الثلاثاء، 6 أغسطس 2019

مصرية في أمريكا


مصرية في أمريكا
غادرت رضوي عاشور القاهرة في فجر 30أغسطس عام1973,وعمرها  27عاماً,قبل شهرين من حرب أكتوبر المجيدة,في حوزتها حقيبة صغيرة داخلها جواز سفر ومحفظة جلدية بها صورة عائلية,تتشابك "صورة"صلاح جاهين المرسومة بصوت عبد الحليم,وفي ذهنها صورة لرفاعة الطهطاوي الذي سافر من قبل لتحصيل المعارف.
قدمت نفسها لأول من تعرفت عليه في أمريكا وكانا فتاة بولندية وشاب اسرائيلي,تفاجأت بجنسيته ولم تعلق"أنا من مصر,اسمي رضوي عاشور".
بدأت الدخول إلي الحياة الأكاديمية الأمريكية لتنهي دراستها عن الأدب الأمريكي الأسود,تعرفت علي مايكل رئيس قسم الدراسات الأفرو أمريكية,فتحت له قلبها,حدثته عن أشجان الهزيمة وعبرت له عن شعورها بالغربة والاضطراب,وفي حجرتها وجدت زميلتها لويز,نشأت معها مشاكل العلاقة بالآخر المختلف,وتوجسات الدين والثقافة.
ينتابها الحنين لزوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي,الذي تزوجت منه رغماً عن أسرتها,وعند نشوب الحرب يستغرقها نشاطها في الجامعة,تتعرض لمضايقات الطلاب الصهاينة وتناقش الطلبة العرب والأمريكان,وتبرز لنا صراع الهويات بوجوهها الكثيرة وذوبان إنسانية الفرد فيها.
تتعرض لحادثة سيارة نتيجة لركضها بدنياً,ركضاً موازياً لتطلعات نفسها وروحها,ثم تتماثل للشفاء يزوها زملائها,يداعبونها بعبارات من عينة"طبعاً لم تعتادي السير بين السيارات..الجمال لا تدهم المشاة"ومن هذه العبارات تتبين صورة العرب المشوهة عن الأجانب.
تفرحها قصائد زوجها عنها,تدخل الألفة روحها مع حياتها الجديدة,تأتي زميلة جديدة في السكن اسمها أنيتا,يرتاحان لبعضيهما وتحكي لها عن أصولها العربية,مما يقربهما أكثر,وفي قسم"ديبوا للدراسات الأفريقية"نسبة إلي"ديبوا" أبي الوحدة الأفريقية-كانت زوجته هي من ساعدت رضوي في بداية حياتها الجامعية-تلقي  الحب والاحتفاء,أليست من مصر؟!والأفارقة يجلون هذه البلاد العظيمة الواقعة في نفس قارتهم,التي اقتلعت منها جذورهم,ويعتزون بها وبحضارتها ومساندة عبد الناصر لحركة تحرره الوطني.
تسجل شعورها الأنثوي وهي تقود الدراجة,المحرمة علي معظم الفتيات في بلادها,وشعورها بأنها"منفية من تاريخ الأزهر كلما لمحت أفاريزه ومآذنه ولو في الخيال,وأنا الحبيسة في تاء التأنيث لم تخط قدماي العاريتان أبسطة المسجد الألفي إلا كزائرة غريبة".
مع قراءتها لخطاب السادات بجريدةالأهرام في المكتبة,بعد الحرب شعرت بالخوف,بدا إنها استشرفت سياسته العجيبة اللئيمة في التعامل مع الأوضاع الخارجية والداخلية,المسببة للكثير من الأزمات التي مازالت نارها الخبيثة حية تسعي!بعد خروحها سألها زميلها
"-هل أنت مريضة؟
-كنت أقرأ الأهرام.يقول ياخدوا عشرة كيلو من عندي!
-من الذي يقول؟
-السادات كنت أقرأ خطابه,إنه يتكلم عن الأرض كأنها ملكه الخاص يتصرف بها كما يحلو له"
تعيش رضوي وتجذبنا معها,في شكل من أشكال الاحتماء والتآزر,بالآخرين في الغربة,عند وصفها لأوقات مشاركة الطعام,شباب مغتربين من دول مختلفة يجدون في بقائهم معاُ ما يزيل وحشة الغربة.
تنغمس رضوي في الحياة العلمية,هناك علي الجانب الآخر حيث التعليم والثقافة مع "كولديرج,و"شيلي"والنظرية النقدية للكتاب المثاليين الألمان,وتنتهز فرصة لم تتوفر للكثيرين ربما لو وجدوها لعبّوا من العلم كرضوي,ولتحسنت حال البلاد بدلاً من هذا الصدأ الذي يعلوها بفعل غياب التعليم غياباً تاماً!
في الربيع تقضي يومين بمدينة بوسطن,تزور طريق الحرية الذي يمر بأهم المواقع الأثرية المرتبطة بأحداث الثورة الأمريكية,لم تثر هذه الثورة في نفس رضوي اهتماماً ولا خيالاً,عكس الثورة الفرنسية التي فتنتها تفاصيلها وتتملكها كأنها طفلة تنصت إلي حكايات ألف ليلة وليلة.
عندما تعلق صديقتها"اللا":
"-هنا قتل خمسة أشخاص علي أثر مناوشة بين الأهالي والعساكر الإنجليز في مارس 1770,وهذه الواقعة هي المعروفة بمذبحة بوسطن"
تقارن رضوي بين الخمسة قتلي والخمسة آلاف شخص الذين حشروا في ملعب رياضي بشيلي في مذبحة انقلاب بيونشيه,من بينهم المغني والشاعر والعازف فيكتور خارا,وقد قطعوا يده قبل اغتياله.
مع صديقتها زوجة ديبوا يعود حديث السادات من جديد,تعبر رضوي عن حالة القاهرة الصاخبة بالاحتجاجات,وتردي الأوضاع الاقتصادية وانحسار الحريات,فيكون رد صاحبتها الغريب كسياسة السادات!
"-عند تولي ذلك الرجل تصورت أنه سيكون امتداداً أصيلاً لعبد الناصر.إنه نصف أسود كما تعلمين,ولقد استبشرت بذلك خيراً!"
في عرس ترفرف عليه الروح الإفريقية,يتم الاحتفال بزواج مايكل"لماذا في  الغربة نتشبث بالجذور هكذا و نروح في كل محفل نؤكد هويتنا,وهل هو الخوف,أم الحنين,أم إنه الزهو بحكايتنا المغايرة".
قاربت علي الانتهاء من رسالتها وتترجم قصيدة لزوجها وفي نفس الوقت تنظم فاعليات مضادة للإمبريالية,في واحدة منها يتم الإعلان"سقط سايجون في يد الثوار"تشهد هزيمة أمريكا في فيتنام,ولا تنطلي عليها الدعاية الزائفة لتحسين صورة أمريكا السياسية.
يسافر لها زوجها مريد وتزدهر في قلبها زهرة الحب السحرية,يحدثها عن الوضع في مصر وعن وفاة أم كلثوم,ولا يجد في موت هذه الفنانة العظيمة سوي خوف السلطة من تكدس الجمهور في جنازتها!ورضوي تهتم بجانبها القومي.
تفاصيل المودة الصافية والتفاهم بين زوجين مثقفان يتبادلان الأفكار والتصورات عن العالم في ألفة,لوحة جميلة رسمتها رضوي لعلاقتها بزوجها,وفي متحف الفن تدور بينهما الستاؤلات حول الفن"وما يجعل الفن فناً يامريد".
يطعن مريد ورضوي في الحلم الأمريكي ويرتقبان لعنة أوديبية أقسي من التي حلت بطيبة,والعجب كل العجب لمن يطعن في أمريكا ويتغاضي عن عيوب بلاده,ففيها تضيع طاقات شباب محرومين من تعليم كتعليم أمريكا والبلادالمتقدمة,ولا يحصد في النهاية سوي لقب مزيف وعقل فارغ.
تؤثر السياسة التي انتهجها السادات في البيت المصري علي بيت رضوي,يقبض علي زوجها ويرحل خارج مصر"ورغم ثقتي التي بلغت حد الإيمان بأن الأمور لن تستمر علي ما هي عليه,فقد كنت أعرف أن الأيام القادمة فعلاً أيام صعبة".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق