الجمعة، 20 سبتمبر 2019

ضحايا الشرف المزيف


في جنوب مصر عند مطلع القرن جرت جريمة قتل,تندرج تحت عنوان ما يسمي جرائم الشرف,وأصبحت حكاية تتناقلها الألسن منذ ذاع صيتها في الخمسينيات,علي يد الفنان الشعبي حفني أحمد حسن,صاحب موال"شفيقة ومتولي"الذي قدم الوقائع بأسلوب درامي محبوك, يفوح ببراعة الأدب الشفاهي الذي طالما قدم آيات فنية تنافس الروائع العالمية.
يسرد الموال حادثة قتل أخ لأخته بسبب انجرافها لعالم البغاء,بنظرة متشفية وحانقة علي المرأة بشكل عام,عبر تقديمها نموذج امرأة صعيدية بضاعتها الجنس, قال السيد المسيح عن مثيلتها من بني إسرائيل"من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر.ثم انحني إلي أسفل وكان يكتب علي الأرض,وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ إلي الآخرين وبقي يسوع وحده والمرأة واقفة في الوسط.فلما انتصب يسوع ولم ينظر إلي أحداً سوي المرأة فقال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك.أما دانك أحد.فقالت لا أحد يا سيد.فقال لها يسوع ولا أنا أدينك.اذهبي ولا تخطئي أيضاً".هذه عين الرحمة التي أطلت علي ماريا المجدلية وحُرمت منها شفيقة الجرجاوية,فكان مصيرها الشنيع يذكره الراوي بفخر"أتي بالغضب وفي إيده السكين/وقال دي لو عليلة مين يزورها/ وجه سريع وتلف منظرها/وعزل الجتة من زورها",وبسبب هذه الوحشية,بنبرة مزهوة ينسج مع الربابة تحية موسيقية,ويقربه إلي نفسه"يا أخي متولي يا جرجاوي"!
يحكي الريس حفني في الأحداث منذ التحاق متولي بالجيش حتي انجراف أخته لعالم الدعارة,ثم قتلها والحكم عليه بستة أشهر,مع تقدير القاضي والفرح العارم بالرجل بمخلص البلاد من عارها,متناولاً الواقعة من منظور ذكوري قائم علي أسلوب العنف والدم المعالج كل الأزمات بالتخلص من صاحب الأزمة,وسط طقس دموي يكتسب صفة القداسة بمحاولة استرداد شرف الأسرة المفقود,وانقلب القاتل إلي ضحية يرثي لها!
اتخذ الموال من(بطولة)متولي مادته الفنية,البداية نتعرف عليه كجندي في الجيش العظيم,يترقي فيه بفضل انضباطه حتي يبلغ رتبة باش جاويش,وفي العسكرية يضرب أحد المجندين المدللين"بالمال أهله بيكفوه",فيثور المضروب لكرامته ويجابهه بالسر الخفي"بتضربني ياجبان/روح ادفن نفسك جوه جبانة/آدي صورة أختك جوه جيبي أنا),الظهور شفيقة الأول يجئ عن طريق(صورة),وطوال الموال ستظل مجرد صورة من خلال حديث الآخرين عنها,ولن يتاح لها التعبير عن نفسها,إلا لتظهر بصورة المومس السكيرة,لا ماضي ولا ذكريات,لها جانب أحادي يُصدر لنا علي الدوام.
يترجي متولي القومندان ليصرح له بإجازة,يعود لبلده ويعرف من أبيه مآل شفيقة,يحاول الأب ادعاء موتها,لكنه يرضخ أمام إلحاح متولي ويطلعه علي الحقيقة,شفيقة ليست من النوع المعتاد الذي تضطره الظروف القاسية لبيع جسدها,فهي من أسرة كريمة,وبروح من يعرف أن كل النساء متهمات حتي يثبت العكس,يتأكد دور الذكر في إلجام الأنثي التي يسري في دمائها العهر!
يدبر خطة مع أصدقاؤه,تستقبلهم شفيقة باعتبارهم زبائن,ويقوم بجريمته غير عابئ بتوسلاتها"خدني وأتوب علي إيدك"فيكون رده"قالها يا شفيقة بعد ايه تتوبي/وتتمحكي وتقولي مكتوبي دي رقعة ما تتطلعش من توبي"يتعترف متولي بأن المصيبة ليست في شفيقة,بقدر ما يمسه منها من كرامته,وما يلحقه بسببها من مسبة,ثم ينزل بالطبول والأفراح,يتعاطف معه القاضي مؤيداً فعله,وينتهي الموال"صراحة شرف بلده".حول الموال اسم متولي ليصبح صفة يمتدح بها الرجال,قاتل أخته يتحول لبطل,الأخت لها نصيبها من الإثم باقترافها فعل ذميم,لكن القتل أفظع الآثام علي الإطلاق,من العبث معالجة ذنب بجريمة.
لصلاح جاهين وعلي بدرخان معالجة أخري,قدماها في فيلم"شفيقة ومتولي عام1979,من  خلالها تأخذ القصة مدلولات أعمق,عن شرف البلاد التي انتهكها الفقر والحرمان وضياع السند,في مشاهد شفيقة في المولد برمزيته عن الدنيا ومغرياتها التي تحرك شهوات الجياع والمحرومين,وعلي خلفية من أحداث تاريخية عن فترة حفر قناة السويس,وأعمال السخرة المقيتة التي عاني منها المصريون...معالجة تتسم بالشاعرية في الطرح وتجربة سينمائية فريدة,نأت بحساسية جاهين عن الرغبة المحمومة في الانتقام الأعمي,وصاغ رحلتها في الحياة بصورة تتماهي مع البلاد الواقعة تحت الاحتلال التركي البشع,نتفهم من خلالها منابع أزمة مصر ومواطنيها,مدركين قسوة الأقدار الدافعة إلي المحتوم.ينتهي الفيلم كتراجيديا يونانية,متولي يحمل أخته شفيقة المقتولة علي يد نخاس العبيد,سائراً بها في دروب القرية"يبكي عليها وعليه وعلي بنات الناس اللي تبيع عرضها في القحط وزمانه.
من الصعيد إلي البدو يرتحل بنا عميد الأدب العربي طه حسين في قصة "دعاء الكروان" الصادرة عام1934,وقد صدرها بقصيدة مهداة من مطران خليل مطران,يورد فيها أبياتاً يرثي بها هنادي ملقياً أصابع الاتها علي خاله القاتل:
أسأل أدمع خطب مطلولة         مقتولة في زهرة العمر
جني عليها واهم أنه              يثأر للعرض والطهر
وخامرتني حسرة خامرت       شهود ذلك المصرع النكر
أليس للأرواح في بثها           أواصر من حيث لا تدري
مأساة هذه الأسرة تنحدر من جهة الأب العابث اللاهي بأعراض الناس مما يعرضه للقتل,وبما أنه ميت علي هذه الحال فلا دية له ولا نفع للقصاص,يدفن ولا يترك لبنتيه إلا سوء السمعى,علي إثر ذلك تنفي الأم وابنتيها هنادي وآمنة,علي يد الخال بعيداً عن قبيلتهم بني وركان"...حتي صرع أبونا ورأيت كيف استقبل أمنا بأنباء هذا المصرع وكيف قسا عليها وعلينا ,لم يفكر في أنها أيمّ وفي أننا يتيمتان,وإنما فكر في الأسرة وحديث الناس عنها,وما يجر عليها هذا الفعل من عار".
سقوط هنادي نبت من الحب عندما تشكل في زهرة خبيثة,قطفتها وهي لا تدي أنها مسمومة فيها هلاكها,أضاعتها ثقتها الزائفة في المهندس الشاب الذي دأب علي إغواء الفتيات والنيل من عذريتهن,ومع افتضاح أمرها يقتلها خالها,فتسعي الأخت آمنة للانتقام ممن غرر بها,لكنها للمفارقة تقع هي الأخري في غرامه.
لا تسمح آمنة للضعف أن يستولي عليها بل هي تقاوم,ما جني علي أختها بعد أن وعت الدرس,وأبت تسليم نفسها,وحتي لو أرادت كيف تفعل وبينهما دم القتيلة ماثل في القلب والذاكرة.
تظهر مع طه حسين العقلية الجديدة المؤهلة لتفهم الناس لا الحكم عليها,الراغبة في تشريح الحدث لا تشريح الجثث,نشعر بتعاطفه مع هنادي ومثيلاتها من الفتيات اللائي يسقطن وعطفه علي ما يذقنه من مرار,أمام موجة عاتية للاتهام والرغبة في الخلاص منهن,وتمثلت لآمنة بطلات قصص يشبهن أختها في صورة أشباح حمراء,يترائين لها وقت حيرتها واضطرابها"هذه التي أمينة فقد احتز رأسها حتزازاً,وأما التي تسمي مارتا فقد شق صدرها شقاً,وأما هذه التي تسمي ملزمة يقال أنها دفنت حية ولقيت حتفها مختنقة في التراب",ظهورهن علي هذه الصورة الشنيعة لآمنة تنبئ عن رغبتهن في الانتقام المضاد ممن سلبهن الحياة,كأن آمنة استعارت من هاملت شبح الملك المقتول المطالب بثأره.
مع نجيب محفوظ في بداية ونهاية 1949,يتحد الدمامة والفقر ليدفعا بنفيسة اليتيمة التي"لم تحظ طوال حياتها بقلب يحبها ويعطف عليها,ولم تحد متنفساً عن توتر أعصابها إلا في الضحك والسخرية من نفسها وإخوتها والناس فاشتهرت بالعبث الضاحك الذي يتواري خلفه مراراً في الأعماق"إلي الشارع وحياة الليل بين طالبي المتعة السريعة,وتتخذ صورة المرأة الداعرة ملامح نفسية واجتماعية علي يد سيد الرواية العربية في خط درامي يواصل الصعود حتي يبتلعها النيل,بسبب شهوتها الملتهبة للحياة والحب والأمل الخجول في الزواج,بعد تسليم نفسها لرجل تافه لا وزن له إذا قيس بميزان الرجولة,سلب منها بكارتها لحساب لذته,فينبعث في نفسها"رغبتين متناقضتين يتناوبنها تناوباً متواصلاً,رغبة في التمرد والجموح ورغبة في الاستزادة من الظلم والتعذيب حتي الموت".
وكما في الأمثلة الأدبية والواقعية لبنات انتهت حياتهن لمجرد الشك في سلوكهن,يحول المجتمع أفراده لأدوات قاتلة,بدعوي الشرف,ولو كانت هذه المجتمعات فعلاً لها رغبة في الشرف لنهضت من كبوتها الطويلة,بالعلم والعمل والأخلاق,لكن السبب الحقيقي كلام الناس ونظرتهم للذكور المنوط بهم أن يحذوا حذو متولي,لسان حالهم كلمات حسنين الأخ الأصغر لنفيسة,ضمن أسرة كامل أفندي علي التي تضعضعت بعد وفاته,واضطرت لمواجهة الحياة عارية إلا من آمال تحدوها نحو الخروج من أزمتها المظلمة,بيد أن الظلمات تشتد عليها حتي تفقد الأسرة المكونة من الأم وثلاث إخوة لنفيسة,تماسكها ومعيشتها بهروب حسن من البوليس وانتحار نفيسة,مع إشارة لفعل مماثل من الأخ حسنين وقد أظلمت الدنيا في عينيه"لماذا لا أستهين بكلمات الناس وألسنتهم؟إنه شر لا قبل لي بالتعامي عنه!.هكذا أنا"










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق