الخميس، 11 يوليو 2019

غداً يكتمل ما كان


غداً يكتمل ما كان
امتلأت حفر الأرض بمياه الأمطار,صانعة مرايا كبيرة تعكس تلألؤ مصابيح   السيارات المارقة كطلقات الرصاص وسط الشارع الخالي من العابرين,الذين فضلوا دفء المنازل علي أي خيار آخر,وحدها جلست علي رصيف مطعم فاخر,طفلة صغيرة بالكاد بدأت الكلمات تعرف الطريق للسانها,انشغلت عنها أمها بالوقوف في الإشارة تستجدي العابرين بإلحاح مستفز,غير مبالية بابنتها المتجمدة برداً.
توقف يوسف أمامها متصلباً,مشاعر الرحمة التي فاضت من قلبه ثبتته مكانه لا يقدر علي تحريك قدميه,تطلع إلي تلك الكومة من الثياب الرثة الموحلة التي برز منها وجه صغير قذر,في وسطه عينان بريئتان يتطلع له في دهشة يمازجها شبح ابتسامة,ركع بجوارها حتي مس البالطو الرصيف,وقال مشفقاً:
-         مالك يا ماما, ماذا يجلسك هكذا؟
همست له من بين أسنانها مشيرة لقدميها الحافيتين:
-أريد صندلاً؟
-صندل؟!
- أمي أخبرتني  أنها ذهبت لتشتري لي صندلاً؟
خرج من باب المطعم,رجل تبدو عليه مظاهر الثراء,هذا الثراء السوقي المعلن عن  نفسه في فجاجة,في ساحباً في يده امرأة تتقد جمالاً وروعة,قائلاً في لا مبالاة:
-لا تتعب حالك أيها السيد,إنهم طفيليات.
أكمل غامزاً, والضحك يختنق في صدره:
-ها هي أمها تتسول حيناً,وحيناً...أنت تفهم طبعاً!
لم يستمع يوسف لكلماته,وقف مشدوهاً ناظراً للأرض يتعجب مع نفسه"إلهي...أتكون هي...لشد ما تغيرت!لابد أنها هي وإلا لم تقف هكذا تحملق في بدهشة"عاودت عيناه النظر لها من جديد,لو خدعه بصره فقلبه لن يفعلها...هي غادة,حبيبته الوحيدة اشتراها المال وأصبحت بالاسم زوجة وبالفعل دمية جنسية.
"سننجب ولداً وبنتاً ونملأ لهما المنزل بالدمي"
لم تدري إنها هي من ستتحول لدمية مكسوة بالمساحيق والفراء,طالما بحث عنها علي الإنترنت باسمها الحقيقة,يدرك الآن عبث مسعاه,لابد أنها تستخدم واحداً من تلك الألقاب فارغة المضمون.
خبط الرجل الثري رأسه بكفه:
-آه نسيت الموبايل,وهرول في الحال للداخل مجدداً.
توسطت الطفلة يوسف وغادة,وبدت غائبة في النوم,بدأت حوار سطحي ليخفي جيشان عواطفها:
-رأيت صور(كادت تقول:شقتنا)شقتك التي حولتها لملتقي ثقافي للأطفال.
لاحت منه نظرة للبنت النائمة:
-أحاول تأسيس تجارب ناجحة,لربما تقاوم السموم في كل مكان يُفترض به صياغتها,لا تربية ولا تعليم,فقط فرائس للجهل والضياع,من يدري؟قد يذكرني واحداً منهم وقد صار عالماً أو فناناً,شاكراً للأفق الذي فتحته له في طفولته.
لم يتغير, نفس كلامه القديم وإن كانت حماسته المحمومة خفتت كثيراً.مرت رياح باردة أطارت شعرها للخلف,وفجأة انهار سد الحاضر الوهمي الحاجز بينهما,وطغت مشاعرهما الدفينة:
-يوسف...لا تظلمني,أنت تعلم أن...
- أعرف جيداً مدي الضغط الذي كان عليك,أمثال هذه الضغوط,تصهر الفولاذ ليسيل وتحوله لمادة مختلفة. غادة...قلبي لكِ فيه مجري الدم ومآل الآمال.
-حتي اليوم؟
- وللأبد
برز كرش زوجها وتبعه بقية جسده,جذبها من يدها وتوقفا أمام سيارة فارهة,ركبا فيها وغابا عن عينه.
-أريد  صندلاً
انتزعه صوت البنت من ذكرايات ماضيه,غادة والجنة المفقودة,أحلام الحب وتتويج الكفاح بالسعادة,وكل ما توهمه من قبل؛ليعرف أن كل ما يحيط به ليس فاسداً فحسب,بل يعدي غيره بالفساد والتعفن,ليغدو مجتمعاً من الجراثيم,لا مكان فيه لإنسان يستحق هذا الوصف.
-غداً يجيئك ما تتمنين.
وضع كفه علي قدمها ليقيسها به,كانت باردة ورقيقة,انحرف للشارع الجانبي,ودخل حارة موحلة تصاعد فيها صياح النسوة وهن ينزحن الماء من فوق سطوح المنازل حتي لا تتسرب من السقوف للمساكن,لتنهمر فوق الأرض شلالات من المزاريب, وسطهن صوت أخته تضع همها كله في الزعيق,منذ طلقها زوجها لعجزها عن الإنجاب وهي تقضي طوال اليوم في مشاجرات,مثل هذه المناسبات تمنحها فرصة للتنفيس عن نفسها.
لما خلا لنفسه,هربت دمعة حبيسة,كأنها تحمل مفاتيح حدقتيه,تبعها خط من الدمع الساخن علي وجنتيه,بكاء قهر الرجال وقلة حيلتهم,بكاء من يري ذاته تستنجده وهو مكبل لا يقوي علي المقاومة,أخيراً النوم اخترقه لينفيه من عالمنا لعالم السكون والسكينة.
في الصباح اتجه نحو السوق واشتري صندلاً بني اللون يناسبها,ومشي إلي رصيف المطعم,تتبدل الأيام علي ناس يتبدل ناس علي الأيام,هو وهي من النوع الأول,وجدها كحالتها الأولي,فتحت جفنيها,فقامت ومدت يدها,وقالت في لهفة بصوت يرن بالسعادة والأمل:
-الصندل!
ألبسها إياه في قدمها الصغيرة,فمشت خطوتين ثم عادت وهي تضحك,نزلت من علي الرصيف ومشت فوق الطين لتتأكد أن قدمها محمية,فزاد ضحكها,وبدا لها غير موجود,انخرطت في شخصيتها الجديدة ذات الصندل,تركها وعاد للشقة,تبعه الأطفال كلهم يريد منه شيئاً,تشغيل الكمبيوتر,ورق رسم وألوان,قصة جيب أو كتاب كوميكس,دنا منه سمير بنظارته السميكة,يخشي الاصطدام بشئ لضعف بصره:
-يا عم يوسف...هل ستكمل لي يوم ما بدأناه أمس عن أبطال حرب أكتوبر العظيمة؟
-سنكمل يا بطل اليوم ما بدأناه بالأمس,وغداً تكملونه أنتم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق