الخميس، 9 أكتوبر 2025

فيلم umbrella... البناء النموذجي والمعني المؤثر

 فيلم umbrella... البناء النموذجي والمعني المؤثر



ولد فن السينما صامتاً وقصيراً جداً، وكانت الأفلام الاولي يتراوح منها بين أقل من دقيقة وأزيد من عشر دقائق، وفتحت تلك الدقائق القليلة للمشاهدين الاوائل لهذا الاختراع الجديد، عالماً سحرياً مذهلاً، اختلط فيه الخيال بالواقع، ومن خلال الكاميرا التي حلم بها العلماء وأصبحت واقعاً ملموساً، حتي توج الفكرة الاخوين لوميير باختراع السينما أواخر القرن التاسع عشر، صنع السينمائي الفرنسي جورج ميليس رائد الخدع السينمائية مجده التاريخي بأفلام كـ A trip to the Moonو The House of the Devil  ، وعرف العالم لأول مرة شارلي شابلن أو آدم السينما عندما ظهر لأول مرة في فيلمMaking Living عام ١٩١٤،ورأت العين شخصيات أدبية سكنت عالم الورق كفاوست وشارلوك هولمز، ومايزال الفيلم الصامت يحتفظ بسحره الفني، ويعيدنا للمنبع الصافي لفن السينما، حيث الصورة هي سيدة العمل السينمائي، فإذا كان تعريف السيناريو هو قصة تروي بالصور، فالفيلم الصامت مدرسة لتعلم تقنيات البناء الفني، ولو كان بالإمكان تعريف الفن السردي بكلمات قليلة-تجاوزاً-فهو بناء قصصي محكم يجيد السارد فهم مفاتيحه، سواء عن طريق الموهبة والسليقة أو الدراسة والتجربة.

صحيح أن الفيلم الطويل هو المسيطر علي الذائقة الجماهيرية منذ عرض الفيلم الإيطالي Quo Vadis ١٩١٣، للمخرج إنريكو جوازوني، حيث كان له تأثيراً محورياً علي صناع السينما في ذلك الوقت، وخاصة المخرج الأمريكي ديفيد جريفيث، أحد أبرز رواد السينما علي مر التاريخ، الذي تأثر بهذا الفيلم وغيره من الملاحم الإيطالية الطويلة ذات الميزانية الهائلة، والديكورات الفخمة، وكانت مصدر إلهام له.

الفيلم القصير يحكي قصة، والطويل أيضاً يحكي قصة، كلاهما قائم علي أسس الدراما المعروفة، شخصية تسعي لتحقيق هدف ما، تواجهها عوائق تصنع صراعاً، مما يؤدي إلي ذروة يتبعها حل، ومع ذلك يفصل بينهما مساحة شاسعة، تجعل للفيلم القصير طابعها ولونه المميز عن الطويل، إنه يشبه كلمة همسة نابعة من قلب الفنان لتستقر في قلب شخص آخر، أما الطويل فخطاب مشحون بالتفاصيل، ولكل منهما جماله الخاص، يعبر عن الفرق بينهما الكاتب والسيناريست البريطاني إليوت جروف عندما يعتبر الأفلام القصيرة بمثابة قصائد هايكو(أحد أنواع الشعر الياباني، يتميز بقصره الشديد فيكتب في ثلاثة أسطر، ويحمل شحنة شعورية وتأملية عميقة للغاية)، أما الأفلام الطويلة تشبه الروايات.

فيلم الانيميشن القصير جداً umbrella عام 2019من إخراج المخرجة والكاتبة البرازيلية هيلينا هيلاريو وزوجها ماريو بيس، أحد القصائد المرئية المؤثرة التي نبتت في حديقة الفيلم القصير، ٨دقائق وعدد قليل من الشخصيات يحملون رسائل إنسانية راقية، تشيد من جديد حصن إنسانيتنا الذي هتكته الحياة من حولنا، وسيحعلوننا نفكر كثيراً قبل أن نصدر الأحكام السريعة البلهاء ضد أي شخص، فلا يوجد أسهل ولا أرضي للغرور البشري من إطلاق الأحكام علي الآخرين، الصعب حقاً فهمهم واكتشافهم والتعاطف معهم، حينها سيولد التسامح بين جميع أبناء آدم، وسيتغير وجه العالم القبيح الممتلئ بالكراهية والمقت والحروب. 

كل ما في العالم مائدة حافلة بالإلهام للكاتب السيناريو، تجربة مر بها، خبر قرأه في جريدة، قصيدة اطلع عليها، عمل أدبي لمس فيه وتراً شعورياً، بل تجارب الآخرين كثيراً ما تكون حافزاً للعمل، وقد استلهمت المخرجة فكرة الفيلم من موقف حدث لشقيقتها، في مدينة بالماس بالبرازيل، عندما كانت في زيارة تطوعية لإحدي دور الأيتام في ديسمبر ٢٠١١ قبيل حلول عيد الميلاد المجيد، دخلت حاملة صندوقاً مليئاً بالألعاب مما أثار البهجة والسعادة في نفوس الأطفال اليتامي، عدا طفل واحد لم يهتم بالألعاب الكثيرة، ولم وبدأ يبحث عن شئ ما، ولما خاب أمله في إيجاده ذهب ليجلس وحيداً بجوار النافذة، اقتربت منه شقيقة المخرجة واستفسرت منه عما به، فأخبرها قصة ستتحول لفيلمنا الذي سيحصد الجوائز والإعجاب. 

يدور الفيلم حول ولد صغير تعيس، يجلس أمام النافذة فيري امرأة وابنتها، يدخلان لدار الأيتام الذي يقيم فيه، وعندما يلمح مظلة صفراء في يد البنت يبتهج، ويهبط للأسفل غير عابئ بالألعاب التي حملاها معهما للأطفال، كل تفكيره ينحصر في المظلة الصفراء، كأن كيانه تجمع فيها، يأخذ المظلة ويخبئها في أحد الدواليب، وسرعان ماتكتشف البنت الأمر وتغضب منه المشرفة والأم، لكن الثلاثة ترق قلوبهم حين يكتشفون قصته المحزنة، فتلك المظلة توأم لمظلة والده التي كان يحملها معه، وكان يتجول معه في الشوارع يعانيان البؤس والتشرد والحرمان، وفي النهاية يستحيل علي والده العناية به، مشفقاً عليه من العذاب يودعه دار الأيتام، كي يجد الطفل لنفسه لقمة تشبعه وسقفاً يؤويه ويقيه الحر والبرد، إنها تذكره والده الذي حرم منه، فتمنح البنت المظلة للولد، وتمر السنوات ونري الولد أضحي عجوزاً  متعلقاً بالمظلات  حتي أنه يمتلك محل لبيعها، ومايزال شبح أبيه بالمظلة الصفراء يخايله ويتراءي له، يشاهده من داخل المحل بهيئته كما رآه آخر مرة، فيهرع نحوه كطفل ويتعثر ثم يقع علي الأرض، ويتلاشي شبح الأب العائش في وجدان الطفل، وتساعده علي النهوض زوجته المحبة ونعرف فيها نفس البنت التي زارته يوماً مع والدتها في دار الأيتام، ومنحته عن طيب خاطر مظلتها. 

اختار صناع العمل سرد القصة بدون حوار، لأنها بذلك ستكون أكثر عالمية وانتشاراً وسيفهمها الناس في كل مكان، خاصة أن الإنتاج برازيلي، وبالتالي سيحتاج إلي ترجمة بلغة مختلفة كلما عرض في دولة ما، وتلك النقطة هي سحر السينما الصامتة، فإذا كانت بلبلة الألسن تقوم كعائق كبير بين الشعوب، فالصورة وما تحمله من مشاعر فياضة، وهي تروي حكايات تمس القلوب أينما كانت، ومهما كانت اختلفت الثقافات والتجارب، توحد أبناء آدم من شتي الأصقاع والاتجاهات والأيدولوجيات، كلهم يتأثرون بتفس المعاني ويحملون نفس الآلام والآمال التي يرونها بأرواحهم قبل عيونهم، وبالاستعانة بموسيقي غابرييل ديب تتعمق المشاعر التي يثيرها الفيلم، وتبدو الأنغام لها شخصيتها المستقلة المشاركة في الأحداث، فلا يمكن تخيل فيلماً صامتاً أو ناطقاً بلا موسيقي، وقد صاحبت النغمة الصورة منذ العهد الأول للسينما، فعلي جناح الموسيقي عشنا مشاهد الرومانسية والخوف والأمل والحزن، وتسللت لنفوسنا حكايات موازية نسجتها الآلات الموسيقية وهي تتحاور فيما بينها. 

المظلة انتقلت من الحكاية الأصلية للطفل البرازيلي إلي رمز إنساني، عندما عرضت في فيلم قصير جداً... رمز للفقدان الذي يعذب كل واحد منا، ويحيا ويتحرك وجزء من وجدانه غائب، ربما حياتنا كلنا عبارة عن محاولات لملء الفراغ الذي خلفه الفقدان، لكن لا شئ يستطيع ولو ظل محاطاً طوال الوقت بأشباه الشئ الذي فقده! والفيلم يعرض بدقة ردود الفعل تجاه الفقدان، فعلي المستوي العاطفي نري الطفل غارقاً في الحزن الشديد والشعور بالوحدة، وعلي المستوي السلوكي يتجنب فهو منعزل يتجنب الأنشطة الاجتماعية، كما أشار الفيلم أيضاً لما يفعله الفقر والحاجة في الأفراد، يباعد بين الابن وأبيه، ويهجر الأب مسئولياته تجاه ابنه لعدم قدرته علي توليها، ويظل الأب هو الغائب الحاضر طوال حياة الابن، يحتل خياله حتي وهو بعد أن يطعن في السن، الأب المفقود هو السعي لما لا يدرك، ورغم أن العجوز يري أباه في هيئة الشباب إلا أنه يركض محاولاً اللحاق به، لأن العاطفة نحو ما فقده هي التي تسيره، ففي داخله يقبع الطفل الصغير المحروم من عطف والده وحمايته، وكم سيكون تأثير ذلك المشهد مضاعفاً لو نطق العجوز بكلمة" papai" أي بابا في اللغة البرازيلية، هنا سيتجلي سلطان الكلمة علي النفوس، لفظة بسيطة ستحدث تأثيراً كبيراً عندما تسمع في لحظة مشحونة كتلك، مع التصميم الرائع للشخصيات بإحساس المصمم  فيكتور هوجو المعروف بأعماله مع شركات كبري في عالم السينما كديزني ومارفل.

عبقرية الفيلم القصير جداً تكمن في قدرته علي معالجة موقفاً سريعاً أو حياة بأكلمها، عن طريق التكثيف الشديد الذي يتميز به، مما يعطينا وجهة نظر تأملية، فقلما نشاهد فيلماً قصيراً جداً ولا نفكر بعده في أبعاد طرحه للموضوع، فهو بارقة فكرية وعاطفية تجعلنا نعيد النظر في الأشياء العادية والمستهلكة في الحياة اليومية، لأنه يكشف عن جوهر أمور كثيرة تمر بنا ولا نتوقف عندها بينما يجب أو نتوقف عندها كثيراً، لأنها حياتنا التي غامت معانيها في خضم الاعتياد و المادية... الفن بصفة عامة يشبه القبعة السحرية في مسرحية"الطائر الأزرق لموريس ماترلينك، التي منحتها الجنية بريليون، للطفلين تيلتيل وميتيل لتفتح عيونهما علي حقيقة الأشياء التي تشكل ماهية العالم الذي يعيشان فيه.

التأثير القوي لفن الفيلم القصير جداً يستدعي بناء خاصاً، والبناء الفني لفيلم umbrella نموذجاً لفهم ماهية هذا الفن المراوغ. الإطار الزمني المحدود يحتم الاقتصاد في العناصر الدرامية الشخصيات، التفاصيل الزائدة كلها يجب بترها، والفكرة لابد أن تكون جلية ومركزة، فالأفلام القصيرة جداً لها قاعدة أساسية" الأقل هو الأكثر"، وقد عمل المعماري الألماني الشهير لودفيغ ميس فان وفق تلك القاعدة، والسيناريو السينمائي يشبه فن العمارة لحد كبير أو هو "فن معماري أكثر منه أدبي" علي حد تعبير المخرج إيليا كازان، هذه السمات نجدها حاضرة في الفيلم الذي لا عدد الشخصيات القليلة التي لا تتجاوز الطفل والطفلة والأم والمشرفة والأب وبضعة اطفال، وعبر فوتومونتاج سريع يكشف لنا ما يقتضي لفهم مدي بؤس حياة الطفل وأبيه، وحرمانهما من أبسط الملذات التي تتمتع بها الأسر العادية، والفكرة في مجملها تكمن في التعاطف مع الآخرين، وقدرة أي واحد منا أن يكون فارقاً بتفهمه وحنانه في مستقبل الآخرين، وعدم التسرع في الحكم علي الأفعال لأننا لا ندرك أبداً الدوافع الحقيقية وما يعانيه الآخرون ويؤثر في سلوكياتهم، كما أن الآخرين لا يعرفون دوافعنا الحقيقية، بل إننا أنفسنا في أحيان كثيرة لا نفهم ذواتنا وأسباب تصرفاتنا!

أما علي مستوي الحبكة فالحدث المحفز يحدث في الفيلم القصير جداً، بدء من اللقطات الأولي، وربما قبل بداية أحداث الفيلم، لأن الوقت المحدود لا يسمح بالإسهاب، ولقد ظهر الحدث المحفز المتمثل في المظلة منذ الثواني الأولي للفيلم، هذا الإيجاز السردي أهم ملمح علي الإطلاق، فهو عندما يثير في نفس المتلقي مشاعر صادقة بأقل الإمكانيات السردية وفي وقت قصير للغاية، فيجب علينا تقدير هذا الفن والاهتمام بصناعه، فالفيلم القصير جداً يتتبع شخصية واحدة، يتوحد معها المتفرج، فلا مفر من بنائها بتركيز شديد ليتعلق بها المشاهد في وقت محدود.

استخدم فيلم umbrella  تلك السمات المميزة للفيلم القصير جداً بحرفية مذهلة، وبني بها قصة مؤثرة وإنسانية لأبعد مدي، تعلق المشاهدون بها في كل مكان، فتمكن أن يبرز كأحد الأفلام الناجحة...كل موقف نمر به وكل شخصية نقابلها تصلح لتكون فيلماً قصيراً جداً يحمل بصمة فنية وإنسانية، إذا تمت معالجة فكرته مهما بدت بسيطة-بل كلما كانت بسيطة غدت أجمل- بصورة فنية صادقة ورؤية عميقة للنفس البشرية ومكان الفرد وسط عالم ممتلئ بالأحداث والشخصيات والمشاعر، تنتظر من يكشف عن عن جوهرها الخفي.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق