الجمعة، 30 سبتمبر 2022

فريدة

 

فريدة

عند اقتراب مغيب الشمس كانت الشوارع شبه خاوية,المحال مغلقة والمقاهي مهجورة وصوت الرياح يدوي في الأذان ويجاوبه حفيف أوراق الأشجار المهتزة,البرد القارس جعل الناس تلزم منازلها,لم يمر شتاء بتلك القسوة من قبل,وكان يسرع الخطي في الميدان الخالي حالماً بدفء البيت ولذة المشروب الساخن والفراغ,لما وصل لباب عمارته استغرب من الماء النساب نحو الشارع,دخل في حذر كي لا يبتل,ورآها لأول مرة بعد عشر سنوات,وهتف بدهشة:

-فريدة!

استدارت لتواجهه مبتسمة,وقد شمرت طرف جلبابها المبتل عن ساقيها:

-كيف حالك يا أستاذ أحمد,عاش من شافك,لقد كبرت كثيراً وأصبحت ماشاء الله شاباً,لم تعد ذلك المراهق الشقي.

-كلنا كبرنا,ماذا تفعلين هنا؟

أدرك بلاهة سؤاله فاستدرك:

-أعني ألم تتزوجي وتركتي مسح السلالم منذ زمن؟

بدا في عينيها شهوة للحكي,كأنها كانت تنتظر أن يسألها أحدهم لتتخفف من الهم الساكن في صدرها وتزيحه بلسانها,فأسندت المساحة علي الجدار ومسحت عرق جبينها المتصبب وقالت:

-لقد أردت الهرب من شقاء العمل في البيوت,ومهانة التعرض لمضايقات أصحابها وأغراضهم الدنيئة,وسئمت من مكوثي في بيت أبي لأنه كلما رآني اعتبرني هماً,أنثي تحيا في بيئة شعبية,ألف عين عليها ومثلها من الألسنة فأذاقني من القسوة والعنف ما حطمني,يريد أن يسترني في ظل أحد الرجال كي يستريح مني,فوافقت علي أول عريس ولم أكن أعرف وقتها أني ألقي بنفسي في طريق مهلك...كان رجلاً كالملايين من حولنا,نفس الازدراء للنساء ومعاملتهن كأنهن لسن سوي قطعة لحم يستمتع به,وفم مفتوح ليطعمه,بل ظل يعايرني بما آكله ويحسبه علي,صمدت سنوات طويلة رغبة مني في عدم تمزيق أطفالي وتربيتهم تحت سقف أبيهم,لكن الكيل فاض,أصبح يطالبني بإنجاب الولد بعد ثلاثة بنات...ومن أين سآتي بالولد خبرني وهل لي في ذلك حيلة؟!و في النهاية تزوج سراً بأخري رغبة ولد يحمل اسمه كما يقول كأن بناتي لا يقدرن علي ذلك!لم أحتمل تلك الحياة وطلبت الطلاق,فحرمني من كل حقوقي,ومازلت في انتظار قرارات المحكمة...حاولت البحث عن عمل آخر أقل إرهاقاً فلم أعد تلك الشابة القوية بعدما أنهكتني السنون,حتي أتمكن من إطعام ثلاث ملائكة لا ذنب لهن,فوجدت كل الأبواب مسدودة,لا أحد يريد توظيف مطلقة لسبب ما يخشون منها ويحيدون عن التعامل معها,ومن أجد لديه قبولاً,أشعر بالأطماع الخبيثة تدور في صدره وتفضحها عينيه,لذلك عدت إلي عملي القديم.

ثم ابتسمت بمرارة ساخرة لسعت قلبه:

-علي الأقل مضايقاته ليست جديدة عليّ.

لم تكن تشعر بالبرد بل وخيل إليه أنها لا تشعر بشئ علي الإطلاق,ولما تخففت بالتنفيس عن صدرها قبضت علي المساحة من جديد,وعادت للعمل بجد وتصميم,كمن تقود قارباً متهالكاً وسط عاصفة عاتية تهب من كل اتجاه وتضربها الأمواج من كل جانب,لكنها عازمة علي الوصول بالسفينة وركابها لبر الأمان.

وقف ينتظر انتهائها من العمل وقد اقتبس من جلدها قوة وصبراً,غير عابئ بشدة البرد أو قرب حلول الظلام,باحثاً في جيبه عما يمنحه لتلك القبطانة الحديدية,ورغم كثرة العملات وجد ألا شئ يفيها حقها ,فأخذهم كلهم ووضعهم في كفيها فارتاعت:

-كلا يا أستاذ أحمد ذلك كثير جداً,لا يمكنني قبوله بدون وجه حق,إنني لست متسولة ولن أكون يوماً.

شعرت بحرجه فأخرجته منه بصنعة لطافة,بأخذ عشرين جنيهاً:

-سآخذ هذه لأشتري بها حلوي للبنات,وأخبرهم أنها من عمهم أحمد,كي يشعروا للحظة أن الدنيا ماتزال بخير.

امتلأت عينيه بالدموع وهو يراقبها ترتدي حذائها وتحمل كيس ممتلئ بأشعات وتحاليل للأمراض التي تحاصرها:

-عن إذنك مازالت لدي عمارتين تنتظران المسح وأريد العودة للمنزل قبل تأخر الوقت.

ولوحت له علي عتبة الباب:

-أراك علي خير.

تمتم بكلمات غير مفهومة,وتابعها بعينيه وهي تتقافز بين برك المياه الموحلة بهمة حتي ابتلعها الظلام,وقال لنفسه:

-أنثي تتصف برجولة لا يعرفها الكثير من الذكور

شعر لحظتها بالخجل من نفسه,فأغلق الباب وصعد السلالم نحو شقته.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق