الأحد، 22 أبريل 2018

قراءة في مسلسل نابليون والمحروسة(1)


بين  كآبة جنائزية تشي بزمن ولي وغادر الأرض؛ليدفن في باطنها حيث ينتمي,وترقب القادمين من الجانب الآخر للبحر ليطأوا أرضاً جديدة,تخيلوها من كتابات رحالة وباحثين كفولني الذي كان مفتاح من مفاتيح الاستشراق في زمنه الأول,يبدأ مسلسل نابليون والمحروسة بقيام خديجة "سوسن  بدر"بدفن أمها واقتراب سفن نابليون بونابارت لسواحل الأسكندرية.
من البداية تسيطر الأجواء الكئيبة القاتمة المنعكسة علي الصورة جاعلة الظلال الداكنة تشيع في جنباتها؛لتكون مرآة من الظل والضوء تعبر عن نفسية الشخصيات وصورة للأحداث.
يمكن إجمالها في أسرتين واحدة تعيش في المحروسة والثانية تقبع في صعيد مصر في الفشن,تربطهما علاقة مصاهرة بزواج محمود"أشرف مصيلحي"من زينب"سهيرالصايغ",سرعان ماينمحي أثر الأسرة الثانية  بين المطرقة المملوكية والسندان الفرنسي,وكما هي العادة علي مر التاريخ,يتصارع الأقوياء وليس هناك  ضحايا غير الأبرياء من حلموا برغيف وسقف وحضن يقيهم أنياب الزمان.
رقية"فرح يوسف" تفقد ابنيها باختطاف المماليك لهم,وأبويها حين دخول الفرنسيين,أمها التي تغلف قلة حيلتها بصرامة قاسية,لا تجد غير البحر مفر لتغرق فيه ممسكة بولديها وأبيها يصاب بطلقة ترديه.
من تلك الحلقة يبدأ تجلي أداء فرح يوسف الفن,في دور تراجيدي لامرأة نكتشف سعادتها الزوجية مع زوجها الراحل من حوار لها مع أمها,ثم موته ليتركها ضحية للفقر وغنيمة للطامعين,وولداها يتامي يجري عليهم من شظف العيش وشدة غلاظ القلوب ما يجري علي أمثالهم...إن المأساة التي تحياها ترجع بنا لأيام بعيدة وأماكن لا تعرفها رقية,تعود  بنا لماري أنطوانيت وسجن الباستيل و"شنق آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين",وخوف إنجلترا ودول أوروبا من تصدير الثورة لبلادهم,وحروب التاج مع الجمهورية في صراع السيادة والسيطرة,بين قوتين عظمتين,حين قررت فرنسا إرسال جنرالها الأول نابليون العسكري الفذ الشبيه في تاريخنا بتحتمس الثالث من جهةالعبقرية العسكرية للهجوم علي إنجلترا وتتغير الخطة بمهاجمة إنجلترا بطريق غير مباشر بضرب مصالحها,فكانت مصر هي المختارة وفي مصر نزل نابليون خلفه  يعدو نيلسون...ثم  بدأت مأساة رقية!!
تتزين بلادنا بالعلماء والفنانين الفرنسيين الذين أضاءوا الماضي,ومثلوا نقطة مصيرية في التاريخ الحديث,حيث تفتحت أعين المصريين علي العالم الحر المتقدم  لأول مرة منذ قرون كبتتها فيها السلطنة العثمانية عملت فيها علي إلغاء الهوية  المصرية بصلف جهول أو بتعمد شرير,ورغم ذلك تظهر يد الحرب البغيضة في ضياع أسرة الشيخ مصطفي"سامح الصريطي"والد رقية بيد الجمهورية التي رفعت بالبنادق شعار الحرية والإخاء والمساواة!!قامت المؤلفة عزة شلبي  بإبراز الوجه المشرق  للحملة الذي شعر به المستنيرون من أهل مصر وقتها بينما لم ير فيها العوام سوي حملة صليبية جديدة!فالدين للأسف ليس إلا غمامة يُلبسها إياهم الأفاقون لينحدروا بهم للدرك الأسفل!
عند دخول جيش فرنسا للفشن تهرع الأم للقبض علي ابنتها بيد من حديد ومحاصرتها للقيام "بتحصينها"عن طريق إغلاق مكمن أنوثتها بالإبرة والخيط عبر عملية مؤلمة من الغرز بسن مدبب في أكثرالأماكن حساسية في الجسد,خوفاً من اغتصاب الجند لها,تسير رقية متألمة لا تقوي علي الحركة مع أبيها الضرير في صورة أنتيجون مصرية كتب عليها مواجهة أقدار لا يد فيها,وليس عليها سوي السير والتحمل بشجاعة لا يقوي عليها جسدها الواهن وروحها المكسورة.
في مشهد موت أبيها تنهار بجوار جثمانه إرهاقاً وألماً,يراها الفنان الفرنسي فيفيان دينون"جهاد سعد",فيعرف منها ما تعانيه من آلام وفي لقطة تزيد من عمق فهمنا للإنسان بصفة عامة,الذي يحاول أن يصير سيداً للعالم,تخبره بما فعلته أمها وتبدي له ألمها من البول المحبوس خلف خيوط أمها الغليظة.
هنا لابد من كلمة عن أداء فرح  يوسف الرصين في هذا العالم تحت قيادة المخرج شوقي الماجري:
يُخيل إلي أن أعظم ما يصل له الفنان أن يمحو شخصيته الحقيقية في  ذهن المشاهد,فمثلاً لم أر آل باتشينو في فيلم الأب الروحي بل رأيت مايكل كورليوني,ولم أعرف أوريسون ويلز في المواطن كين وإنما الملياردير  تشارلز فوستر كين,ولم يكن عمر الشريف في فيلم دكتور زيفاجو بل كان زيفاجو نفسه,وكذلك فرح يوسف كانت رقية تحتل مسامها وطبقة صوتها المتخاذل,طبيعة هذا الدور يغري عشرات الممثلات بالافتعال ومحاولة استدرار الدموع الكاذبة والغرق في حضيض تمثيل التمثيل بدلاً من التمثيل كفن سحري يجسد التعبير الإنساني كما هو...أو كما يجب أن يكون.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق