء كفاحهما ضد الهكسوس الغاصبين، ثم جاءت اعح حوتب اللاولي والدة أحمس، مارست سلطة الحكم وكان لها تقديرها الكبير في قلب ابنها والشعب المصري، تدلنا لوحة من عصر أحمس دون عليها قصيدة يلقيها أحمس البطل القومي العظيم، لتمجيد تلك الملكة المبجلة ويستحث الشعب لتمجيدها، لذلك ليس من المستغرب أن تكون نتيجة تلك السلالة ملكة حكمت البلاد بكفاءة لأكثر من عقدين كحتشبسوت:

"ارفعوا من شأن سيدة البلاد. سلطانة شطآن الـ"حاو نبوت".

التي ارتفع اسمها فوق جميع البلدان الجبلية(أو الأجنبية) 

التي تتخذ القرارات من أجل الشعب

زوجة الملك، أخت الملك، له الحياة والصحة والقوة

ابنة الملك، والدة الملك المبجلة

التي علي دراية بكل شئون البلد، التي توحد مصر.

لقد جمعت الوجهاء والأعيان وكفلت تماسكهم وترابطهم

لقد أعادت الهاربين وجمعت المنشقين.

لقد أشاعت السلام في الوجه القبلي ودحرت المتمردين

زوجة الملك،"إعح حوتب" لها الحياة".

طبيعة تلك الفترة تدفع النساء إلي مجابهة صعاب الحكم، فالرجال في معمعة القتال ضد الهكسوس الغاصبين، فعلي النساء أن يتولين مقاليد السلطة، ثم جدتها المباشرة أحمس نفرتاري التي تزوجت أحمس محرر مصر، وشاركته في الحكم لربع قرن، وشغلت أيضاً منصب الكاهنة الثانية لآمون ثم والدة حتشبسوت أحمس-اسم أحمس أطلق علي الرجال والنساء ومعناه"ولد القمر".... وكان ينبغي علي المؤلفة ذكر أخريات حكمن مصر في سلام ولم يكن هدفاً لمطاردة ذكراهن، هن الملكة نيت إيفرت في نهاية الأسرة السادسة، والملكة سوبك نفرو آخر حكام الأسرة الثانية عشر، وملكة أخري حكايتها تكاد تتطابق مع حتشبسوت هي الملكة سات رع في نهاية الأسرة التاسعة عشر، والتي طوردت ذكراها علي يد ست نخت مؤسس الأسرة العشرين المولود من زوجة غير شرعية كتحتمس الثالث. 

إنها الملكة التي ذكرها مانيتون (٤٨٤-٤٢٤ق.م) في سجلاته التاريخية عن مصر القديمة بطلب من بطليموس الثاني فيلادلفيوس، ورغم أن مدونانه لم يبق منها سوي شذرات متفرقة، إلا أنها مصدراً أساسياً لتاريخ مصر، وندين له بتحديد تتابع زمني وزع علي ٣١أسرة بشرية حكمت مصر، جاءت بعد حكم الآلهة للأرض، أشار لها مانيتون باسم" أمسيسيس" التي حكمت البلاد ٢١سنة وتسعة أشهر مع بداية الأسرة الثامنة عشر أولي أسرات الدولة الحديثة، حكمت مع أخيها تحتمس الثاني البلاد وكان ضعيفاً ومريضاً، مات وتركها وصية علي تحتمس الثالث الابن غير الشرعي للملك المتوفي، والذي سيصير أحد أعظم الملوك المحاربين في تاريخ العالم.

يقدر مانيتون حكم تحتمس الثاني بثلاثة عشر عاماً، وعلماء آخرون يراوحون بين سنتين أو ثلاثة، تولي الحكم وهو "صقر في العش" ذلك التعبير أطلقه المصريون علي الفرعون الذي يتولي مقاليد السلطة في سن صغيرة، وقام بثلاث حملات عسكرية الأولي في بلاد كوش(النوبة) عندما بلغه نبأ تمردهم، والثانية ضد بدو آسيا، والثالثة في سوريا. 

الفصل الثاني من حياتها بطله بلا منازع هو سنن موت الذي كان قبل تتويج حتشبسوت رجلاً صاحب كفاءة رفيعة، انخرط في الجيش قبل توليها الحكم بفترة طويلة ومن ألقابه قبل حتشبسوت:أمير، نبيل، خازن ملك الوجه القبلي وسميره، مدير القصر والبيت الكبير وأهراء آمون، والمشرف علي كافة الشعائر الإلهية، منحدر من أسرة متواضعة تننمي لمدينة أرمنت القريبة من طيبة تقدس الإله مونتو وربما كان له زوجتين ولم يرزق بولد، لأننا نري أخويه يتصدران النقوش، أحدهما مين حوتب يقوم بدور الابن علي مقبرته الأولي والثاني إمن إم حات يؤدي الشعائر الجنائزية. 

التصق سنن موت بحتشبسوت فكان بمثابة الرجل الثاني في المملكة ولم يتركان بعضهما حتي النهاية، بل وفي الحياة الأخري ظلا مع بعضهما، فقد ارتبط بحتشبسوت ومعبدها عن طريق مقبرته الثانية في الحرم المقدس لمعبد الدير البحري، حيث كان تخطيط مقبرتها ومقبرته واحد، يربطهما سرداب خفي تتقاطع حجرات ذات أربع زوايا، واسم حتشبسوت مذكور علي جميع جداران مقبرته، كما يظهر اسمه بحوار حتشبسوت أمام الإله، كل ذلك أشعل خيال الأجيال حول علاقة حتشبسوت بذلك الرجل العصامي الفريد، وللأسف لم تستفيض تلك المؤلفة في تحليل تلك العلاقة ولو فعلت لكان للكتاب وزن أكبر ذلك، إن تلك العلاقة هي المدخل لحكم وزمن حتشبسوت.

يعطينا الكتاب أيضاً لمحة عن دور حتشبسوت في إعلاء كهنة آمون، الذين ستتضخم ثروتهم وسلطتهم حتي زمن إخناتون الفرعون المارق، حين يحاربهم بكل أسلحته ويمحو كل ذكر لآمون لحساب إلهه الجديد آتون الذي جعله منفرداً بالعبادة، وعند وفاته سيعودون من جديد ويسترد الإله آمون مكانته والكهنة سلطتهم، فقد منحت الثروات والأراضي لكهنة آمون، ليساعدونها في الاستقرار علي العرش، ويرجع العلماء صعود كبير كهنة آمون لمكانته العالية في الحياة السياسية إلي عهد حتشبسوت فهي تصرح علانية" إنها تحب أباها آمون أكثر من سائر الآلهة إنها ابنته المولودة من صلبه، إن آمون يمنحها سنوات  حكم مديدة".

وتتساءل المؤلفة سؤالاً هاماً، هل كان عهد حتشبسوت حقاً عهد مسالم لم تنجر فيه لمعركة؟ وتتبين وجود معارك وردت في تقوش ومخربشات( المخربشات مدونات محفورة أو مرسومة علي صخور الجبال أو شقف الفخار)، وربما أزال تحتمس الثالث تلك المعارك من الذاكرة حتي لا تنافسه  الملكة المرأة في شهرته العسكرية الطاغية.

تستشف الكاتبة نهاية حتشبسوت الغامضة، فتؤكد أن الجيش قد فضل تحتمس الثالث عليها كما أن كهنة آمون لم يعودوا يساندونها، وبدأوا سياسة التقرب من تحتمس في الخفاء، والكاهن الثاني لآمون  بو إم رع يمثل ذلك الاتجاه السري، والآراء المتناقضة حول ما إذا كان لتحتمس الثالث يداً في وفاتها أم لا، والشائعات الدائرة حول تدبيره لثورة في القصر ضدها أة دفعها للانتحار، لكن هناك حقيقة واحدة في علاقتها بتحتمس الثالث، رغبته المحمومة لمحو اسمها من ذاكرة البشر وسجلات الأحياء، وتقول" يمكن صياغة أسبابها السيكولوجية أو السياسية بأسلوب روائي. ولكن النصوص لا توفرها لنا" وهكذا يحرمنا تدمير الآثار بالسلب أو السرقة أو التدمير المتعمد أو بأي طريقة كانت من المعرفة والبناء الجديد علي تلك المعرفة،  وتشير إلي حقيقة أن سلطان الكلمة في مصر القديمة كان عظيماً، ومن بين كل الكلمات يبقي للاسم قدرة البعث والإحياء، ولقد تضافرت كل الظروف لمحو اسم حتشبسوت وضياعه وبالتالي ضياع شخصيتها في تلك الحياة والحياة الآخرة، فما سلم من هجمة تحتمس الثاني علي تماثيلها، استخدمه الفلاحون كحجارة للرحي! وكان ذلك أيضاً نصيب سنن موت حيث لم ترحمه ضربات المطارق، والأيادي الممتدة للتشويه، وفي نفس تلك الرحلة التدميرية نصل إلي مخطة إخناتون المارق، عندما شن هجمته التاريخية علي معابد آتون بالمحو والتدمير، فاعتدي لي ذكري حتشبسوت معها كراعية للديانة وكهنتها.

وأحياناً نرتحل إلي الماضي القريب، نتتبع الأيادي  التي ساهمت في بعث اسم حتشبسوت من جديد، رغم كل ما حدث ليتوه اسمها في الضياع الأبدي، بدءً من عام ١٨٢٨لما اكتشف العالم الفرنسي شامبليون، اسم حتشبسوت خلف آثار تم تهشيمها، وحيرته وبلبته الكبيرة أمام ذلك الاسم المشار له بالضمائر المؤنثة، وحكاية أسرة عبد الرسول الشهيرة الذين اكتشفوا خبيئة الدير البحري، علي عمق ١١متراً حيث تراصت توابيت لأشهر فراعنة الأسرة الثامنة عشر والتاسعة عشر، بالإضافة لتوابيت أحمس والتحامسة من الأول إلي الثالث، وسيتي الأول وإعح حوتب نفرتاري وملكتنا التي ندور حولها حتشبسوت، وأشادت المؤلفة بفيلم المومياء للفنان شادي عبد السلام، ولها الحق في ذكره والإشادة به فلا يمكن فصل هذه التحفة السينمائية عن الحادثة الأصلية لاكتشاف خبيئة الدير البحري، التي تعتبر فتحاً في علم الآثار، وتوالت إسهامات علماء الآثار، فمارييت باشا أزاح الركام من علي معبد الدير البحري، ثم واصل نافيل عمل مارييت بإعادة تشكيل أحد جدران المعبد، وفي الكرنك اكتشفت بعثة أثرية مسلتين تختبئان عن العيون خلف أحد الجدران عليهما اسم حتشبسوت، ومع بداية القرن الماضي ظهرت أحجار مقصورة استراحة المركب المقدس التي بنتها حتشبسوت لأجل مركب الإله آمون رع، وعندما حل شتاء ١٩٢٢-١٩٢٣أزال ويلتوك النفايات في منخفض طبيعي إلي الجنوب الصاعد للمعبد، وناحية الشمال من نفس الطريق وجد المقبرة الثانية لسنن موت، وفي شتاء آخر ١٩٣٦-١٩٣٧عثر ويلتوك علي تماثيل متنوعة الأحجام بدت فيها حتشبسوت بابتسامة دافئة"تبعث الحياة في البدن".

تتمثل لنا حتشبسوت من خلال تلك الأبعاد الثلاثة، فنراها بصورة بانورامية، ونكتشف مع فوزية أسعد جزء من التاريخ المصري القديم، تاريخنا الحي والنابض في الوجدان رغم آلاف السنين التي تفصلنا عنه، وأحد الأدلة ذلك الكتاب المدون باحترافية علمية ومشاعر فياضة، من امرأة مصرية معاصرة تجاه جدتها الملكة الفرعونية.... لقد استطاعت فوزية أسعد أن تقطع تذكرة في قارب التاريخ، وتصحبنا معها لنتجول بين المعابد المحطمة والتماثيل المهشمة، والنصوص القليلة الباقية، ومع ذلك شاهدنا الكثير في كتابها هذا، وتعلمنا الكثير عن الحضارة المصرية القديمة، وكنا شهوداً  علي حكاية من أشهر وأخطر حكايات مصر التاريخية، حكاية ملكة اسمها حتشبسوت آمنت بنفسها وبقدرتها علي تولي حكم للإمراطورية المصرية في عالم يسوده الرجال، ومع ذلك استطاعت المكوث في الحكم لفترة طويلة، وحين أراد تحتمس محو ذكراها، انبعث  من جديد أقوي وأظهر مما كان، واقترن اسماهما للأبد! بل أصبحت الذاكرة الشعبية المعاصرة تحفظ اسمها  أكثر مما تحفظ اسمه، لقد سمعناها في أغنية شهيرة علي شاشة السينما المصرية، ويضرب بها المثل في القدم والعراقة...إنه كتاب ضروري لكل من يريد الاقتراب من الحضارة المصرية وهواة القصص التاريخية وكل من تهفو نفسه للعيش بعض الوقت مع أجدادنا القدماء.... يتأمل ويتعلم.