الخميس، 10 سبتمبر 2015

مملكة من وهم وخيال

يعتبر عبد الكريم الجيلي من الصوفية الفلاسفة,الذين جمعوا بين التجربة الروحية والتأمل العقلي,لتوليد أفكار فلسفية ترتدي الخرقة الصوفية,أو معاني صوفية بثوب فلسفي.
وهو القائل:"ألا أن الوجود بلا محال     خيال في خيال في خيال
ولا يقظان إلا أهل الحق                 مع الرحمن هم في كل حال
ورد هذان البيتان في كتاب "الإنسان الكامل",أشهر كتاب للجيلاني,الذي شغلته في كينونة الوجود الدنيوي,في نثره وشعره,وكان يؤكد في كل منهما أن الوجود محض خيال وأن الخيال"حياة روح العالم",وأن الله أعار الموجودات وجودها فلا وجود لها بذاتها ,هنا نجده ينضم مع غيره من الصوفية كابن عربي وابن الفارض وابن سبعين وغيرهم الذين لم يروا في الوجود كله إلا الله,هذه النقطة صنعت جدلاً حول إيمان الجيلي بوحدة الوجود من عدمه,لكن الجيلي لم يكن من أهل الوحدة في غالب الظن!!
تكررت كلمة الخيال ثلاث مرات,فالخيال الأول هو خيال الحياة الدنيا,بتفاهتها وهرائها وتسربها من بين يدي الإنسان كما يتسرب الماء من مصفاة واسعة الثقوب,فالحياة تشبه شاشة تعرض مشاهد الحيوات الإنسانية ومصائر البشر وتقلبات الزمن,لكننا لا نري آلة العرض ولا نعرف أصل الفيلم أو بدايته,ولا يمكن لمخلوق مهما كان أن يعرف الصانع الوحيد لهذا الفيلم الذي كتب السيناريو الأعظم...سيناريو الوجود,والسينما كالدنيا حلم ووهم ,الفارق الوحيد أن من متع السينما أننا نتحول لمتفرجين لا دور لنا ولا مهمة مطلوبة ليس علينا إلا المتابعة الصامتة للفيلم,أما في الدنيا فكل فمن الطبيعي أن يصبح كل إنسان هو الشخصية الرئيسية بالنسبة لنفسه,ولا أقول البطل!!!
يؤكد الجيلي علي رؤيته بالحديث النبوي"الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" وكل إنسان علي قدر قربه من الله في الدنيا تكون يقظته وانتباهه"لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد...أجل فيلم لن نخرج منه إلا مع كلمة"النهاية"وحتي الموت لن يوقظنا عند الجيلي فهناك خيال آخر في الانتظار.
يوم القيامة أيضاً خيال,لأن الناس مشغولة بالمحاسبة بين الخوف والرجاء,الأمل واليأس,وكل هذا خيال!
والخيال الثالث سيلاحق البشرية حتي الجنة والنار,فأهل الجنة في شغل عن الحقيقة بالنعيم وأهل النار في شغل عنها بالألم والعذاب!
كل هذا عند الجيلي نوم وحلم!
يستيقظ الإنسان وينتبه في حالة واحدة,سيجربها أول مرة بعد كل هذه الرحلة الشاقة المكتوبة عليه,حين يتجلي الله"الحقيقة"علي عباده,عندها سيفني أي شاغل يشغل عقل الإنسان ويحجبه في دنيا الوهم والخيال,سيصبح وجوده حقيقياً لا خيال,لما يهلك كل شئ في الكون ولا يبقي إلا وجه الله وحده ليطلع عليه.
الجيلي من الشخصيات التي عانت قلقاً جعلها لا تستقر في مكان معين ثابت,بل سافر ورأي وجرب,ذاق الدنيا فعرف ماهيتها,مرت به الأيام فرآها ترتحل به بسرعة لا تصدق,لم يطمئن لوجوده وسعي لمعرفة الحقيقة,فعرف أن الحقيقة والاطمئنان بل والوجود نفسه ليسا من هذا العالم,وفهم قول المسيح"مملكتي ليست من هذا العالم"...فالعالم خيال في خيال في خيال.
مادامت الأيام تجري والدهور تنقلب والزمن يفعل فعله,فنحن ما زلنا داخل الفيلم الإلهي الكبير,نيام لا يقظة لنا ولا انتباه,لن نعرف أنفسنا ولا الوجود من حولنا إلا في مملكتنا التي نسعي إليها في حضرة الملك...المملكة التي ليست من هذا العالم!!!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق