الخميس، 31 أغسطس 2017

قربان للحور

قربان للحور
علامات الزمن علي وجهه في الصورة التلفزيونية لم تحُل دون معرفته,تلك العينان القلقتان بنظراتهما الهيستيريا طالما قابلته في طفولته, يتذكره بصراخ وسباب أمه ودعائها عليه وهو يزعق فيها مطالباً بالمال,يصعد الطيبون من أهل الشارع محاولين ترضيته رأفة بالأم المحزونة.يسمع من شقته في الطابق الأسفل الأصوات متداخلة متشابكة لا تكاد تتميز,ينشق عنها صوت جهوري"لا أريد منها هذه المرة مالاً,أريدها أن تخطب لي نجوي ابنة علي البقال"...هذا جاره القديم الصبي المدمن المعربد فؤاد خميس...مفجر ابنته لأشلاء تناثرت أمامه علي الأسفلت.
عيد ميلادها التاسع الشهر القادم,أول عيد ميلاد سيحتفل به مع لوحتها التي يرسمها بدأب,محاولاً استعادة الحقيقة بصورة فنية,استبدال المحسوس الواقعي بالخيال الفني,خلق الله  هذا العالم بالشكل واللون والأبعاد كصورة لعالم آخر,العالم الذي تحيا فيه ابنته الآن.
-سأسميها "موناليزا"ليكون لها سحر وجاذبية عمل دافنشي العظيم.
قالت أمينة وهي تغالب آلام الشهور الأخيرة للحمل:
-موناليزا حسام بدر...جميل.
صاح حسام بفرح محدثاً نفسه:
-أسابيع وتجئ لك الموناليزا بنفسها!
كدكتور جيكل ومستر هايد,عاش حسام حياتين مختلفتين,حتي خاف علي نفسه الشيزوفرينيا,منذ الصباح وحتي وقت متأخر من المساء,يعمل في محل ملابس في حي شعبي صاخب لو زاره موتسارت لنسي مقطوعاته من ضوضاء الورش ونداءات الباعة وردح النساء وعراك الرجال,يتجلد أمام قنزحة سعيد ابن صاحب المحل وطلباته التي لا تقف عند حد,وأسلوبه المتفرعن,ومجادلة الزبائن وطول بالها في الفصال,اللحظة التي ينهار أمامها داخلياً حين تخرج من السماعات المعلقة علي الحائط الأغاني السوقية البشعة من هاتف سعيد يشعر بالغثيان والدوار وتصبح أعصابه حساسة لدرجة أن هذا الفنان الرقيق يفكر في إحراق المحل كله بمن فيه, يراقب الساعات والأيام التي يستنزفها الزمن من حياته بعيداً عن حياته الفنية بأسي وإحباط,لكن لأجل الموناليزا وضمان حياة كريمة لها ليأتي الزمان بما شاء, سيجده كأبي الهول راسخاً في مواجهة المحن,ناظراً في اتجاه الشمس بصبر واحتمال ورثه من جده الذي رفع أحجار الهرم العملاقة علي كتفيه.
في الساعات المتبقية من الليل حين يعود للمنزل,ممنياً نفسه بأحضان أمينة التي تسعه في حنان,يتقلبان سوياً علي جمرات الحب اللذيذة!يستمتعان بنشوة الوجود الأولي وذروة الاتحاد بين جسدين ليصيرا في لحظة معينة واحد لا يشعر أحدهما بنفسه قدر ما يشعر بالآخر,في الليل يخلو للحب والفن,يمتع أذنه بعزف أندريه ريو وجورج زامفير محلقاً مع سيمفونيات بيتهوفن وشتراوس وفاجنر,وعينه بمشاهدة اللوحات الفنية ,ويديه بالخلق الجديد علي لوحة بيضاء كأمنياته للإنسانية!
يُقال أن العذاب الشديد الذي هدد سليمان به الهدهد وضعه مع طيور من فصيلة أخري!الوسط الذي عاش فيه حسام طوال عمره كان عاجزاً عن فهمه أو التواصل معه,ذنبه وعقابه كان ثوران العقل وعنفوان التفكير وحساسية القلب,بين السخرية والحقد والاستهزاء عاش حياته في المجتمع المصري,ملاحظاً أنه كلما زادت وسائل المعرفة وتعدد طرق الانفتاح علي العالم,زاد انغلاق العقول وضربت التفاهة و الاستسهال كل شئ,نجا نفسه من نظام تخريب العقول في المدارس مبكراً,لم يطق صبراً بعد الثانوية العامة-أكبر مرحلة في النظام الإجرامي,وخرج متقززاً مما جربه ورآه,مدرسون جاهلون متخلفون يتجرع منهم الأطفال نفس الجهل والتخلف,وبدون وجه حق وعن طريق الدروس الخصوصية وحفظ القوالب والكليشيهات وسكبها في ورق الامتحانات,يتحصلون علي شهادات وألقاب,يتبرأ منها العالم المتقدم ولا يعترف بها,بينما في مصر هي معبودة الأسر البسيطة ومسعاها,من يتمنون في الدنيا رؤية ابنائهم وقد حملوا الشهادات كما يحمل الحمار الأسفار.
عاش حسام لا يري في الدنيا جمالاً ولا لذة ولا روح,إلا في المرأة والحب؛لذلك امتلأت حجرته رسومات لوجوه وأجساد متخيلة أو مستلهمة من شخصيات نسائية شهيرة من التاريخ والسينما,درة أعماله لوحة لنفرتيتي تستحم وسط وصيفاتها,وقد اغمضت عينها في استسلام,أثناء عمله علي هذه اللوحة شعر بدخول زميله المستهزئ به غيظاً من موهبته التي يتمني لو حاز ربعها رغم محاولاته:
-هل هذا هو الرسم؟!
تلاقت عيناهما فنظر له صفوان شذراً من الغيظ,وأكمل بلهجة متعالية:
-لا والله,يبدو أن هذا الشئ الساذج لا يخلو من جمال ما!كمل...كمل من هذه المرأة العارية قليلة الحياء؟
عقل صفوان الضيق صاغه وشكله حسام بكلامه وشروحاته لتصير مداركه أوسع,كان بالنسبة له مجرد أذن تسمع وتسمع,وحسام يتكلم ويتكلم,مع ذلك لا يلقي منه سوي الازدراء علي طريقة الإعلاء الوهمي للذات باحتقار الآخر,وهذه الشخصيات نبتت في أرض المديوكر,الكثيرون منهم لا يرقي حتي ليصير مديوكر محترماً,لا يجدوا قيمتهم ولا ذاتيتهم,إلا بتشويه الآخر والتقليل منهم ليغدوا أمام أنفسهم في المقام اللائق,كان حسام وصفوان جليسا تختة واحدة أيام المدرسة,صفوان استعبد عقله نظام التعليم فأصبح مثله سطحياً تافهاً لا يري أبعد من قدميه,ذات يوم وحسام سارح في عبقرية الحياة وألغازها,أوقفه المدرس الأحمق وسأله"ماذا كنت أقول الآن"وقف حسام متلجلجاً محرجاً يود لو قال"بالتأكيد كلام تافه لا أريد سماعه",رفع صفوان يده ليجيب,أمر الأحمق الحمقي أن يصفقوا له,وقال ساخراً"ليعطينا الله طول العمر لنري أين ستكون أنت وأين سيكون من بجانبك"بكي حسام مجروحاً بمرارة,وعزم لحظتها أن يخرج من هذا العالم المدمر.
خرج من دنيا المدرسة لدنيا العمل,فوجد أن كل ما حوله لا ينتج شخصاً سوياً علي الإطلاق,عاني المعاناة التي كانت من المفترض أن تصيب هدهد سليمان,وكما أُنقذ الهدهد أنقذته أمينة,شاهدها فحدثها فأحبها فكانت روحه الضائعه وشريكته التي انتظرها طوال العمر.
رفضت نجوي فؤاد فزاد جنوناً علي جنون,هدد وشتم ثار,في اليوم الذي أبكي فيه المدرس الأحمق حسام,انضم فؤاد لجماعة متطرفة ضمه واحد منهم رافقه في السجن, جعلته يعبد الحور العين,أصبح الله عنده مجرد وسيلة لوصال الحور,امتلأ دماغه الذي هده الحشيش والخمور,بأحاديث عن جسدها ورائحتها واستقبالها,فسكر من النشوة,وأصبح يستمني يومياً من فرط الشهوة,زملاؤه كانوا مثله متيمون بالحور,يتمنون الموت حتي ينالوهن وينكحوهن,متخيلين كافة الأوضاع المثيرة التي سيكونون فيها, لأجل الحور هانت الحياة عليهم وهان من فيها,كل شئ يرخص لامرأة لو بصقت في البحر جعلته عذباً!منهم من هاجر لسوريا المنكوبة,هدفهم الخفي الاستعباد الجنسي للنساء والعربدة الشهوانية,والحصول علي أكبر كمية من جوراي وغلمان الخلافة كالأيام الخوالي ضماناً لمتعة الدنيا...الأمر في الآخرة محسوم طبعاً!
-بابا أريدك أن ترسمني.
-يوماً ما سأرسمك وستكونين أجمل لوحاتي.
-ستكون أنت وماما معي.
-وهل نقدر علي فراقك؟
رضي بجنته الصغيرة الحلوة هذه,واحة يستظل بها في صحراء حياته القاسية,صحراء حقيقية لا يمكن أن تنبت وردة,أو يرفرف فيها عصفور,رغم حرمانهم من ماديات الدنيا عاشوا في سعادة,قبلة من موناليزا وابتسامة من أمينة,بالدنيا وما فيها,حمد الله علي نعمته وسأله الدوام,وتذكر قول أبيه ذات يوم"السعادة الحقيقية في الحياة السعادة الأسرية,زوجتك وبنيك حولك,تتشاركون الحياة بحلوها ومرها,والحب الحقيقي هو الذي يسع العيوب ويحتمل الصعاب,لو اهتز أو تنكر لها,فلم يكن حباً وإنما صفقة خسرت انهها وأنت الكسبان".
بات ليال كثيرة خاوي البطن ليوفر لهما الطعام الكافي,ولم يكن يشعر بالجوع أبداً,وانما بالامتنان,بل وربما بلغت به السعادة ليغني مع أمينة بصوتها العذب مثلما غني ليلة التفجير,وهم مبتهجين بلا سبب إلا أنهم مجتمعين"حبيبي لولا السهر ما حد شاف القمر,ولولا جرح الهوي ما كان له طعم الهوي,وأشوفك يا عيون حبيبي تحلي لي نار الهوي"
ناموا في سلام,وسهر فؤاد خميس يعد نفسه لينفجر غداً عند حلول الليل,متلقياً التهاني بزفاف بالجنة 72حورية,يأكل ويشرب الخمر جزاء للموت في سبيل الله.
لا يتوقف إلحاح البنت علي شراء العروسة الكبيرة في واجهة المحل المقابل,تلقاه بنظرات حزينة لا يحتملها قلبه,وصوتها الضارع يهزه"بابا العروسة",تحاول أمينة صرف انتباهها عن العروسة ,كلما وقفت في البلكونة ورأتها تدخل باكية"بابا متي ستشتري لي العروسة؟"
-غداً ستكون العروسة للعروسة.

في الصباح استلف مائتي جنيه من صفوان فقد غدا مدرساً ذاعت شهرته وكثرت أمواله لقوة عصاه في ضرب الصغار وتكدير حياتهم بعقابه المؤذي الشرير,نظام تربية يلقي قبولاً في حظيرة المواشي, فملك واحدة كبيرة جداً بها مئات الصغار يخرجون من عنده باكين متألمين كارهين للقراءة والمعرفة والكتب, والأهالي في حبور مطمئنين علي مستقبل أولادهم لعبقرية هذا المدرس .
حملت النقود في جيبها وجرت علي السلم تقفز فرحة بالعروسة"هيه...هيه"ونادت علي صاحبتها في البيت المجاور بأعلي صوت"يا ندي سأشتري العروسة",أخيراً نالت سعادتها الصغيرة وحلمها الضئيل,لكن حتي أحلام طفولية كهذه تحتاج لكسر نفس الآباء وتحملهم الدين وذل الحاجة.
استقبلت موناليزا العروسة في أحضانها,ولم تصبر علي الرجوع للبيت,فكت الكيس في سعادة وضمتها لها في حنان أمومي متأصل,وكلمتها"اليوم سنتعشي سوياً,ماما اليوم طبخت......"صوت قنبلة ارتج لها الشارع,هرول حسام وخلفه أمينة صارخة نحو محل اللعب,رائحة البارود والدم تملأه,تمزقت الدمي واحترقت,وعلي الأرض استلقت عروسة كبيرة متشبثة بها ذراع صغيرة,وعلي بعد خطوات جثة غير مكتملة لصاحبتها.
يوم عيد الميلاد التاسع,أنهي حسام لوحته,الموناليزا الصغيرة مبتسمة في براءة تحمل عروستها وفي الخلفية جنة خضراء واسعة,تمنح شعوراً بالطمأنينة والسلام,من خلفه سمع نشيج أمينة المكتوم,ودقات قلبها المحترق,بالكاد سمعها تهمس:
-حسام...ضمني لابنتي في اللوحة.


















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق