الاثنين، 8 يناير 2024

مرآة جحا

 

مرآة جحا

 

حفل التراث العربي القديم بشخصيات غاية في الظرف واللطافة، تثير ضحكات كل من يعرف العربية لا يخفت توهجهم مهما بعد بهم الزمان، بل لعلهم كلما أوغلوا في التاريخ كانوا أكثر إثارة ومدعاة للابتسام، ومن تلك الشخصيات "جحا" الاسم الأشهر في التراث العربي  عموماً، يعرفه الكبير والصغير علي السواء، ويستمتع به القراء علي اختلاف مستوياتهم، وتحمل لهم حكاياته دوماً عبراً ودروساً يتعلمون منها وهم في غاية البهجة والاندماج.

جحا اسم لشخص حقيقي ولد في العقد السادس من القرن الأول الهجري وقضي معظم حياته في الكوفة، ورغم عدم اتفاق المصادر في تحديد شخصيته بدقة، إلا إنها أجمعت علي وجوده التاريخي، فقد ذكر اسمه لأول مرة إمام أدباء العصر العباسي وأحد أعلام التراث أبو عثمان عمرو بن بحر المعروف باسم الجاحظ المتوفي ٢٥٥هـ، في رسالة الحكمين، وفي كتاب البغال، وقال الجوهري المتوفي ٣٩٣هـ أن" أبا الغصن كنية جحا، وأشار ابن النديم في" الفهرست" إلي كتاب  لمؤلف مجهول ظهر عام ٣٧٧هـ عنوانه" نوادر جحا"، وفي العصر الحديث شهد كامل الكيلاني رائد أدب الأطفال أنه رأي مخطوطاً قديماً كتبه أبو السبهلل  طارق بن بهلل بن ثابت ابن شقيق جحا الذي عني بتسجيل عمه جحا، ونجده أيضاً في شعر عمر بن أبي ربيعة أحد كبار شعراء الغزل:

دلهت عقلي وتلعبت بي   حتي كأني من جنوني جحا

وتخبرنا المصادر أيضاً أنه التقي بأبي مسلم الخرساني، الذي حارب بني أمية حتي قضي عليهم، وكان قد سمع عن جحا حين دخل العراق، فأبلغ يقطين بن موسي عن رغبته في رؤية جحا، فدعاه يقطين للقاء الخرساني، القائد العسكري الذي غير تاريخ العالم العربي بانتصاراته ومهد لخلافة بني العباس، وكانت له هيبة في نفوس الناس فأراد جحا أن يتخلص من معرفة ذلك الرجل وما تجلبه من متاعب فتحامق كعادته، وحين دخل علي يقطين وأبي مسلم مجلسهما ولم يكن هناك غيرهما قال جحا: يا يقطين أيكما أبي مسلم؟ فلم يتمالك الخرساني نفسه من الضحك، ولم يكن هناك من رآه يضحك قبل ذلك لجسامه المهام العظيمة الملقاة علي كاهله.

انسلخ جحا عن سياقه التاريخي ليصبح مثالاً علي الذكاء والتحامق حسب مقتضيات الموقف، وتحول إلي فلسفة ورؤية للحياة، وزاد في انتشاره بين الناس غرابة اسمه وعدم تداوله، وخلق له الخيال الشعبي أسرة مكونة من زوجة وأبناء، واستمر الرمز الجحوي يؤدي عمله في التنبيه والإضحاك والسخرية لقرون طويلة ودخل في وسائط معاصرة كالمسرح ولإذاعة والسينما والتلفزيون بل وتتسمي المحال التجارية والمطاعم وأماكن الترفيه باسمه، فهو النكتة التي تخفف عن الشعوب العربية معاناتها الطويلة من القهر والاحتلال والظلم، وكأن كل الشعوب تحتاج لجحا في حياتها يتكلم بلسانها ويجسد قضاياها وهمومها، فاستنسخ الترك شخصيته ليصبح نصر الدين خوجة الذي تجمعه مواقف عدة بتيمورلنك أحد أعنف المحاربين في التاريخ، ويبين من خلال كلامه معه مدي ظلمه وافتراؤه علي الخلق بأسلوب ظريف مبطن، وهنا ننبه أن الرمز الجحوي من أدواره أن يكون منصفاً للشعوب أمام الطغاة، فلا نجده أمام حاكم عادل البتة، بل يمثل الفرد المسحوق أمام جبروت الظلمة وعرفه الفرس باسم" عبيد الزاكاني".

ظهر جحا كثيراً في ساحات القضاء في صور ثلاثة صاحب دعوة، مدعو عليه، وقاض، ونوادره في الصور الثلاث أظهرت ألاعيب الناس والقضاة أنفسهم، وحينما يظهر جحا قاضياً يصبح غاية في الذكاء مما يحيلنا إلي إياس بن معاوية القاضي المشهور بالذكاء في تراثنا العربي، أما بيته فوجهة للصوص كأنه يرمز إلي البلاد العربية التي تعرضت للنهب والسرقة من الاحتلال، وجحا علي الدوام ينتصر علي السارقين بحيله التي لا تنتهي وسرعة بديهته، فلقد دخل لص بيت جحا وسرق بعضاً من الأثاث فخرج جحا خلفه، ولما التفت السارق ورائه ووجده سأله: ماذا تريد يا رجل فأجاب جحا معزل من بيتنا إلي بيتكم أنا أخذت جانباً من الأثاث وأنا حملت الباقي وإن شاء الله  عند طلوع الشمس يجئ الأولاد والنسوان كلهم، إنهم فرحون جداً لأنهم سيعزلون من بيتنا الخربان، فتحير اللص وقال: خذ مالك وأرحني من شرك"، وأحياناً هو معدم فقير لا يملك أي شئ دخل، دخل عليه لص فقالت له امرأته خائفة: ألا تري اللص في البيت؟ فأجابها بهدوء: لا تهتمي به فلعله يجد شيئاً فنأخذه نحن منه، ولا يتورع جحا عن فضح حقيقة مجتمعه وطبيعة أفراده، فقد مر عليه رجلاً من معارفه وهو يأكل علي قارعة الطريق، فلامه علي فعله بحجة إن ذلك يحط من قدره في نظر الناس، فقال جحا: وأين الناس؟ فأجاب: هؤلاء الذين يمرون بك، فقال جحا ليسوا بناس، ولكنهم بقر، فأنكر الرجل عليه قوله فلم يرد جحا مناقشته كي لايسمع الناس، وقرر إعطاؤه درساً عملياً، فدعا الناس حتي التفوا حوله ووعظهم بكلام مؤثر، أفاض الدمع في عيونهم وبكت قلوب مشفقة علي حالها، وذكر لهم أحاديث الأمم السالفة حتي قال: أيها الناس لقد جاء في الأثر من أخرج لسانه فضرب به أرنبة أنفه غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما بقي أحد منهم إلا وأخرج لسانه وراح يضرب به أرنبة أنفه، فتركهم جحا والتفت لصاحبه قائلاً: انظر أيها الأحمق أناس هؤلاء أم بقر؟

شخصية جحا كما صاغها الخيال الشعبي، حملت سمات كثيرة من طبيعة الإنسان المصري والعربي عموماً بمعايبه ومفاخره، وأوضاعه في ظل تقلب الأزمان واختلاف الدول، والعديد من الحكايات المنسوبة له، وردت في كتاب" نزهة النفوس ومضحك العبوس"، للكاتب الساخر علي بن سودون المصري الذي عاش في القرن التاسع الهجري في عصر المماليك البرجية، فكان هو بطلها الحقيقي حيث أخذ مادة الفكاهة من كل شئ في الحياة، وأشهرها حكاية الجبة التي كان ينشرها فوق السطوح فهبت عاصفة فأطاحت بها علي الأرض، فكتب ابن سودون خطاباً لوالده يحمد الله علي نجاته من موت محقق، لأنه لو كان في الجبة وقت العاصفة لسقط ومات علي الفور!

مع جحا في كتب التراث العربي، نضحك ونتعلم ونستكشف جوانب مختلفة من التاريخ واللغة وطبيعة المجتمعات، وندرك بصورة غير مباشرة وحدة الثقافة العربية التي انتخبت جحا ليكون مؤرخها غير الرسمي وممثل لنمط حياتها المتذبذب، والمضطرب، إن جحا شخصية غير عادية خلقها الأدب العربي في ظل ظروف صعبة فجاءت صوتاً لمن لاصوت، ورمزاً للملايين الذين يمشون كل يوم في الشارع دون أن يعبأ بهم أجد، ومع ذلك يجدون صورتهم في مرآة جحا... ولعل ذلك سر صمود تلك الشخصية وذيوع شهرتها.

محمود قدري

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق