الأربعاء، 18 سبتمبر 2019

سارتر والآخرون


1
سارتر والآخرون
في عام 1944والحرب العالمية الثانية مشتعلة بالدمار والوحشية قبل أن تنتهي في سبتمبر1945,أشعل جان بول سارتر أشهر الفلاسفة الوجوديون,نيران أدبية لم تخمد حتي اليوم بمسرحيته"الأبواب المغلقة",مودعاً في سطورها فلسفته"الجحيم هو الآخرون",الصرخة التي انطلقت علي لسان جارسان بطل المسرحية,لتصبح هذه العبارة المدخل الأساسي لسارتر,ويتم استخدامها للحديث عن الوجودية وعلاقة الإنسان بالناس حوله.
يدور الفعل المسرحي في العالم الآخر,متمرداً علي التصور اللاهوتي والرؤي الأدبية الكلاسيكية التي يتقدمها جحيم دانتي,حيث المذنبون في عذابهم البدني المخيف,والنيران من حولهم تلتهمهم وتشويهم,هذا التصور الذي ترسخ في الذهن البشري الذي سالت عليه تصورات الغيب وترسخت داخله صورة  لهذا العذاب البدني المؤلم.
الجحيم في هذه المسرحية نسخة وجودية بتوقيع فلسفة سارتر,يصير فيها "الإنسان ذئب لأخيه  الإنسان",علي حد تعبير الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز.
جارسان رجل يعذب زوجته ويجبرها علي تقديم الإفطار له وعشيقته وهما في الفراش,و جبان فر من الحرب بذريعة الدعوي للسلام وأعدم بالرصاص,اينيز سحاقية تسببت في انتحار قريبها بعد استيلائها علي زوجته,استيل تخون زوجها وتحمل من عشيقها سفاحاً ثم تقتل طفلتهما,وجحيمهم حجرة صالون علي طراز الإمبراطورية الفرنسية الثانية(1852-1870),عذابهم يبدأ عندما يتكشف الواحد منهم أمام الآخر,يتجردون من الأكاذيب والمبررات الزائفة لأفعالهم الوحشية في حق الآخرين,يتسلط كل واحد منهم علي الآخر يعذبه ويضنيه,تجربة سارترية متفردة,عن أي فكرة أو رمز تلقنته البشرية من قبل في استشراف عالم ما بعد الموت.
الشخصيات علي المسرح طوال الوقت,الحبكة تعتمد علي الموقف,علي العلاقات الشخصية المعقدة مع الآخرين,التي اعتبرها الفيلسوف الألماني هيجل بأنها صراع طوال الوقت مع الآخرين,الآخرين لا يهتمون للنوايا ولا يدركون سوء النية أو حسنا,لا يقدرون غير الأفعال وعلي هذا الأساس يحكمون علي بعضهم.
2
"جارسان:لقد مت قبل الأوان,لم يترك لي الوقت لأحقق بطولاتي
اينيز:إنما يموت الإنسان دائماً قبل الأوان أو بعد فوات الأوان,في كلا الحالتين تكون حياة الإنسان كلها قد اكتملت وفي تلك اللحظة يجب عليه أن يصفي الحساب,فإنك لست شخصاً آخر غير حياتك."
تضيق اينيز علي جارسان كل مخارجه وتسد مسالكه؛لكي ينتزع اعترافاً بشجاعته,هذه هي الأبواب المغلقة النفسية, الباب الغرفة ينفتح عند النهاية,لكن الأبواب للتحرر الداخلي بتثبيت صورتنا التي نبتغيها في عيون الآخرين فهي الأبواب المغلفة حقاً,العذاب ليس شيئاً مادياً يهرب منه جارسان,هو الخزي والتعري,ومواجهة الآخرين بلا أكاذيب مريحة,بذرته كامنة في نفس الإنسان,أدواته النظرات والألسنة والكلمات,وحتي مجرد الشعور بوجود الآخرين يكون سبباً للألم والقلق.
يصرخ جارسان"افتحوا الباب,افتحوا الباب عليكم اللعنة,أنا مستعد لقبول كل شئ...آلات التعذيب,والقلابات المحمية,والرصاص المنصهر,والملاقط والأغلال وكل ما يحرق ويسلخ ويمزق,سأتحمل أي عذاب تعرضونه علي,أي شئ أفضل من عذاب الفكر,من هذا الألم الزاحف الذي يقرض"...وينفتح الباب ولا يخرج أحد,الحرية عجز عن تحملها أي واحد منهم,هذه الحرية التي ينظر لها سارتر علي أنها أمر يخشاه الإنسان ويتجنبه ورغم ذلك قدره المقدور,بعض البشر يطاردون الحرية وبعضهم حريتهم تطاردهم!الحرية تنتج عن خيار والخيار يعقبه فعل.
"جارسان:ألن يأتي الليل أبدا؟
اينيز:أبداً
جارسان:وسترينني دائماً؟
اينيز:دائماً"

3
النهار شباب دائم ولا فرصة في ليل مسود عاتم يحجز بينهم ويريحهم من عذاب الانكشاف وتبادل النظرات,الذي يكشط عنهم جلدهم المستخفيين تحته.
"جارسان:(.....)كل هذه النظرات منصبة فوقي تلتهمني(يلتفت فجأة)ماذا؟مجرد اثنتين؟وكنت أظنكما أكثر عدداً(يضحك)إذن,هذه هو الجحيم لم أكن لأصدق أبداً,هل تذكران كل ما قيل لنا عن غرف التعذيب ,والنار,والوقود والطين المحترق,يالها من حواديت عجائز!ليست هناك حاجة إلي أسياخ الشوي...إن الجحيم هو الآخرون".
لو كان كوجيتو ديكارت"أنا أشك إذن أنا موجود",فكوجيتو سارتر"أنا أتعذب وسط الآخرين إذن أنا موجود",الأنا الديكارتية محملة بالشك والشك نوع من العذاب,وليد الحرية التي لا تلزمنا بالإيمان بشئ ما,والأنا السارترية معذبة بالفكر ممثلة لآلام الطابع المأساوي لحياة الإنسان ووجوده"إذن لنستمر"
الغرفة بدون مرايا,لا يرون أنفسهم إلا في عيون بعضهم,غياب المرايا مدلول بالضياع وفقدان الذات.
استيل:أشعر بشعور غريب(تتحسس جسدها)ألا تشعرين هذا الشعور,حينما لا أري نفسي,أروح أتساءل عما إذا كنت موجودة حقاً أم لا فأتحسس جسدي لأتأكد,ولكن هذا لا يجدي كثيراً.
اينير:هذا من حسن حظك,أنا فأحس بنفسي دائماً في عقلي,إنني أدرك وجودي بشكل مؤلم(....)انظري في عيني ترين نفسك فيهما.
استيل:أوه إنني هناك!ولكنني ضئيلة جداً لدرجة إنني لا أري نفسي بوضوح.
تتعرف استيل علي ذاتها عن طريق الآخر المغاير,ويندمج وجود الأنا بوجود الغير,ويصبح وسيلة لتعرف الذات علي نفسها"ضئيلة جداً"تتلاشي الشخصية لحساب العين الناظرة تري نفسها بواسطة الآخرين لا برؤيتها هي الخاصة.

4
هذا ما يدركه جارسان وهو ينهر استيل"إن نفسي تشمئز منك أكثر مما تشمئز منه.لا أريد أن أغوص في عينيك أنت لزجة وناعمة,أنت مستنقع وأخطبوط".
الجنس عنصر فعال وحاضر في المسرحية,تستمر رغباتهم الشبقية بعد موتهم لتزيد من معاناتهم,اينير في استيل متوقدة,ورغبة استيل في جارسان متوهجة,ومن تلك العاطفة الجنسية يتولد بينهم الكراهية,لإداراك كل واحد منهم استحالة امتلاك الآخر والالتذاذ به,والتكامل معه...أليس الآخرون هم الجحيم؟!
في عمل آخر لسارتر وهو سيناريو سينمائي بعنوان"تمت اللعبة"لم يكن الجحيم هو الآخرون,بل كان الآخر هو الفرصة الوحيدة للعودة مجدداً للدنيا عن طريق الحب,بيير يموت قتيلاً علي يد أحد الواشين للشرطة,وتموت إيف مسمومة بيد زوجها,ولم يصعدا لجحيم أو نعيم,ففي جو فانتازي يليلق بالسينما وإمكانياتها الفنية,يختلطان مع الأحياء بصورة غير مرئية,ويجدان فرصتهما للعودة للأرض بشرط أن يدوم حبهما لمدة24ساعة,الإنسان هنا هو طوق نجاة الإنسان,الحرية تترصدهم ويختار بيير,هما من عالمين مختلفين,بل متضادين,إيف أرستقراطية برجوازية زوجة سكرتير الجيش وبيير من البروليتاريا العاملة يخطط للثورة,فهما علي خط متضاد متصادم,وبسبب خوفه علي زملائه لا يعود في موعده ويقتل وتضيع فرصتهما  في العودة للحياة من جديد,يفشلان ويتقرر مصيرهما المحتوم,يتقابلان في الحياة الأخري مع شخصين آخرين يودان تكرار التجربة:
"يسأله الرجل
أنستطيع حقاً أن نحاول أن نعيش الحياة ثانية؟
يتطلع بيير وإيف إلي بعضهما البعض في تردد.

يبتسمان برقة  للاثنين
ينصحهما بيير:
5
حاولا
تغمغم إيف:
حاولا علي كل حال".
رغم كل شئ تستحق الحياة محاولة أخري.
قدم سارتر صورتين للفرد في مواجهة الآخر,واحدة جعلت منه الجحيم والآخر صنعت منه السعادة,والنموذجان موجودان,ففي النهاية لا يمكن رؤية العالم بهذا المنظور السوداوي طوال الوقت,عبء هذا الاختيار في طريقة الاتصال مع العالم يقع علي عاتق الإنسان نفسه...جارسان أم بيير؟













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق