الثلاثاء، 2 يوليو 2019

صراع الهوية عبر الجسد


رواية"موسم الهجرة إلي الشمال" للأديب السوداني الطيب صالح,واحدة من أنصع الجواهر في تاج الأدب العربي,منذ نشرت لأول عام 1966في مجلة"حوار",وهي تصنف ضمن روايات(شرق-غرب),تقف مع رواية"عصفور من الشرق","الحي اللاتيني","قنديل أم هاشم",وغيرهم من الأعمال الإبداعية التي تضمنت جدلية العلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب.
كتب الطيب صالح نصاً رقراقاً مكثفاً,اغتسل من نبع الشعر,وارتوي من ماء النيل,وتمدد تحت شمس الصحراء,مؤطر ببنية سردية سردابية تتكشف علي مهل,ذلك ما جعل الناقد الكبير رجاء النقاش يصف الطيب صالح وهو بعد في مقتبل رحلته الأدبية بـ(عبقري الرواية العربية),ورُشح لخلافة نجيب محفوظ علي عرش الرواية العربية.
ولأنه عبقري بحق جاء عمله الروائي,مُحمل بمستويات متعددة من الدلالات والأبعاد,منها الجسد...الجسد الأفريقي,وأكرر الأفريقي قبل أن يكون شرقياً أو عربياً,بفحولته وعنفوانه وثورانه الحار,في بلاد"تموت حيتانها من البرد,مضي إليها بطل الرواية مصطفي سعيد وعاد من جديد ليحتويه النيل في فيضانه الجارف؛ليرقد في أحضان حابي,أثناء محاولته إنقاذ أهل القرية,بعدأن نفته الأرض من ظهرها.
الجسد هو بؤرة هذا العمل المتشابك,هو المعبر عن الهوية الحضارية,لا السلوك ولا الثقافة ولا اللغة,كلهم قد يخدع,كلهم من السهل تزييفه علي عقل بحدة مصطفي سعيد,قادر علي تشرب العلوم الإنسانية والبراعة في التفوق فيها,لكن لا أحد يهرب من جسده,لونه ورائحته وشكله,الجسد محور تجربته في الشمال بزمهريره المسعور ورياحه المجلجلة,كأنه يحاول قهر الجليد الإنجليزي بالنار السودانية,فالبلاد ترتبط في ذهنه بالأجساد الأنثوية وروائحها كما يصف مسز روبنسن في هذه الفقرة"فأحسست كأن القاهرة,ذلك الجبل الكبير الذي حملني إليه بعيري,امرأة أوروبية مثل مسز روبنسن تماماُ,تطوقني ذراعاها,يملأ عطرها ورائحة جسدها أنفي.كأن لون عينيها كلون القاهرة في ذهني."
تتماهي القاهرة مع المرأة الأوروبية في شعوره الداخلي,في هذه الفترة كانت القاهرة في نهضتها المجهضة تسعي لتصبح"قطعة من أوروبا,امتلأت جنباتها بمظاهر التحديث والتطور كواحدة من أشهر العواصم في العالم,فارتبطت بذهن القادم من نواحي الخرطوم بامرأة أوروبية ناعمة تأخذه بين ذراعيها.جسد مسز روبنسن تعبير عن الهوية المصرية المتآلفة مع المزاج الأوروبي ونمط العيش الغربي السائد عند بعض طبقات المجتمع المصري وقت ذلك,أما الفتاة مصرية الهوية التي عرفها قال عنها"كرهتني",ربما كرهته ؛لأنه لم يستطع أن يراها علي سجيتها  بعيداً عن المنظار الأجنبي الذي يري به مصر.
في أفريقيا يبحث عن أوروبا وفي أوروبا يتذكر أفريقيا"لاحظت أن شعر ذراعيها أكثف مما هو عند النساء عادة,وقادني هذا إلي شعر آخر,لابد أنه ناعم غزير مثل نبات السعدة علي حافة الجدول."في جسد إيزابيلا سيمور ما يعيد له ذكري نبات ينمو في مصر والسودان,وتخاطبه إيزابيلا كأحد وحوش أفريقيا في المخيلة الأوروبية-كل التصورات خيال ووهم-التي غذتها كتابات أدبائها عن أفريقيا,وأوحت لهم بجو شرقي أسطوري مفتعل غدا واقعاً عندهم"اقتلني أيها الغول الأفريقي,احرقني في نار معبدك أيها الإله الأسود.دعني أتلوي  في طقوس صلواتك العربيدة المهيجة."
أما آن همند,فكانت تسافر عبر جسده إلي الأحراش الأفريقية والصحراء العربية"كانت تدفن وجهها  تحت إبطي وتستنشقني,كأنها تستنشق دخاناً مخدراً,وجهها يتقلص باللذة,تقول كأنها تردد طقوساً في معبد:"أحب عرقك.أريد رائحتك كاملة.رائحة الأوراق المتعفنة في غابات أفريقيا,رائحة المنحة والباباي والتوابل الاستوائية,رائحة الأمطار في صحاري بلاد العرب."
ينعكس كلامها علي الصورة الذهنية للبطل عن نفسه,فيستلهم ألفاظها"وجهي عربي كصحراء الربع الخالي,ورأسي أفريقي يمور بطفولة شريرة."
الصراع الدائر في هذه الرواية صراع هوية يتخفي تحت معطف الجنس,ثأر المستعمَر ممن استعمروه وأذلوه,وأرادوا قهره,المفارقة أن البطل بكل مواهبه الذهنية لا يستخدم عقله الذكي الذي شق طريق العلم باقتدار,أثار الإعجاب والحسد,إنما فضل عليه قدرته علي اقتحام النساء وإشعال رغباتهن,يحكي عنه أحد الوزراء"كان أستاذي عام 1928.كان هو رئيساً لجمعية الكفاح لتحرير أقريقيا وكنت أناعضواً في اللجنة,ياله من رجل.إنه أعظم الأفريقين الذين عرفتهم.كانت  له صلات واسعة.يا إلهي ذلك الرجل كانت النساء تتساقط عليه كالذئاب,كان يقول سأحرر أفريقيا ب....ي",المراد واضح في العبارة الأخيرة,فها هو يختار سلاح الجسد بديلاً عن سلاح العلم والمعرفة فيتورط في قتل زوجته وانتحار أخريات بعد علاقتهن به,زوجته التي مارست عليه نفس طريقة المستعمر الأوروبي الفظ من إذلال وتحقير,ولعبت به كما لعب الساسة ببلاده وتاريخها,فتمثل فيها كل ما يسوؤه من الشمال الذي هاجر إليه,فإذا به يعود غريباً هنا كما عاش غريباً هناك.
وللرواي الذي نتعرف من خلاله علي شخصية مصطفي سعيد , تعبيرات في وصف الجسد يراد منها إبراز الهوية الوطنية في شخص الجد"إحساس صاف بالعجب من أن هذا الكيان العتيق ما يزال موجوداً أصلاً علي ظاهر الأرض.وحين أعانقه أستنشق رائحته الفريدة التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة ورائحة الطفل الرضيع...نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي فلاحين فقراء ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغني,كأنني نغمة من  دقات الكون نفسه,إنه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منت عليها الطبيعة بالماء والخصب,ولكنه كالشجيرات السيالة في صحاري السودان,سميكة اللحي حادة الأشواك تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة"
هكذا "يا سادتي" حاولت إظهار إحدي تجليات الجسد في هذا النص قليل الصفحات غزير المعاني,واسع الاستنتاجات,هذه الحكاية الملغزة التي سردها الطيب صالح منذ أكثر من 50عاماً ومضي حيث يمضي "كل ابن آدم وإن طالت سلامته"؛لتقتفيها مئات الأقلام الأخري,منقبين فيها عن اللآلئ المخبوءة في ثنايا سطورها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق