الجمعة، 30 سبتمبر 2022

أحلام النهار

 

أحلام النهار

مسرحية من فصل واحد

 

 

(منزل مملوكي,ينتمي للطبقة الوسطي علي اليمين أريكة خشبية مزخرفة بالأرابيسك,وعلي اليسار مقعدين,وفي الخلف مشربية يدخل منها الضوء بجوارها قلة ماء وعدة أكواب موضوعة علي صينية نحاسية,طرق علي الباب من الخارج,تدخل شمس النهار فتاة في بداية العشرينيات لتفتح,يظهر أبيها محجوب مضطرباً, وهوعجوز قارب الستين)

شمس النهار(مندهشة):أبتاه!لم يظهر الضحي بعد علي صفحة السماء,فما الذي جاء بك مبكراً من الدكان؟!

محجوب:لا شئ...أصابني ألم طارئء فجئت لأستريح.

شمس النهار(خائفة):ألم؟!أي ألم...أبي اكشف لي عما بك.

(محجوب يتهاوي علي الكرسي صامتاً)

شمس النهار:قد صدق حلمي...عندما اكتمل القمر في الشهر الماضي,كنت أري شرفات المنزل متهشمة علي الأرض,والبيت تتهدم أعمدته فوق رؤوسنا والصرخات والبكاء يصمان الأسماع,وبعدها جاء النبأ المخيف وتضعضعت أركان الحياة,هبط الطاعون كغضب من السماء ينصب فوق رؤوس العباد...والآن يا أبي...الآن يا حاج محجوب(تبكي)

محجوب:كل يوم يموت المئات,خلت الطرقات في مصروالشام ويقولون أن في البلاد البعيدة نفس الأمور,كم تصبح التعاسة متشابهة بين الناس لا فرق عربي أو أعجمي مسلم أو مسيحي أو يهودي أو ذاك الساكن في بلاد الأفيال,لا يوجد خشب للنعوش ولا قماش للأكفان من كثرة الاستهلاك ميت خلف الآخر بل عشرات خلف عشرات,ولو وجدوا فالأثمان خيالية من يستر الموتي من الأحياء؟!أصبح اللأب يدفن ولده وقد كان ينتظر أن يهيل ابنه عليه هو التراب...وهذا الصباح وأنا في الدكان رفعت يدي لأعلي ألتمس قارورة زيت فانكشف من الأكمام ذراعي(يكشف عن ذراعه فإذا به دمامل سوداء بشعة المنظر)ووجدت أني أصبت بعلامات الطاعون وليس علي سوي الانتظار(تقترب شمس النهار منه فيبعدها عنه بحركة من يديه,فتغطي وجهها بكفيها).

شمس النهار:آه يا أبي المسكين...ليتني كنت فداك.

محجوب:وقاك الله شر الطاعون والوباء يا ابنتي...والآن ارسلي في طلب خطيبك زياد لابد أنه في هذه الساعة ببيته في الجوار.

(تخرج شمس النهار)

محجوب(وحيداً)أي كابوس هذا؟! يظل الإنسان ساخطاً علي حياته شاكياً من الظروف والأيام,حتي يلم به أول داء,فيطلب من الله العودة إلي سابق عهده فإذا عاد يصير أسعد السعداء!ماذا يكون الإنسان ذلك الجبار الذي شاد الأهرامات وسور الصين العظيم وقصور روما واليونان,يغزو بالسيف ويحكم بالجبروت وبعزيمته خضعت الأمواج والجبال,ومع ذلك يذله الموت والأمراض,أيمكن أن يكون حقاً أعظك الكائنات علي وجه البسيطة فما باله يضطرب ويتقوض بنيانه(يكشف عن ذراعه)بعدة دمامل سوداء تنبثق من طين جسده...المال,الأهل,الولد,الحياة...ليس كل ذلك سوي قبض ريح وهباء,حيت تنحل القبضة المشبثة بالدنيا وقد فارقت الأنفاس الصدر لا يري في يديه وعينيه سوي التراب,نفس تراب أجداده القدماء الذي داس عليه بالأمس,وغداً يدوس بنوه علي ترابه وينفضونه بازدراء إذا علق علي الحذاء(يبتسم بمرارة)ربي ما حمتك في خل الحياة.

(يدخل زياد غير مدرك للكارثة)

زياد:السلام عليك يا عماه.

محجوب:وعليك السلام.

زياد:لماذا طلبتني في هذه الساعة؟

محجوب:اجلس أولاً(يجلس زياد)أين وصلت في دفترك عن حوادث الأيام؟

زياد:منذ بداية ذلك الطاعون الفتاك,وأنا لا أستطيع كتابة حرف واحد,كيف أصف الدمع الجامد في العيون والآماق؟وشحوب اليتامي وارتجاف الأرامل وبكاء الشيوخ؟ماذا أقول عن الموت الأسود وهو يفترس الأجساد ويطفئ الحياة المتألقة في الأحداق؟ودوماً تتتبع المجاعة الوباء لا جدال,ذلك قانون التاريخ الوباء ثم المجاعة,إن منظر الجثث في الشوارع والمقابر الجماعية ينادي باقتراب يوم الحساب...لقد سخر مني أصحابي يوم أخبرتهم بعزمي العكوف علي الكتابة والتدوين,وقللوا من شأني وأهانوني لتركي التجارة والمال,والانغماس في الحبر ومصاحبة الدفاتر والأوراق,لو يدركون ما يلاقيه الكاتب من آلام,ليصور ما في ذهنه ويقرب المسافة بين المعني والكلمات,ويحفر تمثالاً من السطور تجسد الرؤي والمعاني التي تمور في عقله المتعب المنهوك من كثرة التجوال بين الأفكار(ينتبه لشرود محجوب عنه)عماه(لا يرد محجوب فيناديه بصوت أعلي)عماه!

محجوب(ينتبه):أجل يا بني ماذا كنت تقول...ما بال الطاعون الفتاك؟

زياد:إنك شارد البال اليوم مضطرب الوجدان,ماذا جري؟

(يكشف محجوب عن ذراعه,يرتعد زياد)

زياد:ويلي!

محجوب:أوصيك بشمس النهار.

زياد:شمس النهار في قلبي ووجداني لا أحتاج إلي وصايا,ولكن أنت تحتاج للعلاج.

محجوب:علاج؟!

زياد:لي صديق يعمل علي ترياق يقول أنه يفيد لو لم تنتشر تلك الدمامل في أنحاء الجسد,يمكنها محاصرة المرض في مرحلة مبكرة,هل توجد في مكان آخر غير ذراعك؟

محجوب:كلا

زياد:إذن,فلأسرع كي أحضر لك الدواء.

(يندفع زياد للخارج مسرعاً يحاول محجوب الكلام فلا يلحق سرعة زياد,تدخل شمس النهار من نفس الاتجاه حزينة تلتفت خلفها)

شمس النهار:لماذا يندفع زياد للخارج كالسهم المصوب بيد رام ماهر؟

محجوب(بلا مبالاة):يقول أنه سيجلب لي ترياقاً يعالج الطاعون.

شمس النهار(يتلاشي حزنها):ترياق؟!أيوجد حقاً ترياق؟!

محجوب:علمي علمك,خطيبك هو من يقول.

شمس النهار:ويكون فيه العلاج وتشفي يا أبي؟!

محجوب:لا تعلقي آمالك علي خيوط العنكبوت يا شمس النهار,ولا تنتظر من زبد البحر أن ينبت منه التفاح.

شمس النهار(كأنها لا تسمع وقد غرقت في الأحلام):ومن يدري قد يظهر يوماً ترياق,يقتل كل الطواعين,ولا يُرمي لحم الإنسان كالجيفة في الطرقات,ولا يتاجر الجشعون وقت الوباء بالغلال والقمح وبالتوابيت واللأكفان,ربما يحل يوم عما قريب ينسي فيه الإنسان الآلام وتتطهر فيه الأرض من الأدران والأحقاد,فالحقد أيضاً وباء,وضحاياه يفوقون الحصر منذ بدء الزمان(تفتح ذراعيها)ويبزغ فجر الشفاء,شفاء الروح والجسد وتفني في القلوب الأحزان...أبي عليك أن تقاوم فالأمل موجود معنا وباق.

محجوب:أمل واه يا ابنتي وقد علمتني الحياة أن الخيبة منبعها السقوط من ذري الآمال,لتتحول إلي آلام تمزق النفس لأشلاء.

شمس النهار:أبتي إن العالق في الظلام يأتنس بخيط من نور الشمس يتهادي وسط قتامة الأيام.

محجوب:أتريدين حقاً أن أجرب الترياق.

شمس النهار:بالتأكيد ماذا سنخسر علي أي الأحوال؟

محجوب:أجل لن نخسر شيئاً,لكن ماذا لو عجل بنهايتي.

شمس النهار:لا تخش شيئاً,إن قلبي مطمئن لذلك الترياق.

(يهرول زياد وفي يده الترياق)

محجوب:كم دفعت ثمناً له؟

زياد:ذلك الصديق لا يبيع الدواء بل يمنحه,لا يتاجر في آلام الناس.

شمس النهار(تهرع وتقبض علي قارورة الترياق):الناس صنفان صنف يبيع الكفن للأموات وصنف يهب الحياة دون انتظار للمكافأة... هيا أبي اشرب.

(يتناول منها القارورة ويشرب)

زياد:والآن يا عماه ادخل كي تستريح كي يتفاعل الدواء.

(يخرج محجوب)

شمس النهار:كم أحبك يا زياد,يا جالب الترياق.

زياد:لو كانت روحي تكفي لإسعادك ما بخلت بها,كي ترتسم علي شفتيك ابتسامة لوكان ترياق أبيك دمي,ما ترددت.

شمس النهار:ومن يكون صديقك هذا؟

زياد:شاب اسمه عماد,يعمل بالكيمياء والأعشاب,لكنه عبقري موهوب,نابغة في مجاله درس علوم اليونان والعرب والسريان,,وهو الوحيد بين أصدقائي الذي لم يسخرني حين قررت التفرغ للكتابة والتدوين.

شمس النهار:لو يشفي أبي سأذهب إليه وأقبل يديه.

زياد:إنه كالراهب لا يفتح بابه لأي أحد,سوي بضعة أشخاص,حين يشفي أبيك سأشكره نيابة عنك,والآن سأذهب للتدوين,حتي يستيقظ أباكي,إني لأشعر بالأمل يحدوني,لن أكتب عن الموت والخراب,بل سأصور حلماً للحب والحياة,لن يعرقلنا الوباء والموت عن مسيرتنا مادمنا نمتلك موهبة العقل والإبداع...وداعاً وسأعود بعد ساعة.

(زيا د يخرج وتتمدد شمس النهار علي الأريكة,تغمض عينيها ويظهر علي المسرح حلمها)

(يدخل الموت مرتدياً عباءة سوداء مقبضة,يقترب من صبي صغير أقصي يسار المسرح,يتسلل نحوه ويحاول الانقضاض عليه,لكن أمه تظهر في نفس اللحظة فتحمله وتأخذه في حضنها وتخرج...يقترب الموت من فتاة ويركض نحوه لكن حبيبها يجذبها نحوه...يذهب الموت نحو زهرة ويمد يده ليقطفها لكن سرعان ما تسقيها يد ممدودة فيبتعد عنها...يقترب من عازف للناي وحين يبدأ في العزف يصم الموت أذنه ويبتعد عنه,يدور الموت في رقصة جنونية حول جميع الشخصيات في الحلم ويسقط أرضاً...ينتهي الحلم وتنسحب الشخصيات تباعاً وآخرهم الموت المهزوم).

(يظهر محجوب سعيداً ويوقظ شمس النهار)

محجوب:شمس النهار,لقد محيت الدمامل.

شمس النهار(تعانقه)حدثني قلبي أنك ستنجو.

(يدخل زياد فيري ذراع محجوب الصافي)

زياد(لا يجد الكلمات):عماه...إني...

محجوب(يعانقه):إنك رسول الحياة,لولاك ماعرفنا الترياق ولا الدواء...أملي الآن أن تصير الفرحة فرحتان,غداً ستتزوجان.

شمس النهار(خجلة):لكن يا أبي...

محجوب:لا أعذار...وسط أكوام الجثث والموت والدماء ستولد الحياة من جديد,لن ننهزم أمام جيش الدمامل السوداء,ستعود الحياة يوماً صافية ويجب أن نستعد لذلك(للجمهور)وطبعاً كلكم مدعوون

ستار

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق