الأربعاء، 30 مايو 2018

مأساة السيد"هومو"


يتناول صبري موسي في آخر أعماله الروائية الصادرة في بداية الثمانينيات"السيد من حقل السبانخ,عالم المستقبل وعن طريقه يتمكن من تشريح الماضي والحاضر,ويطرح عشرات القضايا هنا وهناك في كافة مناحي الحياة الإنسانية في عمل روائي راسخ كبقية أعماله الباذخة وعلي رأسها رائعته"فساد الأمكنة"أول خيط شدني إلي عالمه الثري وأعماله المتفردة رغم اسمه المتواري في خفوت كما يليق بناسك قضي حياته صادقاً مع نفسه,فلم يلتفت للأضواء والمناصب وفي النهاية وصل,حيث اسمه  وهو متوفي متألقاً براقاً بينما الكثير ممن يملأون الدنيا الآن صخباً حولنا منطفئون.
هذه رواية الغرابة فكل مافيهاغريب ففي  الثمانينيات كناعالم ثالث-اليوم عالم  عاشر!-ومع ذلك نجد رواية خيال علمي متمكنة تناقش دنيا المستقبل محلقة فوق الواقع واللحظة الآنية؛لتتنبأ بالمستقبل.
ونحن نري تهديدات الحرب النووية بين قادة العالم بصورة مزرية ومقيتة التي تهدد كوكب الأرض وفي المقابل  نقف شهود علي كفاح إيلون ماسك العظيم لفتح أغوار الفضاء السحيق واستعماره نتذكر "هومو" رجل السبانخ,وهو مواطن مستقبلي  يعيش بعد الحرب الإلكترونية التي دمرت الأرض ولم يعد منها سوي جزء صغير يحتوي عالماَ تتحكم  فيه الآلة في كل شئ,لدرجة تبدو فيها الروبوت صوفيا كنسخة بدائية لفيلم صامت من بداية السينما مقارنة بفيلم أفاتار!الآلة هي السيد المتحكم بينما يعيش البشر أنفسهم كالآلات,كل شئ مخطط ومدروس بنظام مبرمج,بل أن الآلات أحياناً أكثر حساسية وابتكاراً من بعض البشر,هذه العالم المتقدم حلت فيه كل المشاكل ولكن بقيت مشكلة واحدة فقط...هذه الحياة ليست بشرية,هكذا في لحظة تفكير خارج المنظومة تنقلب حياة هومو,وحين أتذكر هومو يقترن به صوت الفنان الكبير جلال الشرقاوي في سباعية من إنتاج الإذاعة الذهبية,إذاعة البرنامج الثقافي المنبع الوحيدالراقي تقريباً وسط غوغاء الإعلام وجعجعة الإعلاميين الفارغة من المعاني والمضامين,هذا الصوت العميق الممتع كما في كافة أعماله قادرا علي تجسيد الشخصية تجسيداً حياً,ولطالما سافرت علي جناح صوته مع علماء العرب في برنامج"كتاب عربي علم العالم",وشاركه في السباعية بدور "بروف"الفنان خالد الذهبي المغرد في سرب البرنامج الثقافي تغريداً شجياً يزرع المعلومة بروعة أداؤه وصوته الذي لاينسي فهو الخديوي إسماعيل في مسلسل الصبية والميجور وعزيز عيد في مسلسل محمد تيمور وفولبون في مسرحية الثعلب لبن جونسون وغيرها الكثير من كنوز البرنامج الثقافي العامرة للعقول النهمة,بل إني لو خيرت بين كنز علي بابا والاحتفاظ بمتعة الاستماع لإذاعة البرنامج الثقافي ما ترددت في اختيار الاستماع الذي يحلق في في دنيا أخري جميلة,بها الأدب والفن والثقافة وأنا في مكاني سارح مع أصوات شكلت وجداني...ومع ذلك لا أعفيها من تهمة التراجع تبعاً للانهيار الذي أصاب كافة المجالات.
نعود من جديد للسيد هومو في حقله ولزوجته السيدة ليالي ولصديقة دافيد,وهنا الأسماء تثير فينا كوامن المعارف الأولية,فهومو هو الأصل الذي يتفرع منه إنساننا العاقل الأول في سلسلة التطور المزدهرة,وليال المحبة تشير إلي السكن وسكون الرجل في قلب امرأته المحبة,أما دافيد فهو داوود بالعربية فيشير إلي التراث التوراتي الذي يشكل نسبة كبري من رؤية أهل الأديان للعالم,المنقول بدورة من الحضارات القديمة كمصر وسومر,وهنا ينقسم البطل إلي اثنين هما بأفكاره المتمردة الثائرة علي المجتمع والمفاهيم,ودافيد المحافظ الذي يود بقاء الحال علي ماهو عليه,أما بروف فهو البرهان والدليل والحجة علي فساد النظام.Proof
يندفع هومو في طريقه ليدفع ثمن المعرفة والاطلاع علي الكتب القديمة كدون كيشوت الذي فتنته القراءة,فأراد عالماً خاصا له وحده,هكذا هومو أراد العودة إلي الطبيعة الأم والاحساس بكينونته كفرد لا كترس في آلة,كجندي محمود درويش الذي حلم بالزنابق البيضاء بغصن زيتون بطائر يعانق الصباح فوق غصن ليمون,بعيداً عن سيطرة الآلة الجهنمية الآخذة بخناقه,يشجعه علي ذلك بروف,وعقب مداولات ونقاشات مثيرة للتفكير والدهشة,عرض فيه صبري موسي آراء الثقافتين بصورة منطقية متماسكة حتي إننا نحتار إلي أي كفة نميل فمما لا شك فيه أن العلم هو كل شئ في حياة الإنسان وأقصد هنا العلم بالمعني الشامل,هو السيد الحقيقي في الحياة وبدونه لا نغدو بشراً,ولو امتلكنا كل ثروات الأرض أين سنقضي حاجتنا بصورة صحية لولا العلم,وللعلم ثمن فادح يدفعه الكل فالموبايل اليوم أكبر حارق للساعات الثمينة التي لن تعود والتلفاز يغزو العقول البسيطة بصورة مخيفة وآلات الحرب الذكية تدمر أطفال العالم بلا رحمة ومع ذلك العلم هو ما يجعلني أكتب هذه الكلمات علي الشاشة وتقرأها أنت,هو أعمال إيمحوتب وحم إيونو وأرسطو وجاليليو البيروني وابن الهيثم وابن سينا ونيوتن وآينشتاين وكل هذه السلسلة العظيمة حتي كارل ساجان وهوكينج وبيل جيتس وإيلون ماسك,هؤلاء هم نجوم الحقيقيون في العالم من أضاءوا لنا الدنيا وحاولوا فهمهما تاركين آثاراًلا تمحي,لكن هومو حسه الفني المرهف يرفض كل هذه الضغوط علي روحه المقيدة فهو يبحث عن ذاته الضائعة وسط الكبسولات الهوائية وأنابيب الغذاء ولقاءات الجنس الحر وملهي المناقشات العامة,يود استكشاف الطبيعة القديمة المنجذبة لها روحه ويقرر "الخروج" قائلاً"لقد أمضيت أكثر من نصف عمري الآن..أعيش تلك الحياة المنظمة المنتظمة,إلي أن توقفت في تلك اللحظة العجيبة وفاتتني السيارة الهوائية ...من لحظتها بدأت المتاعب...ولكنني الآن أشعر وكأن كابوساً جثم علي صدري ثم انزاح..إنني أشعر الآن بالراحة بعد أن انتهي الأمر بقرار الخروج"...وهنا تبدأ مأساة السيد هومو الحقيقية,فقد منحه النظام حق الخروج للطبيعة التي أصبحت وحشاً شاهراً سيفه في وجه من قرروا الخروج معه هو وبروف,كالإنسان منا حين يخرج من رحم أمه الدافئ الحنون ليلقي به في الدنيا المريعة,يشعر هومو بالندم والغباء لاتخاذه هذا القرار الذي ظن أن فيه راحته وسعادته,ويهرع بمركبته المصممة خصيصاً لهذا الهدف التي لم تحمه من أنياب ما سعي له بنفسه,في مفارقة تراجيدية تحدث لنا كل يوم,حيث تمن آلامنا في آمالنا"وذات يوم كان أحد المواطنين يتنزه مع صديقته في سيارتهما الهوائية الخاصة بالقرب من تلك البوابة الخارجية الضخمة..فشاهدا من خلف الزجاج السميك رجلاً مشعث الملابس,رث الهيئة,يبدو متهالكاً خارج البوابة,وهو يدق علي زجاجها بكلتا يديه في يأس.
ودققت المرأة النظر وقالت لرجلها:
-انظر  هناك...أليس هذا هو هومو رجل السبانخ..؟
وقال الرجل وهو يشيح بوجهه:
-نعم إنه هو..هيا نبتعد عن هذا المكان..
وقالت المرأة بأسف وهي تتبعه مبتعدو:
-أما زال يدق الباب..؟هل نسي أن الزمن لا يعود إلي الوراء؟!"
وبهذه النهاية المؤلمة يفجعنا صبري موسي بمصير السيد من حقل السبانخ,من فر من قدره إلي قدره ولم يجد سوي بوابة مغلقة وإلي الآن يقف بالقرب منها يدق علي زجاجها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق