الاثنين، 22 يناير 2024

الشاعر الذي مات حزناً!

 

  

الشاعر الذي مات حزناً!

 

في تاريخ الشعر العربي أسماء صارت أعلاماً علي فنهم، بما خلفوه من دواوين وأشعار، صاغت الوجدان العربي وأثرت لسانه وكتبوا لأنفسهم الخلود كامرؤ القيس والمتنبي والمعري وأبي نواس وغيرهم من مئات اللآلئ المتألقة في أحشاء بحر اللغة العربية علي حد وصف حافظ إبراهيم، وآخرين كتبوا لأنفسهم الخلود بقصيدة واحدة فحسب عرفت عنهم، فشغلوا النقاد والأدباء كدوقلة المنبجي والمنخل اليشكري وابن زريق البغدادي الذي انكسر قلبه ومات حزناً وحسرة، يصدق عليه بيت أمل دنقل في قصيدته الشهيرة" لا تصالح" وهو يصف موت كليب بن ربيعة" ثقبتني قشعريرة بين ضلعين..

واهتز قلبي-كفقاعة-وانفثأ!"

كان ابن زريق شاعراً معدماً من بغداد عاش في القرن الحادي عشر ميلادياً، سافر من بلاد العراق للأندلس، سعياً وراء الرزق كما يفعل حتي الآن ملايين من أهل الدول العربية الذين يرتحلون مفارقين أحبابهم ويدوسون علي قلوبهم كي يحققوا طموحهم المادي، مثلهم سافر ابن زريق تاركاً ابنة عمه التي تزوجها، كي يوفر لها معيشة حسنة كأترابها من نساء بغداد إحدي أكبر الحواضر العربية وعاصمة ديار الإسلام، لابد أنه رأي عز بغداد وثراء أهلها وشاهد نساء الأغنياء يتنعمن في المال والقصور، فحلم أن يصير غنياً وأن يكون لزوجته خدم وحشم كزوجات السادة، لكن بغداد سدت أبوابها في وجهه، فيمم وجهه لدنيا جديدة بالنسبة إليه، وفي الأندلس قصد الأمير أبا عبد الرحمن الأندلسي وتقرب إليه مادحاً، فأراد عبد الرحمن أن يختبر شخصيته فأعطاه جائزة زهيدة، فقال ابن زريق" إنا لله وإنا إليه راجعون سلكت البراري والبحار، والمهامه والقفار إلي هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء النزر" فشعر بانكسار النفس وقلة القيمة، وانشغل عنه الأندلسي عدة أيام بشئون الحكم وهموم الإمارة، حتي تذكره فبحث عنه حتي وجده في الخان الذي نزل فيه عند مجيئه، وسألوا عنه الخانية فقالت إنه لم يخرج من حجرته ولم تره منذ الأمس فصعدوا لحجرته ووجدوه ميتاً وتحت رأسه قصيدته اليتيمة المؤثرة التي لم يعرف له سواها، وحين قرأها أبو عبد الرحمن الأندلسي بكي وقال:وددت لو أن هذا الرجل حي وأشاطره نصف ملكي" هكذا جاءت القصة في كتاب" مصارع العشاق" لابن سراج وتعددت الإشارات لابن زريق في عدة مصادر أخري كـ" الإمتاع والمؤانسة" للتوحيدي، و" يتيمة الدهر" للثعالبي، و" تاج العروس" للزبيدي، ولم يعدم ابن زريق من تشككوا في وجوده من الأساس، فالشك في الشعراء غواية النقاد والأدباء منذ عصر هوميروس صاحب ملحمة الإلياذة والأوديسة أشهر النصوص الشعرية في التاريخ، وانقسم الباحثون لفريقين الأول يدعي أنه لا يوجد شاعر اسمه هوميروس، وأن الملحمة نتاج عدد من الشعراء اليونانيين، والثاني يبرهن علي وجوده التاريخي فنشأت مشكلة لم تحل للآن في عالم النقد الأدبي عرفت باسم" المشكلة الهوميرية"، وفي الثقافة العربية يحيط الشك بالكثير من الشعراء ومنهم من يحق الارتياب في وجوده التاريخي، ومنهم من تكون أسانيد وجوده قوية، فابن زريق مثلاً قصيدته في غاية النبل والذوق بعيدة عن الصراعات الدينية والسياسية التي مزقت بين الفرق والمذاهب، فما الذي يجعل شاعراً ما أن ينشدها ثم ينسبها لاسم وهمي، فيضطر هو أو الرواة بعد ذلك إلي اختراع قصة لذلك الاسم وتلك القصيدة، أجل هناك حالات مشابهة حدثت، لكنها لا تصدق علي ابن زريق البغدادي، فهو حالة إنسانية من الطراز الأول وجودها الفعلي أكثر إقناعاً من ابتكارها من عالم الخيال فلا يصدق عليه وصف الأديب العراقي نعمان الكنعاني بأنه" شاعر عنقائي الوجود"! لأن قصته لا تحمل مبالغات ولا فيها انتصاراً لحزب علي حزب آخر، ولا نستشف منها تكلفاً لإبراز شخصية عامة، فوجوده التاريخ أقرب لواقع الحال.

القصيدة آية من آيات البيان العربي وصفاء اللغة وعذوبتها وحسن وقعها من النفوس، وفيها صراع نفسي درامي قوي بين الأنا والهو والأنا الأعلي، تمتاز بوحدة فنية محكمة، سميت باليتيمة لأن صاحبها لم يعرف له قصيدة أخري، وأغلب الظن أن شعره ضاع مع الكنوز الجمة التي ضاعت من التراث العربي، فكاتب هذه القصيدة لايمكن أن يكون هاوياً أو متكسباً بالشعر عاني من نار الشعر والإحساس حتي احترق بهما، وسميت أيضاً بالفراقية لاشتمالها علي ألم الفراق نحس به ينز من بين مقاطعها، وقد شطح الخيال بالبعض فسموها أم الفرائد لأنهم تصوروا أنها من شعر الجن كتبوها وهم يرون مأساة حياته فعبروا عنها بكتابة هذه القصيدة ووضعوها في رقعة تحت رأسه حين حضرته الوفاة!

اختار لها الشاعر البحر البسيط وهو من البحور المركبة التي تتألف من ٨تفعيلات تتكرر بين مستفعلن وفاعلن، فمثلاً قوله:

قد كان مضطلعاً بالخطب يحمله  فضيقت بخطوب الدهرأضلعه

تتكون من:

مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن   مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن

ذلك البحر يناسب حالته النفسية البائسة، وأشجانه الحزينة، وخير ناقل لتلك لمشاعر تلك الشخصية الحائرة التي ذاقت مرارة الحزن والأسي فجرت علي لسانها أبيات تقطر باللوعة وعذاب الغربة والندم، وفي تلك القصيدة حكم بالغة القوة والجمال، فقد كتبها ابن زريق وهو علي شفا الموت وقد صفت نفسه، بينما ينظر إلي حقيقة الحياة في عينها غير هياب، لقد هرب من الفقر ومن بلاده، ومن ماضيه، ولم يجد الهرب شيئاً، عليه الآن مواجهة الحياة للمرة الأخيرة، وينشد أمامها معزوفته الأخيرة المشحونة بحكم مصفاة تعبر عن إيمانه بالله والقدر وإن كان يقع اللوم علي مخلوق فهو الملوم، يستهل قصيدته برجاء:

لا تعذليه فإن العذل يولعه  قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه

جاوزت في لومه حداً أضر به  من حيث قدرت أن اللوم ينفعه

فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً  من عذله فهو مضني القلب موجعه

يوحد بين زوجته وبين الأنا الأعلي، فكلاهما يلومانه علي ماجري، ويطلب منهما ألا يكثرا من عذله-والعذل هو اللوم-فذلك يؤجج أحزانه ويجعل نيران الحزن والندم تشتعل داخل قلبه، كانت زوجته علي حق حين رفضت هجرته من العراق، لكن رغباته الدنيوية ووسوسة نفسه صبا وقراً في أذنيه فلم يسمعا نداء الحق، والبيت الثاني أشد التصاقاً بالأنا الأعلي فهي تجلده بقسوة اللوم والعتاب، ويرجوها الترفق به، فهو معذب تملؤه المواجع.

قد كان مضطلعاُ بالخطب يحمله  فضيقت بخطوب الدهر أضلعه

يكفيه من لوعة التشتيت أن له   من النوي كل يوم ما يروعه

ما آب من سفر إلا وأزعجه   رأي إلي سفر بالعزم يزمعه

كأنما هو في حل ومرتحل   موكل بفضاء الله يذرعه

مازال يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب، يتجه للحديث للأنا عن الهو أو للمحبوبة عن نفسه التي ضيعته في بلاد الغربة، ولا يمكن إلا أن نرثي له فقد كان صابراً علي خطوب الزمن وأزمات الحياة، حتي ضاق بها صدره وانفلتت الآهات من بين أضلعه، لقد كان السفر هو وسيلته الوحيدة لتحقيق ذاته، ويكفي عذاباً له أن الفراق يؤلمه كل يوم ويطعن بحرابه قلبه المحزون، إنه نادم من صميم فؤاده علي قرار الرحيل فهو نعذب في الغربة ومعذب في الوطن، لا يرجع من سفر حتي يجد نفسه مضطراً إلي سفر جديد، حياته لا تعرف الاستقرار ولا الحضن الدافئ الذي يشتاق له في ليالي الأندلس الباردة، وهو وحيد يناجي هواجسه وآلامه، كأنما كتب عليه السير في أرض الله غريباً في بلاد غريبة لا يهدأ له بال ولا يعرف الانسجام والراحة، كل موضع بمثابة ترانزيت يفضي به ألي موضع آخر، لا يأمن علي روحه ولا يحيا حياة عادية كبقية خلق الله.

ثم يسرد الشاعر ويفند لنا أسباب تركه لبلاد الرافدين، وينطلق علي لسانه ما تعلمه من عبر:

إن الزمان أراه في الرحيل غني   ولو إلي السند أضحي وهو يزمعه

وما مجاهدة الإنسان توصله رزقاً   ولا دعة الإنسان تقطعه

قد وزع الله بين الخلق رزقهمو   لم يخلق الله من خلق يضيعه

لكنهم كلفوا حرصاً فلست تري   مسترزقاً وسوي الغايات تقنعه

والحرص في الرزق والأرزاق قد قسمت  بغي إلا أن بغي المرء يصرعه

والدهر يعطي الفتي من حيث يمنعه  إرثاً ويمنعه من حيث يطمعه

لقد أطمعه الزمان في الغني وعبثت به الخيالات والأحلام، حتي ولو كان سيسافر للسند فعزمه لن يلين ونيته حاضرة، والسند مرتبطة في الخيال العربي بالبعد السحيق الذي دونه مخاطر وأهوال، وذكر هنا كتسريب من لا وعي الشاعر له دلالة علي سيطرة الأمنيات الخيالية علي عقله.

ومن الشطحات الخيالية في البيت السابق إلي الدروس المستفادة والحكمة المتولدة"بطلوع الروح" حرفياً، حيث كانت هذه الأبيات هي آخر ما عهد الشاعر بالحياة، فيقول إن الأرزاق وزعت علي الناس قبل أن يدبوا علي الأرض، فالله لم يخلق البشر للضياع، فلا المجاهدة والصراع علي الرزق، هي الضامن لأسباب الثراء، ولا الدعة والركون إلي الراحة هي المانع من الوصول إلي الهدف، لكنها طبيعة البشر في الحرص والتنافس والطموح الذي جعل الإنسان في حالة طلب ورغبة متواصلة لا يعرف القناعة ولا الرضا، ما يجعله في حالة سعار متواصل يؤدي به أحياناً إلي الهلاك، والزمن يعطي ويمنح علي هواه ليس للإنسان سلطان عليه، فيعطيه من الباب الذي ظن أنه مغلق أمامه ويمتنع عليه مايخيل أنه مضمون لم يبق سوي أن يسقط في راحة يده.

أستودع الله في بغداد لي قمراً   "بالكرخ" من فلك الإزرار مطلعه

ودعته وبودي لو يودعني   صفو الحياة وأني لا أودعه

وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحي   وأدمعي مستهلات وأدمعه

بأسلوب الفلاش باك علي طريقة السينما، يتلفت قلب ابن زريق إلي بغداد، ويتلفت مع قلبه وعيه وذاكرته وكيانه وحواسه جميعاً، فتصفو لغته وترق ألفاظه رقة فوق رقتها، وهو يتذكر محبوبته ووداعها له، فيستودعها الله، ويصورها بأنها قمر يطل علي الكرخ، وهو الاسم الذي كان يطلق علي الجانب الغربي لمدينة بغداد التي يشقها نهر دجلة لقسمين، يعرف الشرقي بالرصافة والغربي بالكرخ، ولكن ذلك القمر لا يطلع من حيث تدور النجوم والكواكب، إنما يطل من فلك الأزرار، وفلك الأزرار يعني ثنايا الثوب، وذلك تشبيه فريد وفي منتهي الرهافة الشاعرية، حتي أنه حير بعض القراء والدارسين، فظنوا أن "فلك الأزرار" أحد أمكنة مدينة بغداد، كان الشاعر يسكن فيه، أورث ابن زريق معناه الجميل إلي شعراء الأندلس الذين جاءوا بعده، فالشاعر الغرناطي ابن هذيل النجيبي يستخدم نفس التشبيه في قصيدة له مطلعها:

ألا استودع الرحمن بدراً مكملاً   بفاس من الدرب الطويل مطالعه

ففي فلك الأزرار يطلع سعده   وفي أفق الأكباد تلقي مواقعه

وأندلسي آخر هو الشاعر والكاتب أبو عبد الله بن زمرك، كاتب سر السلطان ابن الأحمر، يقول كما أورد ابن خلدون في كتاب"رحلة ابن خلدون":

فكم في قباب الحي من شمس كلة   وفي فلك الأزرار من قمرسعد

 أما السلطان تميم بن المعز فيحور المعني إلي شكل آخر بقوله:

كأنما الشمس من أثوابه برزت   حسناً أو البدر من أزراره طلعا

فماذا فعلت يا ابن زريق بقمرك هذا الذي ألهمك وألهم شعراء عدة في أجيال أعقبتك، لقد ودعه وتركه وها هو يتمني لو كان ودع السعادة والراحة واستقبل عالم الشقاء والألم ولم يفارقه، ويعترف إنه قد تشبث به يوم الرحيل ودموعهما سوياً تتدفق من ألم الفراق، واصفاً صورة نابضة لساعة الفراق:

لا أكذب الله ثوب الصبر منخرق   عني بفرقته لكن أرقعه

إني أوسع عذري في جنايته   بالبين عنه وجرمي لا يوسعه

 تشبيه جميل آخر حيث يقول أن ثوب الصبر تقطع وانخرق من لوعة حزنه علي فراق محبوبته، وليس له حيله إلا بترقيعه بمزيد من الصبر.

ويعطينا حكمة سياسية وإنسانية، بأن الله أعطاه ملكاً يتمثل في زوجة محبة ومنزل هادئ دون مشكلات أو منغصات، فغفل عن كل ذلك وسعي لهلاك روحه:

رزقت ملكاً فلم أحسن سياسته   وكل من لا يسوس الملك يخلعه

ومن غدا لابساً ثوب النعيم   بلا شكر عليه فإن الله ينزعه

ويستمر الشاعر في بث شكواه بحرقة والقصيدة كاملة:

 

لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ

قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ

جاوَزتِ فِي نصحه حَداً أَضَرَّبِهِ

مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ النصح يَنفَعُهُ

فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً

مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ

قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ

فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ

يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ

مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ

ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ

رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ

كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ

مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ

إِذا الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً

وَلَو إِلى السَندّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ

تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه

للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ

وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ

رزقَاً وَلادَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ

قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ

لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ

لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى

مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ

وَالحِرصُ في الرِزقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت

بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ

وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه

إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ

اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً

بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ

وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي

صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ

وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً

وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ

لا أَكُذبُ اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ

عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ

إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ

بِالبينِ عِنهُ وَجُرمي لا يُوَسِّعُهُ

رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ

وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ

وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا

شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ

اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ

كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ

كَم قائِلٍ لِي ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ

الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ

أَلا أَقمتَ فَكانَ الرُشدُ أَجمَعُهُ

لَو أَنَّنِي يَومَ بانَ الرُشدُ اتبَعُهُ

إِنّي لَأَقطَعُ أيّامِي وَأنفقُها

بِحَسرَةٍ مِنهُ فِي قَلبِي تُقَطِّعُهُ

بِمَن إِذا هَجَعَ النُوّامُ بِتُّ لَهُ

بِلَوعَةٍ مِنهُ لَيلى لَستُ أَهجَعُهُ

لا يَطمِئنُّ لِجَنبي مَضجَعُ وَكَذا

لا يَطمَئِنُّ لَهُ مُذ بِنتُ مَضجَعُهُ

ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ الدهرَ يَفجَعُنِي

بِهِ وَلا أَنَّ بِي الأَيّامَ تَفجعُهُ

حَتّى جَرى البَينُ فِيما بَينَنا بِيَدٍ

عَسراءَ تَمنَعُنِي حَظّي وَتَمنَعُهُ

قَد كُنتُ مِن رَيبِ دهرِي جازِعاً فَرِقاً

فَلَم أَوقَّ الَّذي قَد كُنتُ أَجزَعُهُ

بِاللَهِ يا مَنزِلَ العَيشِ الَّذي دَرَست

آثارُهُ وَعَفَت مُذ بِنتُ أَربُعُهُ

هَل الزَمانُ مَعِيدُ فِيكَ لَذَّتُنا

أَم اللَيالِي الَّتي أَمضَتهُ تُرجِعُهُ

فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ

وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ

مَن عِندَهُ لِي عَهدُ لا يُضيّعُهُ

كَما لَهُ عَهدُ صِدقٍ لا أُضَيِّعُهُ

وَمَن يُصَدِّعُ قَلبي ذِكرَهُ وَإِذا

جَرى عَلى قَلبِهِ ذِكري يُصَدِّعُهُ

لَأَصبِرَنَّ على دهر لا يُمَتِّعُنِي

بِهِ وَلا بِيَ فِي حالٍ يُمَتِّعُهُ

عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِبُ فَرَجاً

فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ

عَسى اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا

جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ

وَإِن تُغِلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ

فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق