الأحد، 27 أغسطس 2023

كلب ينبح علي الأمواج

 

كلب ينبح علي الأمواج

 

حين دخل قاسم إلي الفيلا التي استأجرها لقضاء عطلة الصيف علي الشاطئ، شعر بأنه تعرض لعملية نصب، صحيح إنها تطل علي البحر مباشرة، كما أخبره السمسار مؤكداً بثقة، لكنها خالية تقريباً من الاساس، والموجود فيها قديم للغاية ربما يعود لأربعين عاماً أو أكثر، والحديقة ممتلئة بأغصان الشجر المتساقط علي مر السنين وأكثر ما اغضبه إنها لا تستحق المبلغ الباهظ الذي دفعه، لم يجد بداً من البقاء حتي الصباح، وعندها سيبحث عن مكان آخر، لكنه هذه المرة سيعاينه بنفسه قبل الشراء ولن يري بعيون الآخرين ويصدق كلاماً في الهواء، تمدد علي السرير وهو يتساءل هل سيتم محاسبته علي تلك الساعات التي سيقضيها نائماً؟ بالتأكيد... ولكن كم سيدفع، فجاة وقع به السرير محدثاً ضجة شقت سكون شاطئ القرية السياحية، وانطلقت منه "آه" ممزوجة بالأم والغضب وصاح كأنه يحادث شخصاً خفياً موجوداً معه في الغرفة:

-إنها عادة التعساء أمثالي، يطاردهم الحظ السئ في كل مكان!

توجه إلي الشرفة، لكنه لم يستطع رؤية البحر في الظلام الدامس فخرج من الفيلا علي ضوء الموبايل، متعثراً في الأغصان الساقطة، وبلاط الممشي المكسور، وكاد يقع أكثر من مرة، حتي انتهي للشاطئ، وهناك جلس متنهداً، وعاد يكلم الشخص الخفي:

-كأني جئت كل هذه المسافة لأتعذب، لا لأتنزه!

أشعل سيجارة وحين انتهي منها، خرجت الشمس خجولة من مخبئها وراء البحر، تطل علي الكون  تشجع نفسها علي الظهور، وفي ضوئها الواهن المكافح ضد العتمة، رأي سيدة في الثلاثينيات، تجلس أمام الفيلا المجاورة، لم يرها إلا الآن، تنظر للبحر في صمت، ولما التقت نظراتهما ابتسمت له مرحبة:

-مستأجر جديد؟

-أجل.

سألته بلهجة من يعرف الإجابة مسبقاً:

-وما حال الفيلا؟

حك جبهته بأظافره:

-ما أكثر النصابين حولنا هذه الأيام.

-لكن لا يمكنك الإنكار إنها تطل علي منظر ساحر.

-لا يخلو أي شئ في الحياة من ميزة، مهما بدا قبيحاً.

سمع نباح من الداخل، وسرعان خرج كلب صغير الحجم من نوع "الشيواوا" حملته بين يديها وهمست وهي تداعبه:

-لقد استيقظت اليوم مبكراً يا روميو.

ابتسم قاسم لدي سماع الاسم، فنظرت له السيدة وشرحت:

-سميته روميو لأنه رومانسي ورقيق للغاية، وله قلب أطهر من كثير من البشر.

هز قاسم رأسه مؤمناً علي كلامها:

-الإنسان عليه أن يتخلي عن غروره ويتعلم الكثير من الحيوانات...

-وأول ما يجب عليه تعلمه ألا يؤذي غيره، فهو الكائن الوحيد الذي يؤذي ويدمر ويخرب دون سبب، يدفعه لذلك الشر الكامن في قلبه ورغبة خفية في الانتقام من شئ يجهله، لكنه ينهش كل يوم في أعماقه.

قال قاسم متعجباً:

-كدت اقول هذا بالحرف الواحد.

ملست السيدة علي رأس كلبها:

-توارد خواطر!

قفز الكلب من حضنها وعاد للداخل.

تأمل قاسم في عامود صخري غريب المنظر، تصفعه الأمواج بلا رحمة، ودقق فيه النظر كي يعرف ماهيته، فقالت السيدة، وبدا أنها سرحت في ذكري مبهمة:

-لقد كان منذ زمن بعيد جداً مكان الاستحمام علي الشاطئ، لكن الزمن وعوامل المد والجزر حولته لحطام لا فائدة منه، أحياناً يتسلق عليه الشباب ويلتقطوا صوراً لهم وهم فوقه.

نبح الكلب من الداخل، وفكر قاسم لأول مرة بشئ لم يكن لاحظه، كيف لكلب بمثل هذا الحجم، أن يصدر نباحاً بتلك القوة والشراسة، بل وخيل إليه أنه يسمع أكثر من كلب، وعلل ذلك أن الصمت يمنح أي صوت ضخامة لا تناسب صاحبها.

قامت السيدة وهي تعدل ملابسها، واستأذنت في الرحيل:

-إنه يطلب الإفطار، عن إذنك.

خطت عدة خطوات للداخل ثم استدارت وسألته:

-كم ستمكث هنا؟

كان لها تأثير غريب علي وجدانه منذ البداية، تصاعد الآن ووصل للذروة فأجاب:

-أنوي البقاء في إجازة طويلة.

-حسناً... سأراك كثيراً.

-بالطبع... لن أذهب لأي مكان.

عاد للفيلا وارتمي علي الأريكة الوحيدة الموجودة، وبمجرد أن أغمض عينيه غادر إلي عالم الاحلام، وتراءت له السيدة تناديه علي الشاطئ ليتسلقا العامود الصخري، استيقظ عند الظهيرة، خرج من الباب نحو الشاطئ علي أمل رؤيتها من جديد، ومن المرات النادرة في حياته يجد أملت متحققاً، ولم يخلف خيبة تترك ندوباً في القلب المهترئ من خيانات الأمل، وجدها في نفس مكان الليلة السابقة ترتدي مايوه وتدهن جسدها بكريم واق للشمس، جلس في مكانه وسألها وهو يتقي بيديه الشمس التي تخلت عن خجلها الاول وتوهجت في السماء تتحدي الكل بجبروتها الذي لا يلين:

-أليس الوقت مبكراُ علي السباحة؟

-أحب أن أسبح في تلك الساعة، تحت النور المطلق.

صمتت لحظة اكتست خلالها لهجتها بنبرة كئيبة وأكملت:

-إن نزول البحر في الظلام قاتل.

استعادت مرحها وهي تطلب منه بدلال:

-هيا... فلنسبح سوياً.

رضخ لطلبها وخلع ملابسه ونزل بالمايوه الجديد للبحر وهي ممسكة بيده، في تلك الساعة اختبئ أهل القرية كلهم من الحر، فبدا الشاطئ مهجوراً، انسلت منه وتوغلت في المياه تناديه بصوت ينضح إغراء ووعود بلذة لن تتكرر في حياته، فانجذب إليها لا إرادياً وهمس باستسلام:

-أنا لا أعرف العوم!

ومع ذلك تقدم ناحيتها وقد تخدرت حواسه فليس في الدنيا سواها، ولما غمرته المياه، صحا علي صوت يصيح:

-يا استاذ قاسم.... يا استاذ قاسم! هل أنت بخير؟!

فتح عينيه ووجد السمسار مبتلاً بالماء يحاول إفاقته:

-لماذا ابتعدت لهذه الدرجة؟

-ماذا حدث؟

-لقد جئت كي أشحن لك كارت الكهرباء فوجدتك علي وشك الغرق.

-إنها السيدة.

امتقع وجه السمسار وهمس بصوت مرتجف:

-أي سيدة؟ لقد كنت وحدك.

-السيدة صاحبة الكلب التي في الفيلا المجاورة.

ساعده السمسار علي النهوض ودلف به للداخل، وارتميا علي الأريكة، وسمع قاسم صوته الممتلئ بالرهبة:

-إني أعمل سمساراً في هذه المنطقة منذ أسبوع واحد، وقد سمعت عند وصولي إشاعات تدور حول سيدة غرقت منذ خمسين عاماً يظهر شبحها للمصطافين، ولقد حذروني من الفيلا التي أجرتها لك، لأنهم يقولون أنها كانت تسكن هنا، وانتحرت غرقاً ذات ليلة، بعدما فقدت الأمل في الإنجاب وهجرها زوجها لهذا السبل، وقد أحاطت نفسها بكلاب وقطط لتهدئ اشتعال غريزتها للأمومة، وقد اغرقتها كلها معها بعدما ربطتهم في حبل واحد وعلقت به صخرة ثقيلة.... عموماً أنا لا أصدق في هذه الأشياء لكن كلامك غريب للغاية وأخشي أن....

جري قاسم إلي الخارج تاركاً السمسار، ودق علي باب الفيلا المجاورة، ففتحت له طفلة تحمل دلو بحر ممتلئ بالماء، ومن خلفها ولد يمسك رشاش ماء بخ به علي وجه قاسم فأغرقه وهربا وهما يضحكان، سمع من الداخل صوت والدهما يلومهما، خرج لقاسم وهو يعتذر له، لكن قاسم قاطعه بحدة:

-أين المرأة التي هنا؟

دهش الرجل وتحفز لمعركة، فقد ظن أنه بتحدث عن زوجته، وصاح بصوت عالٍ:

-أي امرأة يا هذا؟

خرجت زوجته علي صياحه فسألها:

-هل تعرفين هذا الرجل؟!

أجابت الزوجة ممتعضة:

-لم أره إلا الساعة.

قال قاسم بصوت مكسور وعينيه تائهتين:

-المرأة.... المرأة الأخري!

صفق الرجل الباب في وجهه، وتلفت قاسم للشاطئ يبحث عن السيدة... ومن بعيد سمع صوت كلب ينبح علي الأمواج، والامواج تجيبه بهديرها الأزلي في حوار غامض لا ينقطع، ومضي ناحية الصوت وقد تخدرت حواسه من جديد.

محمود مجدي قدري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق