الخميس، 10 أغسطس 2023

القرار الأخير


ظلت المكالمات التليفونية تلاحقه منذ إسبوع من شقيق زوجته وحماه، في إلحاح لا ينقطع لقبول وظيفة خارح البلاد، وفي المنزل لا حديث لزوحته إلا عن السفر، وكلهم حججهم مقنعة ومنطقية إلي درجة أشعرته أنه عدو لنفسه، ولا يريد الخير لبناته اللواتي يكبرن، وتزداد احتياجاتهن، بتردده أمام فرصة الثراء التي جاءته تسعي تطلب منه انتهازها، وهو يتهرب منها، يعلن لهم في حيرة:

-         صاحب المطعم الذي أعمل عنده منذ ١٦عاماً، لم يقصر معي في أي شئ، بل بالعكس لقد أقرضني دون أن أسأله ١٠آلاف جنيه أثناء مرض أمي، مايزال أكثر من نصفهم في عنقي لم يسدد بعد.

-         قال له حماه:

-         سأجمع لك المال الذي تدين به يا علي، وتعطيه لرب عملك، لو بقيت هما ستزداد ديونك ولن تدخر للمستقبل شيئاً، يسندك عند اشتداد الريح، والحياة تزداد صعوبة  كل يوم.

إنه يعلن نصف الحقيقة فقط، النصف الآخر صرح به لخالد شقيق زوجته وهو الوسيط الذي سيحصل علي الوظيفة من خلاله، وهو يزوره للمرة الثانية لإقناعه:

-         لا يمكنني مغادرة المدينة التي عشت فيها عمري كله، ولم أخرج منها أبداً، أعرف كل شبر فيها ويعرفني الجميع، فكيف تريدني أن أركب طائرة وأسبح في الهواء لأصلل إلي أناس غرباء أعيش بينهم كالضيف إن لم أكن كالأجير وقد اعتدت أن أكون صاحب مكان وسط من أبادلهم المودة، وضحكة القلب وقطعة الخبز والأسرار الصغيرة، كما إنني أعتبر المطعم جزءً مني، خاصة بعدما شاخ صاحبه وترك لي إدارته بكامل الحرية، مكتفياً بأخذ الإيراد، معتمداً علي تسيير عمله مطمئناً لأمانتي، فكيف أقف أمامه بعد ١٦عاماً من العشرة الطيبة تشاركنا فيها الحلوة والمرة، أعطيه المال الذي منحني إياه عن طيب خاطر، ولم يطالبني به يوماً، وكلما سددت منه جزء لا يقبله سوي لو حلفته بالغاليين أن يأخذه، فيترحم علي ولده ويدسه في عباءته دون حتي أن يعده، وأخبره أني سأسافر هكذا فجأة.

كان يتكلم بصدق وحماس وصوته صاف كأن لسانه مربوط بقلبه، شعر به شعر بذلك أحمد الذي اعتاد سماع ألسنة مربوطة بجيبها و حسابها البنكي، لها رنين معدني جاف خال من أي مشاعر عدا الطمع والخبث.

مضت ثوان لا يجد كلاهما ما يقولانه، قطعها خالد بكلمات لم يخيل له أنه سيقولها يوماً:

-         لأول مرة احتار في أمر رجل أعرض عليه السفر، فكلهم حين يسمعون قيمة الراتب يهرعون لتجهيز أنفسهم ناسيين كل شئ، بل منهم من أكلت الغربة قلبه، وحولته لجماد لا صلة له بمن حوله، فنسوا أهلهم وأولادهم وأنفسهم وهم يتصارعون علي المال بالكيد أو حتي بالعنف، لن أقول لك ابق أو سافر... إنك أدري بحالك.

ثم ابتلع رشفة من كوب الشاي الساخن أمامه، ناظراً للفراغ سارحاً في ذكريات بعيد  مبهمة:

-         ربما رزقك الحقيقي يكمن هنا، والرزق ليس مالاً فحسب كما أن السفر ليس كله خير.

إغراء المال لا يريد تركه، ينازعه كل من سافروا بنوا عمارات واقتنوا سيارات، وكانوا يسألون الله ثمن علبة السجائر، وبناته يؤلمن ضميره، إن الواحدة منهن سيتكلف تجهيزها للزواج أموالاً طائلة لم يرها في حياته، واستخدمت زوجته ذلك الشعور كي تضغط عليه أكثر، وكلما زاد الضغط شعر بالذنب تجاههن، وبرقت في ذهنه صورة ابنته الكبري وهي تنظر لدمية في أحد الفاترينات بتوله شديد، تود لو تضمها لصدرها وتلعب بها، نظراتها تضج باللهفة وفمها مغلق بألف قيد، فهي تدرك بالتجربة أن" كل شئ غال" وأن" بابا لا يستطيع"، حتي أصبح ذلك هو قانون حياتها، فكيف يبقي وأمامه فرصة لتغيير حياتهن، وليتألم هو كيفما شاءت له الحياة بكل ألوان العذاب، كي يرسم فوق شفاههن ابتسامة الفرح.

استلقي علي السرير، وفكرة السفر تغزو عقله، وقبل أن يغفزو جاءته بناته الثلاث وتحلقن حوله، سألته الكبري؟

-         أصحيح أنك ستسافر يا بابا؟

نظر في عينيها العسليتين، وداعبها قائلاً:

-         أتريدينني أن أسافر أم أبقي؟

-         بل تبقي.

وكررت شقيقتيها كلماتها في رجاء:

-         بل تبقي.

-         بل تبقي.

ارتعش قلبه في صدره كعصفور يرفرف في قفص ضيق يحطم عظامه:

-         ولكنني لو سافرت فسأجئ لكما  بكل ما تريدانه.

قالت الوسطي وصوتها يتهدج من خوف الفراق:

-         لا نريد سوي وجودك معنا في البيت.

حبس دمعه وفتح ذراعيه فوثبت البنات في حضنه وهن يتزاحمن ويتضاحكن، وعند الباب شاهد زوجته، وقد انسحبت هيئتها المتطلبة المحفزة علي الرحيل وتبدلت بصورة جديدة مفعمة بالهدوء والسكينة، وهي تكتشف لأول  مرة الكنز الصغير القابع بين جدران منزلها، القادر علي إزاحة كل ما في الأرض من إغراء، اقتربت منه ومسكت يده كما يمسك الغريق بحبل النجاة، وهي تهمس بصوت سمعه وسط ضحكات البنات" ابق فما نبتغيه حقاً عندنا، ولن نريد سواه"،وعندها اتخذ قراره القاطع لن يرحل ولو أعطون جبال الذهب، احتضن أسرته بكل قوته... لن يترك الحضن والملجأ ليلهث خلف الضائع كي لا يفقد الموجود.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق