الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

الرجل الطائر



الميثيولوجيا القديمة تحمل في ثنياها خبرة ومعرفة حضارات وصلت لذروة لم يتمكن من جاءوا في زمن لاحق من الاقتراب منها! الميثيولوجيا لها مرادفها في العربية"الأسطورة",معني ملتبس في الأذهان يُترجم باعتباره خرافة أو خيال لم يوجد,رغم أن الأسطورة "هي كل ما سُطِر"أي كل ما هو مكتوب في سطور "أسطورة"!!
من الأجداد العظام في مصر القديمة,للسومريين في بلاد بين النهرين حتي فارس ثم اليونان,نجد الفلك يحتل مكانة أساسية في تلك الحضارات بمعتقداتها وأديانها وأعيادها وأدبها,مدرسة من شارحي أساطير تلك الشعوب القديمة المحيرة,يرون أساطيرهم بعيون فلكية,فكل شخصية أو حدث ورد ذكره في كل حضارة له أصل فلكي,ذلك التأويل ليس بعيد عن واقع النص ونصوص التسجيلات الفلكية التي وصلتنا,فالسماء ظلت طوال الوقت هاجس للإنسان منذ أن رآها لأول حين ظهر علي الأرض مرة حتي استطاع الصعود إليها والتجول فيها بمراكبه الفضائية,وفي الأديان الثلاثة الكبري وغيرها من الديانات محدودة الانتشار ذات الأثر الفلكي البارز بصورة ملفتة,منه يؤكد المؤمنون علي عظمة دينهم وبه يهدم الملحدون أسس تلك الديانات!
الأهرام في مصر وأبو الهول فعلاً لا يمكن فهم مبرر بنائهم وطريقة عمارتهم الملغزة لو لم نرجع لما فوقهم من شمس ونجوم أراد الأجداد من خلالهم التواصل مع السماء بلغة خاصة,كذلك الحال مثلاً في أبراج بابل.
أجل من يقل أن سبب بناء الأهرام وأبو الهول يعود لحسابات التقويم؛لضبط الزراعة والفيضان,فهو صاحب رأي مُقدر مدعم بالشواهد الكثيرة...الأكيد أن مدخلي الفلك والنيل,بوابتان لفهم الأثر المادي لحضارة الأجداد العظام.
أول شخصية موسوعية عرفها العالم,هو الحكيم المصري (إيمحوتب)عصامي الترقي في المراتب والمناصب من شخص عادي إلي شخص يضع ملك مصر زوسر اسمه بجواره في مثل بيّن علي تمجيد مصر القديمة للعلم والعلماء,أحد أهم الشخصيات في تاريخ الحضارة البشرية,حمل ضمن ألقابه المتعددة لقب(كبير الرائيين),لقب يشير لواحد من مهامه الفلكية في تأمل السماء ومراقبة حركتها.
بين الجد إيمحوتب العظيم و كارل ساجان الجميل ظهر فلكيون عباقرة في الحضارة العربية,جمال ساجان يكمن في رغبته المتحرقة لاكتشاف الكون من حوله,هذا التحرق يتحول في كتبه وأحاديثه إلي أغان كونية جميلة,نكاد نسمع صوته يرتل آيات العلم الفيزيائي الفلكي,وفوق ذلك اصطحابه للقارئ العادي من يده في رفق آخذاً إياه في رحلة فضائية تسبب الدوار لفرط جمالها وإدهاشها,أنا من فرط إعجابي بشخصية العالم كارل ساجان صاحب "رومانسية العلم"...ياله من اسم!فكرت-حين كان التفكير متعة!!!-أن أكتب رواية علمية مبسطة للأطفال يصطحب فيها كارل ساجان طفل,يتجولا سوياً بين الكواكب والمجرات,ومن خلال الأحداث يتعرف الطفل علي الفيزياء الفلكية بصورة جذابة.
لا يقل عن ساجان جمالاً عباس بن فرناس مخترع آلة ذات الحلق,الحكاية الشعبية المسمومة عن عالم متهور اغتر بعلمه,فصمم علي الطيران ثم سقط ميتاً للأسف تعود لخطأ من أحد الباحثين خلط في التواريخ والشخصيات فأنتج قصة شعبية نالت من عباس بن فرناس,الذي بحث وفكر وقدر,ثم اعتمد علي علمه وتجاربه فاستطاع بالفعل الطيران لمسافة كبيرة لكن أثناء الهبوط تأذي لعدم وجود ذيل في ردائه الريشي, كان من الممكن أن يتفادي الأذي لو استطاع أن يتحكم في حركة الجناحين بطريقة تؤمن هبوطه,لكن يكفيه شرف ذكره كأول شخص استطاع الطيران...بعد الحضارات القديمة بالطبع!فنحن في مصر نجد نماذج لطائرات شراعية اندهش لها رواد الفضاء حين رأوها,وجري عليها التجارب فعلياً واستطاعت أن تطير!
يطالعنا في هذه التجربة العلمية الاستثنائية وجه عالم شجاع,حافزه علي المخاطرة تمكنه من خبرته العلمية المؤهلة له أن يصعد علي أن يقفز في الهواء من مرتفع عال طائراً دون خشية!علي عكس الشائع عن هذه المحاولة التاريخية المحفزة للإنسان أن يحلق بخياله لأبعد مدي ممكن,بشرط أن يتبع الخيال العمل الجاد والمحاولة المثابرة لتحويل الفكرة في خياله لأمر واقع يصنعه بنفسه.
دوماً ما يحلم الإنسان أثناء نومه أنه يقع من شاهق؛اختلفت التفسيرات حول هذا الأمر,أشهرها تفسير يعود لتأثير الأديان المختلفة التي اتفقت علي أن العقل يختزن سقوطه الأول من جنة عدن.التجربة الأرضية المعاشة تخبرنا أن الجاذبية فعلت فعلها في هذا المسكين الخائف الهارب من الضواري والوحوش دون أن يتسلح سوي بعقله,فكان هائماً يخشي في كل مطاردة أن يسقط بفعل الجاذبية الأرضية... لو كنا ندرك فعلاً ماضينا لكان ابن فرناس رمز للسمو فوق الدنيا والبشر بعلمه و وعيه بما يقدم عليه غير عابئ بالخاطر طالما تجهز بإدراكه الكلي لما يفعل,لكن للأسف تحولت تلك اللحظة المجيدة في حياة الثقافة العربية إلي مادة للتندر تقفز عليها السخرية من ألسنة الساخرين البلهاء!
تلك اللحظة استعادها عبد الرحمن الشهبندر:
                      
إن يركب الغرب متن الريح مبتدعا

ما قصرت عن مداه حيلة الناس

فإن للشرق فضل السبق نعرفه

للجوهـري وعباس بن فرناس

قد مهَّدا سبلاً للناس تسلكهـا

إلى السماء بفضل العلم والباس

الغرب نفسه لم ينس عباس بن فرناس ووضع اسمه عالياً علي القمر...فوهة ابن فرناس.
ارتبط بن فرناس بالسماء بصورة دعته أن يصنع قبة سماوية متقنة للسماء بنجومها وسحبها,ودعته كذلك لصناعة آلة ذات الحلق,التي تعتبر ابنة للآلة اللاسطرلاب يونانية الأصل,وبين العرب واليونان في العلوم والفلسفة ما بينهما!!!
ذات الحلق: "هي آلة فلكية تمثل المدارات الفلكية للكرة الفلكية عبر حلقات متداخلة، يرصد بها الكواكب. استخدمها البتاني في أرصاده. وتركب من حلقة تقوم مقام منطقة البروج، وحلقة تقوم مقام الدائرة المارة بالأقطاب وتركب إحداهما بالأخرى بالتنصيف والتقطيع.
وهي مركبة من حلقات متحدة المركز، لتمثل الدوائر المذكورة سابقاً بالإضافة إلى بعض دوائر أخرى أساسية. وكي يسهل تحريك كل حلقة على حدة، فقد اختلفت أحجامها، حتى لا يحدث احتكاك يعوق حركاتها. والحلقات الأساسية هي خمسة كما يلي:
1-
دائرة الأفق.
2-
دائرة توازي مستوى الزوال أي المستوى الأعلى المار باتجاه الشمال والجنوب.
3-
الدائرة الكسوفية.
4-
دائرة خط الاستواء.
5-
الدائرة الأخيرة متعامدة مع الرابعة، وتدريجاتها تبين البعد عن دائرة خط الاستواء. وباجتماع الدوائر الأصلية التي تنسب إليها مواضع الكواكب والنجوم في السماء، وفي آلة واحدة أصبح في مقدور العالم الفلكي رصد المواقع في أي لحظة باستخدام مؤشر أو أكثر في هذه الحلقات."

المؤسف أننا بعد قرون من ذروة الحضارة العربية,والمقصود بالحضارة العربية تجمع الشعوب المختلفة تحت لغة واحدة بفعل الدين,أما بني قحطان وعدنان من سكان الجزيرة العربية فلا يُشار إليهم حين الحديث عن الحضارة العربية,المصيبة أنهم حتي اليوم ما زالوا شوكة في الثقافة العربية التي ازدهرت في عواصم لم تكن عربية في الأساس,علي يد شعوب لها حضارة وتاريخ انصبغت باللغة العربية والدين الإسلامي   فاصطنع مصطلح(الحضارة العربية)ونسب من ليس منها لها!!!
بعد أن قال الجغرافي العربي الشهير الإدريسي:"الأرض مدورة كتدوير الكرة والماء لاصق بها وراكد عليها ركوداً طبيعياً لا يفارقها...والنسيم محيط بها من جميع جهاتها"ثم يقرر أنها غير صادقة الاستدارة أي بيضاوية,نجد ابن باز ينكر كروية الأرض وعدم دورانها حول الشمس بعد أن استفاد كوبرنيكوس نفسه من علماء العرب في هذه النقطة,في ضربة من الضربات الموجهة بضراوة نحو أي تفكير علمي في هذه المنطقة,علي الرغم من كون سكان الخليج أنفسهم حياتهم قائمة علي استهلاك جائع لكل الإنجازات العلمية التي ابتدعها أناس يؤمنون بكروية الأرض ودورانها حول الشمس,ولا يعرفون عن ثقافتهم سوي أن ابن باز الشهير هناك ينكر كل ما أثبته علم الفلك!!
وما زلت الإنسانية كبطل رواية الجحيم لهنري باربوس,تري الحياة كلها من ثقب صغير تحاول كل الأجيال الإنسانية توسعيه بدمها وعرقها وسهرها وعلمها وعملها,رغم كل المعوقات التي تود لو لم يكن للناس حتي ثقباً صغيراً يطلون منه علي الكون اللا متناهي,متعدد الأبعاد,عجيب التكوين مدهش الاستمرار,عظيم التأويل بالنسبة لهذا الإنسان  الذي وصفه جميل صدقي الزهاوي:
وما الأرض بين الكائنات التي تري   بعينيك إلا ذرة صغرت حجماً
وأنت علي الأرض الحقيرة ذرة     تحاول جهلاً أن تحيط بها علماً






هناك تعليق واحد: