السبت، 13 سبتمبر 2025

دماء علي الوردة الصغيرة


دماء علي الوردة الصغيرة
مست أشعة الشمس الحانية وجه الجنرال ويكوب، في صباح يوم الثلاثاء ٣١مارس ١٨٠٧،لقد بدأت بشائر الربيع تهل وصفا الجو وسري النسيم محملاً بروائح الزهور، ركب جواده بصحبة العميد ميد ليلقي نظرة أخيرة من فوق تل أبو مندور علي مدينة رشيد النائمة في حضن النيل المتدفق في نعومة، تأملها وملأ صدره بالهواء وتنهد قائلاً لميد:
-يا لها من مدينة جميلة إنها حقاً روزيتا...وردة صغيرة.
ابتسم ميد:
-بعد ساعات قليلة ستكون تلك الوردة في عروة سترتك سيدي القائد، تزين بها تاريخك العسكري المجيد.
أعجبت كلمات المديح تلك ويكوب، فضحك ليداري قلقاً اعتمل في نفسه وهو علي التل ينظر للمدينة:
-لكن ألا تري إنها هادئة... هادئة أكثر من اللازم؟
بعد دقائق تقدم الجنرال صوب البوابة الغربية للمدينة، مرتدياً سترته العسكرية الحمراء وسرواله الرمادي، وجواده يصهل بتحد كأنه يعرف من هو فارسه، يحيط بع قواده وجنوده وعلي يساره النقيب بروس ينتفش غروراً، ففي سن صغيره تطأ أقدامه أرض مصر، وربما يعين قائداً للقوات الإنجليزية في يوم ما ومن يدري ليس بعيداً أن يدرس التلامذة في لندن سيرته الحربية في كتبهم المدرسية، ويتقدم الجميع جندياً أشقر الشعر قوي البنية يحمل بين يديه علم بريطانيا، وسار الموكب يقطع شارع دهليز الملك، وكلما تقدم في سيره يزداد الجنرال ويكوب قلقاً، وهو ينظر للقصور العملاقة والمنازل الضخمة ترتفع عالياً في شموخ، هنا يسكن علي بك السلانكلي حاكم المدينة وعثمان أغا قائد الحامية التركية مع أهالي المدينة، لم يكن ويكوب ببصيرته العسكرية يراها منازل سكنية، بل قلاع حربية ترتفع نحو السماء منذرة ومتوعدة، أبوابها مصنوعة من خشب سميك قوي، صهرت بداخله قطع من الحديد الصلب يزيدها مناعة واستحكام، ونوافذ الطوابق الأرضية مسيجة بأسياخ حديدية، أما النوافذ العليا فضيقة يستحيل اقتحامها من الخارج، وتلك المشربيات الجميلة المزينة بقطع الأرابيسك متقنة الصنع، في أسفلها فتحات تكشف من تحتها وتجعله هدفاً سهلاً... ومن جديد يلتفت فيري وجه بروس المغرور، وملامح بتروتشي القنصل الإنجليزي المتعالية، فوقف وأمر باستبقاء ٢٠٠جندي في عند مدخل المدينة، ولم يتحرك إلا عندما تأكد أنهم أخذوا مواقعهم، ورفع الجندي جون رأسه للنوافذ لعله يري امرأة حسناء تطل منها.
كلما توغل في المدينة نشر عدداً من الجنود، وكاد يسأل عن موعد استيقاظ أهل المدينة القنصل اللاهي بحديث ضاحك مع أحد الضباط سمعه يقول فيه:
-ألا يشبه ذلك نزهه علي ظهور الخيال في يوم ربيعي دافئ، داخل مزارعنا في إنحلترا؟!
لكن سرعان ما جاءه الجواب وهو يري عدداً من السقائين يملأون قربهم من مياه النيل، كي يبدأوا بتوزيعها علي المنازل، رجال نحيفة أحسادهم تنوء كواهلهم بالقرب الثقيلة، لكن في وجوههم السمراء صلابة غريبة، صلابة من صهرته الدنيا في نارها الموقدة فخرج يحمل في ضلوعه لهباً محرقاً مكبوتاً بين جوانحه، يحملون أثقالهم ويتغنون بصوت أجش منهوك من التعب، فأعاد له ذلك الصوت الممتزج بزقزقة العصافير بعضاً من الطمأنينة، وقال:
-إنها ليست إلا بلدة وادعة... أليس كذلك أيها الجنرال ميد؟
ضحك ميد وأجاب:
-أجل يا سيدي القائد، ولابد أن حاميتها قد فرت، إنني من الآن أتخيل احتفالات المساء الصاخبة.
كان الموكب العسكري قد مر علي جامع زغلول وكنيسة مار مرقص ووضع عندهما جنوداً للمراقبة والحماية، لم يستثن ركناً من المدينة الصغيرة فداست الأقدام علي كل شبر، فانتشر الجنود المدججين بالسلاح في دور العبادة والبوابة والبساتين ومبني الشرطة وقصر الحاكم والذروب الضيقة والشوارع المتعرجة، وسرح ويكوب في تلك المدينة الجميلة، التي تزوج منها الجنرال مينو أحد قواد حملة نابليون الذي سبقه في احتلال مصر، واختار زبيدة البواب لتكون قرينته، فهل يمكن أن يتزوج مصرية، ولاحت علي شفتيه ابتسامة حين مر به ذلك الخاطر.
قضت أوامر الجنرال ماكينزي فريزر باحتلال رشيد لتدعيم مركزه في الأسكندرية، ولضمان موارد الغذاء لسد أفواه الجند المفتوحة، ففصل ١٤٠٠جندياً عن قوة الحملة الكلية التي تفوق ٦٠٠٠آلاف احتلوا الأسكندرية دون قتال، بعد مفاوضات صورية مع حاكمها أمين أغا، بينما محمد علي والي مصر مشغول في الصعيد بمطاردة المماليك.
مع مرور الوقت وارتفاع الشمس في السماء، استنام الجند للراحة وتلهي البعض في الاستمتاع بجمال البساتين، ودون إنذار شق الصمت صوت قادم من مسجد زغلول ينادي" الله أكبر" فجفل الجنود وتأهبوا وارتجف بتروتشي، فهو يعرف أن ذلك ليس وقت صلاة، ولا يخرج النداء من المسجد ألا لأمر خطير، وبعد لحظات بدأت طلقات النيران تنهمر من النوافذ والأسطح، وانفتحت أبواب المنازل الصامتة فخرج منها الأهالي علي رأسهم حاكم المدينة علي السلانكلي المشهور بشجاعته يدافعون عن أرضهم بأي سلاح متاح لهم، فثخنت أجساد الإنجليز بالسيوف والحجارة والشوم، وبدأت معركة الشوارع، ركض إسماعيل الجزار حاملاً ساطوره وانقض به علي ملازم فقطع رأسه، وظهر من خلفه الفلاح القراري عبد الصمد يقبض علي منجله باحترافية يمزق جندياً يصرخ من الألم، والسلانكلي وبجواره عثمان أغا يصوبون نيران بنادقهم علي الجنود المنتشرة في المدينة، ورأي الجنرال ويكوب المدهوش العجوز جرجس خادم الكنيسة يخرج منها ويهجم علي النقيب بروس الذي قطع خده وينزف بغزارة، فعاجله بطلقة من مسدسه ارتمي جرجس علي إثرها جثة لا حياة فيها، وعرفت طلقة طريقها نحو الجنرال ويكوب، فسقط علي فرسه وهو يهمس"روزيتا... وردتي الصغيرة"، وطارت خوذة العميد ميد، ورفع مسدسه صوب امرأة تصب الزيت المغلي علي الجنود فأصابها وسقط من سطح المنزل فتكسرت عظامها، ثم أصيب بطلقة فكانت آخر كلماته قبل أن يسلم روحه صراخه في الجنود:
-أسكتوا صوت الطلقات... اقتلوهم جميعاً!
وحصدت حامية رشيد عساكر الإنجليز، لم يعد أمامها إلا القتال بعد أن أبعد صاحب خطة الهجوم وقائدها علي بك السلانكلي المراكب من علي الضفة، كي لا يجدوا منفذاً للهروب، وظل السلانكلي لساعات يقاتل ويدافع عن المدينة يؤجج الحماسة ويوقد النفوس حماسة وغيرة علي الأرض والمال والعرض حتي تقهقرت الحملة عائدة للإسكندرية عن طريق أبي قير وقد خسرت ١٧٠قتيلاً و٢٥٠جريحاً وأسر منها ١٢٠.
عند الظهيرة لم يبق من أثر المعركة إلا أنات الجرحي وبكاء النسوة والصغار من الفزع والخوف، والدماء تجري في الدروب وعلي أعتاب الدور، وبجوار البوابة وقف السلانكلي تومض في ذاكرته أحداث الليلة السابقة... التجهيز للمعركة... الاتفاق مع السقائيين علي التمويه... التحصن في البيوت... مراقبة معسكر الإنجليز... عرس أبو اليزيد الذي تأجل وقبل دقائق شاهد جثة العريس الشاب غارقة في الدم تبكي عليها عروسه العذراء... الطفل محمود هرست جثته سنابك الخيول الإنجليزية، وفي الأمس تردد غناؤه البهيج" ياعمي علي يا حاكمنا، بكرة تخرج الإنجليز من حتتنا" غمره التأثر وكادت دمعة تفر من عينه، فكبحها وتوجه نحو البوابة فأغلقها من الجديد، مرة أخري وللأبد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق