الأحد، 8 أكتوبر 2023

أرجوك أضئ الأنوار

 

 

 

كل ما فكرت فيه الليلة السابقة لتحكيه ذاب في تلافيف دماغك، وها أنت ذا ترقد علي الشيزلونج للمرة الثانية خلال أسبوع، في غرفة خافتة شبه معتمة والطبيب يجلس خلفك علي طريقة فرويد ينتظر كلامك، لتحكي عن كل ما دفعك للانتحار بتناول المسكنات، قبل إنقاذك علي يد البواب الأخرق في اللحظة الأخيرة، ما الذي جاء به في هذه الساعة الشؤم، ربما لو تأخر دقيقة لكنت الآن ترقد تحت التراب غاطساً في زوايا النسيان والظلام، مستوراً عن الدنيا والدنيا مستورة عنك وكل واحد في حاله... قدر لك أن تعيش وتحيا وتتألم حاملاً ندوبك لتكتوي بها مع كل رمشة من عينك وكل نفس يستقبله صدرك ويطرده.

قالوا العلاج النفسي سيساعدك في حياتك، بتخفيف أوجاعك أقطع ذراعي إن لم يكن الطبيب نفسه في حاجة لمن يأخذ بيده في معمعة الدنيا، لقد اخترته لأنه تعلم في الخارج، كل هذه الشهادات المعلقة علي الحائط من الجامعات تشير أنه تعلم حقاً، فبوسطن وهارفرد وأكسفورد، محاريب علمية ليست مطابع شهادات كما يجري عندنا، شهادة لكل مواطن ولا تطمح في شخص متعلم أو عقل مستنير، ومنذ قابلت الدكتور مصطفي لأول مرة وأنت تدرك أنه علي درجة عالية من الثقافة، لقد عرفك حين دخلت وخاطبك كصديق قديم" أهلاً... الأستاذ محسن عبد الباري الأديب الكبير في عيادتي... إنني من أكثر المعجبين بأعمالك" تعلم إنك محسن عبد الباري، ٤٠عاماً،مطلق منذ سنتين وابنتك إن لم تكن تكرهك فهي علي الأقل لا تحبك، تعيش منفرداً كذئب عجوز، ربما في كون مواز أنت رستم أفشين عالم نووي إيراني معرض للاغتيال في أي لحظة، أو ديفيد ناثانيل صراف يهودي تمتص دماء الآلاف، إدوارد أريانوس راهب مسيحي في دير علي قمة جبل، أديش بالان حاوي هندي تنام علي المسامير وتبلع النار، أساهي يوكي صياد يحوم بين جزر اليابان، إيغور ديمتري ضابط مخابرات روسي لا يعرف الرحمة...ما تعرفه عن نفسك أنك محسن عبد الباري، لتظل كذلك إذن، تشعر بالمعالج يتململ في مقعده، ربما يفكر في شئ خاص به، لماذا تشغل نفسك بالآخرين لتشغل نفسك بنفسك، عملك قائم علي شئونهم وحيواتهم، حسناً ليكن انشغالك بهم في إطار عملك فحسب، تسمعه يتكلم بعد صمتك المستطال بصوت محايد لا يشي بأي إحساس لابد أنه تدرب علي ذلك طويلاً:

-والآن يا أستاذ محسنهل مازالت الكوابيس تعرض لك في الليل؟

لماذا لا يسألك عن الأصوات التي تدوي في رأسك، عن صوتي مثلاً المسيطر عليك الآن، ويصوغ أفكارك السوداء، ويدفعك للجنون وكراهية الناس ومقت نفسك ويزين لك مغادرة الحياة بإرادتك بدلاً من الغصب الحتمي، صوت يجلدك بسوطه:

-لقد انتقلت الكوابيس من عالم الليل إلي عالم النهار.

-ماذا تعني؟ هل يمكنك الإيضاح أكثر؟

إنه يدرك جيداً ما تعنيه، يريد التأكد فقط، إنك في سبيلك للجنون التام، ستصير أوهامك ضلالات قوية، وتصبح الضلالات واقعك، وستسمع صوتي الأبدي، تنحنح واستجمع أفكارك المشتتة بين الرغبات والمخاوف، وقل بصوت مبحوح مرتجف:

-لقد أخبرتك عن الكابوس الذي يزورني كل ليلة، عن ذلك الرجل الأسود الشرس الذي يركض نحوي، ثم يهوي علي وجهي بصفعة مدوية، ويريد معاقبتي علي جرم لم أقترفه، وحولي ناس لا أعرفهم يتوسلون له أن يرحمني، ويدفعونني لطلب المغفرة منه، ومنهم من يتفرج علي مهانتي كأنه يشاهد مسرحية يسلي به وقته، وآخرون وهم كثر يضحكون ويشمتون، وأسمع صوت ضحكاتهم المتشفية تدوي في أذني، والدمع يطفر من عيني ذلاً وقهراً، في الأيام الأخيرة بدأ الكابوس يراودني في اليقظة، أتوقع حدوثه وأتهيب من البشر، أظن كل من أقابله سوف يمد يده علي ويصفعني، في الشارع في المطعم، في السوبر ماركت، عند مدخل العمارة، حتي وأنا وحدي، وهناك...

أكمل احكِ له عْرِ نفسك وأظهر عوراتك أيها الغبي.

-هناك ذلك الصوت الذي أسمعه يطن في رأسي، يخاطبني محقراً من شأني، ويصور لي الكل أعداء قساة، يودود في رأسي عن شخصيات عرفتها، مفتشاً فيهم عن شتي العيوب والمساوئ، ويقنعني أنهم يتربصون بي يريدون سجني وإهانتي وإذلالي، إني أخشي من مقابلة أي إنسان والتعامل معه... توماس هوبز علي حق" الإنسان ذئب للإنسان".

هل تسمع صرير القلم؟ لابد أنه يكتب شيئاً من عينة" بارانوياً"، "شيزوفرينيا" أو أياً من تلك الأسماء التي يظن أنها تفسر حالتك، إنك بالنسبة له مجرد زبون، أكل عيش، لا أحد يهتم بك حقاً.

-حتي أنه يشككني فيك؟

-وهل تشك في؟

-لا أدري، لم أعد أعرف أي شئ علي الإطلاق، كل ما أريده أن يصمت الصوت، وينمحي الكابوس.

أنت تعرف حيداً كيف ترتاح من آلامك.

-ربما لو كتبت عن ذلك في إحدي قصصك تتخفف من أحمالك النفسية.

-لم تعد لدي القدرة علي الكتابة... أجل تذكرت، إن كل شئ بدأ بعد عجزي عن الكتابة ، شعرت إني غير قادر علي التفكير والعمل، وضعت نفسي في ميزان مع كل من أعرف، فخفت كفتي وثقلت كفتهم.

-فقدت ما كان يضفي علي وجودك معني.

صرير من جديد، ماذا يكتب هذا الرجل؟ ماذا يعرف عنك حقاً؟! إنني أنا فقط من يعرفك، وأبوح لك بالصدق الكل إما كاذب أو مغفل، لا يهتمون إلا بذواتهم ومشاكلهم، لا أحد يفهمك أو ينتبه لك حتي من يصفقون لأعمالك لا يرون سوي كلماتك أما أنت فتقبع في بئر مظلم علي عمق سحيق، هل تظن لو جئت للعيادة هنا بدون مال، أكان يسمح لك بلمس الشزلونج حتي؟! قم يا متخلف وافعلها.

-فقدت الثقة في كل شئ وأصبحت أخاف من كل شئ، فسخان الغاز قنبلة موقوتة تنتظر تشغيلها حتي تنفجر وتحترق شقتي وأتفحم فيها، والبوتاجاز عيون من الجحيم تنتظر الإشعال لتلهمني، ومرايا الحمام تنتظر السقوط فتتشظي وتخترق وجهي وعيني، ورخام المطبخ سيسقط يوماً علي قدمي فيهشمهما،وإذا ركبت الأسانسير فإني ذاهب لحتفي، وإذا رأيت سيارة شرطة فهم جاءوا ليضعوا حبل المشنقة حول عنقي، وإذا عبرت الطريق فسأطير في الجو حيث ستصدمني سيارة مسرعة، أري الناس آلات حادة، سيمزقونني بألسنتهم وأيديهم، ينتظرون سقوطي، ومن آلامي ينهلون سعادتهم، السرحان والشرود يسيطران علي، لا أفهم شيئاً مما حولي ولا أعي ما يدور، أشعر بحرقة الألم وجحيم الخوف، حياتي عبارة عن كابوس وصوت، تصدع من ذهني مصرف ذكريات قديمة ظننت أني نسيتها وانتهت، وأخري أخذ الصوت يفسرها لي تفسيراً جديداً، وأراها بصورة مختلفة فتؤلمني كأنها تحدث الآن، فيتملكني الذعر والضعة والخذلان، ويسيطر علي إحساس بأن حياتي سلسلة من الهزائم والخيبات والفشل... أرجوك أضئ الأنوار... يكفي هذا اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق