الخميس، 10 سبتمبر 2015

الجامعة الزيدانية

 هل مر ما يقرب من عامان علي هذا الكلام؟!(يوسف زيدان... وأنا)ما أسرع مضي الأيام,وما أشقي الإنسان في مواجهة الزمن,الذي يهد حياته ويبنيها بتغيراته القاسية وأحكامه التي لا تعرف الرحمة.
بعدها رأيت يوسف زيدان في مركز الإبداع الفني,وكانت المحاضرة عن فلسفة الجمال والفن,كان يجلس علي كرسي خلف مكتب تحت خشبة المسرح,يواجه جمهوراً جلس في مقاعد علي شكل نصف دائرة,كلهم منجذبون سمعاً وبصراً له,كلهم في زمن الجوع المعرفي والعطش الثقافي والجدب الفكري يفيئون تحت ظل شجرة يوسف زيدان المعرفية,التي وقفت عندها كثيراً أتأمل جذورها الممتدة في أرض التاريخ والتراث والفلسفة والأدب والدين,وعرفت أنه سقاها بسنوات عمره التي رحلت به حتي وصل للسابعة والخمسين,أمد الله في عمره,وعَمَّرهُ بيننا رحمة بشباب هذا الوطن.
سأل قبل أن يبدأ تلقي الأسئلة من الحضور عن الفائز بسؤال الإسبوع الماضي,رفعت يدي وكان بجواري صديق رفع يده هو الآخر,لأنه يعرف جيداً أنني في مثل هذه المواقف التي تبدو في غاية البساطة,لا أعرف كيف أتصرف أو ماذا أقول,لكن زيدان سأل باهتمام دفعني لرفع يدي علي الفور,استغرب "اثنان رفعا إيديهما المفروض واحد فقط",لما وجدني صديقي رافعاً يدي أشار عليّ فقال"حاجتك هنا,حتي تجلس مطمئناً".
فور انتهائه من كلامه أشار لي فسرت له وسط الزحام المحيط به في غاية الارتباك عاجز عن أي قول أو فعل,لم تستطع ابتسامته المرحبة ولهجته الودودة أن تزيل هذا الارتباك,لم أنطق بحرف حتي وقع لي علي كتاب متاهات الوهم"إلي الصديق محمود قدري,مع محبتي وتقديري لاجتهاده وأدبه"أخذت الثلاث كتب وهمست بصوت لا يمكن أن يسمعه إلاي"شكراً يا دكتور"وخرجت من الدائرة المزدحمة حوله هارباً!!
وأنا أمام البوابة استوقفني شاب يكاد يركض خلفي ,سألني إن كنت أنا محمود قدري فأجبت بالإيجاب,فعلق علي التدوينة التي مضي عليها عامين"كنت أريد أن أخبرك أن كل كلمة فيها صحيحة وصادقة"شكرته علي اهتمامه ومضيت.
وهاهو سؤال جديد ولقاء جديد...
بين السؤالين كان يذكرني زيدان مع أغلب إجاباتي بأوصاف تشجيعية وعبارات تثير في داخلي الحماسة والسعادة معاً,وتزيد شوقي لسؤال جديد استغرق فيه ويستغرق فيّ,وإن لم يفعل أشعر بضيق شديد وغيرة لم أعرفها في حياتي قبلاً ممن ذكر أسمائهم! وحنقاً علي الظروف الطارئة التي تشغلني عن التركيز في الإجابة,كتعب جسدي أو انشغال بتخليص أوراق رسمية من جحيم المؤسسات الحكومية أو تمضية أيام المصيف في الأسكندرية,التي أسقطت ذكر اسمي في السؤال الأخير,وشغلتني عن سؤال الشهر الماضي!ويرحب, بل ويثير اعجابه لو انتقدت سؤال ما ويعتبر هذا الانتقاد من الأمور المهمة... وفرت لي فترة الهراء الجامعي الرسمي فراغ كبير يعلم الله وحده بأي شئ كنت سأملؤه بالضرر أو النفع,لو لم يكن هناك تدريس وتعليم حقيقي في الجامعة الزيدانية!الجامعة التي أنتمي إليها وأعتبر نفسي واحداً من تلاميذها,وأسعي جاهداً لأكون أحد النابغين فيها,فأستاذنا أستاذ وجامعتنا جامعة وعلمنا علم,وتلك أول مرة أجد في مصر مسمي ينطبق علي ما يُطلق عليه.
حدثته منذ أيام وكالعادة كان مرحباً ودوداً,يتكلم كأنه صديقك منذ أعوام وبالكاد افترقتما الليلة الماضية!
قال أنه يقرأ كل ما أكتب,فأجبته أنني وصلتني هذه المعلومة,فقلت عن طريق الخنساء,صديقة مغربية مقربة جداً مني,وأعتز جداً بهذه الصداقة,وكانت قابلته أثناء زيارته الأخيرة للمغرب وتحدثت معه عني وذكرت لي المحاورة,وقد كنت أعرف هذا من قبل أن يخبرني به زيدان والخنساء,فهذا أشد ما يجعلني أتعلق بتلك الأسئلة,لأني أعرف أنه يقرأ كل ما يُكتب عنده ويهتم بكل إجابة,فأحياناً أتعمد الدخول في موضوعات بعيدة نسبياَ وإن كانت علي علاقة  بالسؤال؛لأنها تضطرم في داخلي أيضاً ولا أجد من أناقشه فيها فأتخفف من دوّار التفكير وأزيح بعضاً من عناء البحث,وأنا أعرف أن كلامي لن يذهب هباء,فيوسف زيدان شخصياً سيسمعه...فكيف لا أقول إذن ما عنّ لي؟!!!أو  كما قال عني في واحدة من تعليقاته"أفيض في الشرح والتبيان فتخرج بي خيل الكلام عن المضمار"
ثم وصف حالة الاغتراب التي أعيشها بالضبط ,و استشفها من كتابتي ونصحني أن أتعرف علي من يشبهني من النابهين حتي لا أعاني وتطوح بي رأسي لمناطق بعيدة...أكدت له أن هذا ما يحدث لي فعلاً!!!
تأخر لقائي به وحصولي علي الكتب مدة شهرين؛لتواجده في القاهرة,ولما عاد عدت...عدت أنا الآخر للأسكندرية,المدينة التي كانت تسمي في زمنها المجيد"مدينة الله العظمي!"دخلتها من ناحية منطقة سموحة,حيث يقع مشروع تجاري بغيض اتخذ اسم"جامعة خاصة"ستاراً ليشارك في جريمة التعليم المصري,هذه الخرابة التي حصلت منها علي شهادة قبل عدة شهور,أمسكت بها بين يدي ليال عديدة,أفكر جدياً في تمزيقها مليون قطعة,لولا مائة ألف جنيه وأكثر دفعها والدي لأحصل عليها,ولم أحصل في مقابل تلك الأموال إلا علي شهادة أعتبرها ككل شهادات اللا تعليم المصري شهادة زور لا أعترف بها ولو منحوني اللقب,أتري لو سرقوا عقلي وأهانوه واحتقروا تفكيري وحطموا مواهبي وزرعوا الجهل والقيم المدمرة بداخلي وقزموني متعمدين وأرادوني معاقاً ذهنياً عامدين,في مقابل كل الشهادات الموجودة عندهم هل سأصبح بتلك الأختام متعلماً...أجل "هي أشياء لا تشتري"!!
لكني الليلة لا علاقة لي بهؤلاء الأوغاد الجهلة,الليلة أنا ذاهب لأستاذ يعلمنا,ويكافئنا من ماله علي شطارتنا في الإجابة,لا يسرق منا أعمارنا وأموالنا كما تفعل المؤسسات التجهيلية التي اتخذت اسم مدارس وجامعات,بل يهبنا الجوائز والتشجيع,استعوضت الله في مالي الذي سرقوه وعمري الذي أضاعوه وعقلي الذي سلبوه-وعوضني فعلاً بالجامعة الزيدانية-وأمنت علي قول النبي"العلماء ورثة الأنبياء,إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً,إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"وكدت أهتف في الميكروباص"يا ناس والله العظيم مشكلة مصر الأساسية التعليم,لا زم يكون النهوض بيه هو المشروع القومي الأول لمصر,لازم الجريمة دي ننهيها كفاية أجيال ضاعت بسببها فضيعت البلد كلها"
ما أبعد صرخة يوسف إدريس وهو يهتف"أهمية أن نتثقف يا ناس"من صرختي المتواضعة"لابد أن نتعلم يا ناس!!"...ماذا فُعل بهذه البلاد؟!
كل مرة أدخل الأسكندرية,يمتلأ كياني كله بالفقرة التي افتتح بها نجيب محفوظ رواية ميرامار"الأسكندرية أخيراً.الأسكندرية قطر الندي,نفثة السحابة البيضاء,مهبط الشعاع المغسول بماء السماء,وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع"ولكم مر علي هذه المدينة أعوام من الشهد وقرون من الدموع!!!
تمشيت حتي منطقة كليوباترا حيث كان اللقاء,وهنا سأكتب عن يوسف زيدان كما رأيته.
مرت دقائق انتظره فيها محبوه بشوق,بعد عودته من القاهرة,بل وكانوا يهللون للفائز لأنه وفر لهم مناسبة لقائه,جاء وسلم علي بعضهم من عند البوابة قبل أن يتجه للجلوس بمحاذاة الشاطئ,صافحته مقدماً نفسي رداً علي استفساره,فتساءل مندهشاً
-إنت محمود قدري؟!جايب النصاحة دي منين يا محمود؟
ضحكت وأنا أتمتم:
-لا نصاحة ولا حاجة!
فأكد:
-لأ ناصح.
سار نحو الطاولة المصفوف حولها عدة كراس, سرت خلفه واتخذت مقعدي,ثم ناداني,فاقتربت منه:
-إنت بتدرس فلسفة؟
-لأ أنا خريج إعلام.
-بس بتقرا كتير
-يعني!
-وهاتشتغل في الإعلام؟
-زي ما تيجي!أنا لسه مخلص السنة دي وجيشي بعد شهر.
-مش هايرضوا يشغلوك,دماغك ما تنفعش معاهم,دماغك دي هاترفعك السما....أو هاتجيبك الأرض.
قسم العبارة بين الحاضرين وبيني:
-أصل أنا متابعه من زمان كتابته جيدة جداً,أنا كنت مفكرك أكبر من كده.
دار بالحديث علي الحاضرين ورجع إلي,يحاول أن يخرجني من حالة الخجل والصمت المسيطرتان علي:
-وإنت يا محمود إيه آخر أفكارك؟
لو سألك يوسف زيدان باهتمام عن آخر أفكارك,فستتردد كثيراً قبل أن تعرض عليه "أفكارك!!!"...لم أجد رداً بالطبع فأكمل:
-بتكتب إيه...بتفكر في إيه؟
حدثته عن محاولات في القصة والرواية,و سيناريو لم يكتمل مأخوذ عن رواية عزازيل,سألني إن كان السيناريو في المدونة فأجبته بالإيجاب,وبدأ الحديث يتجه نحو عالم الأدب والرواية. ثم قدم شابان من كردستان العراق؛لينضما للجلسة المفتوحة لكل من يرغب,فأخذ يناقشهما في القضية الكردية ويسألانه عن تاريخ الأكراد بلا حساسية من قبلهما كأنهما يسألان واحداً منهم!فخيم شبح السياسة الذي لم يعد مرعباً وحساساً كالماضي, أصبح مثيراً للاشمئزاز!
طلب مني أن أقرأ قصيدة محمود درويش "ليس للكردي إلا الريح",غني عن القول إني امتعنت رغم إصراره"عشان نكسر حاجز الخجل ده",ولما احمر وجهي وظهر علي الاضطراب"لا أعفيني أنا",اتسعت ابتسامته وتولي هو قراءتها,أو الأدق التغني بها,عرفت وقتها كيف يضفي الإلقاء الجيد علي النصوص الأدبية,شاعرية جديدة ويضئ مناطق و يوصل أحاسيس تعجز القراءة العادية عن الاقتراب منها.
جرت قصيدة درويش عن الكردي الذي ليس له إلا الريح قصيدته عن العبري والعربي المتشابهان لحد التطابق,ذلك التشابه الإنساني العابر لكل شئ,وصفه لإنسان وإنسان,قرأ منها مقتطفات انعطفت بنا نحو المسألة اليهودية,التي أثارها بندواته في العام السابق,الخلاصة التي يمكن الوصول لها في رأي زيدان عن اليهودية,يمكن تعميمه عن أي قضية أخري استهلكت الجهود العربية ودفع ثمنها أجيال,وهي محاولة زرع أشجار من الحقائق علي أراض بور من الوهم, و إغراء الناس بانتظار سقوط الثمر,لكن هذه الأشجار الجرداء لا تُسقط إلا الدم والخراب,ومع ذلك كلما حاول أحدهم اقتلاع هذه الشجرة المدمرة,يتصدي له المنتفعون بانشغال الناس بها عن مصائبهم,فيُنفي هذا ويقتل ذلك أو يسجن أو يغتال معنوياً,وهكذا,حتي تظل أرض الوهم علي حالها ,ويظل المتوهمون ينتظرون الثمار المستحيلة,وهي أزمة واضحة في تفاصيل المجتمع المصري,والتجريف الذي حدث فيه في العقود الأخير,حيث أصبح الهراء هو سيد المشهد وتواري التفكير وإعمال العقل في عقول أفراد قليلة هم في الغالب مهاجرين هرباً من مصير من يبقي هنا!
انضم أحد معارف زيدان للجلسة,فقدم له الموجودين ,حين جاء دوري أشار ناحيتي:
-وده محمود,اللي حياته هاتكون مأساوية.
-أكتر من كده ؟!
اتسعت ابتسامته:
-لو كنت وصلت للآخر خلاص!
-لا لسه فاضل شوية صغيرين!
زيدان حين يستفيض في الحديث,ويتعمق سارداً الموضوع وهو يستعيد نصوص تراثية طويلة يحفظها عن ظهر قلب!أشعر أنه عينيه تنعكسان داخل الخزانة المعرفية في عقله,يتكلم بالتفصيل كأنه يقرأ منها ما أسمع...وبالمناسبة مقاطعته بتعليق أو سؤال وهو في هذه الحالة مغضبة جداً!!!وكانت هذه هي أطول مرة في حياتي أنظر فيها في عيني إنسان مباشرة وخاصة أنه كان يوجه أحاديثه لي مباشرة لوقت طويل,فالتجارب جعلت إيماني يزداد بمعني سارتر الذي ذكره في مسرحية "لا مفر" بأن"الجحيم هو الآخرون"!
في الزمن الذي يوقع فيه زيدان أعماله,يفرض عليه حصار من كل جانب,لم أرد أن أكون أحد المحاصرين فانتحيت جانباً حتي ينتهي,لكني سمعته ينادي"فين محمود",اقتربت منه بنسخة من كتاب اللاهوت العربي ,ليوقعها بـ"إلي المبدع الخجول محمود قدري.محبتي"وأعطاني الكتاب وهو ينظر لي نظرة باسمة ذات مغزي.
قفز بنا الوقت للواحدة,والحضور يتمنون ألا ينظر للساعة ولا يريدون القيام من حضرته التي لو دامت لأيام وأسابيع متواصلة لا أظنني سأسم أن أفكر في شئ آخر!!
ودعته وهو يشد علي يدي:
-أنا سعيد إني شوفتك...سعيد بجد,وكويس إنك نشط كده.
-شكراً يا دكتور!
عدت إلي دمنهور وأنا أشعر أن كل الأيام التي قضيتها مؤرقاُ في التفكير في سؤال,أو انشغال بقضية ما ملكت عليّ كياني,والقلق المعرفي-علي قدي-الذي عرضني أحياناً لسخرية فارغي العقول,لم يكن بلا فائدة وأن الله عوضني عنه باللحظة التي سألني فيها باهتمام"وإنت يا محمود إيه آخر أفكارك؟".أجل فالأوصاف التي أعطاها لي والتشجيع الذي منحني إياه,شهادتي الوحيدة التي أعترف بها من جامعة مبانيها في العقول وليس خراسانات علي الأرض,جامعة يشرفني أن أكون أحد طلابها,جامعة صاحبها أبعدته المؤسسات الحكومية المشئومة,فاستقبلته قلوب العارفين قدره...الجامعة الزيدانية التي سترسم مستقبل الثقافة في مصر.








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق